«ثورة الفكر» أم «فكر الثورة»؟

غالباً ما يخلط بين المفهومين وأثرهما داخل المجتمعات

كانت الثورة الفرنسية من نماذج الثورات القليلة في التاريخ الحديث
كانت الثورة الفرنسية من نماذج الثورات القليلة في التاريخ الحديث
TT

«ثورة الفكر» أم «فكر الثورة»؟

كانت الثورة الفرنسية من نماذج الثورات القليلة في التاريخ الحديث
كانت الثورة الفرنسية من نماذج الثورات القليلة في التاريخ الحديث

«فكر الثورة» و«ثورة الفكر» هما مفهومان كثيراً ما نتعرض لهما عند تناولنا لمسيرة المجتمعات عبر التاريخ، فالمفهوم الأول مرتبط بالأساس بتغيير المنظومة المؤسسية الحاكمة في دولة ما، بينما غالباً ما يكون المفهوم الثاني مرتبطاً بتغيير بعض ثوابت المنظومة الثقافية والفكرية الحاكمة للمجتمع، إما من خلال التجديد المفاهيمي، أو إدخال مفاهيم جديدة على المجتمع لتناسب ظروفه، ومع الأسف فإننا كثيراً ما نخلط بين المفهومين وأثرهما داخل المجتمعات، بل في بعض المناسبات نولي مفهوم «فكر الثورة» الأهمية الأكبر، ونعظمه على حساب مفهوم «ثورة الفكر»، وذلك على أساس أن الثورة تغير من أدوات الحكم، بما يدفع المجتمع ليسلك درباً مختلفاً، معتقدين أنه الأثر الأقوى والأبقى في المجتمعات، ولكن العكس قد يكون صحيحاً في مناسبات كثيرة، بل الأقرب في المدى البعيد إلى الحقيقة.
ومع ما نمر به من موجات الربيع العربي، فإن البعض زادت قناعته بأن الثورات السياسية في المجتمعات والدول عبر التاريخ قد أتت بالمتغيرات السياسية المرجوة، سواء كانت إيجابية أو سلبية، خصوصاً إذا كان فكر الثورة مرتبطاً بمنظومة فكرية قادرة على مسح الطريق الذي ثارت عليه هذه المجتمعات عبر قرون من الزمان، ولكن الثابت تاريخياً - وعلى عكس ما يشاع - أن نماذج هذه الثورات في حقيقة الأمر قليلة، ففي التاريخ الحديث على سبيل المثال تبرز الثورات الفرنسية في 1789، والبلشفية 1917، والصينية 1949. وهذه الثورات كانت ثورات آيديولوجية في الأساس، كان الهدف منها ليس فقط تغيير الحكم وأدواته، واستبداله بأفراد ومؤسسات مختلفة، ولكن الهدف منها كان تغيير خريطة المجتمع ومعتقداته الفكرية والسياسية، بما جعلها تسعى لتغيير مفهوم الشرعية من الأساس، ومعه طريقة حياة هذه المجتمعات، بينما هناك نماذج من الثورات، التي تمثل الأغلبية في تقديري، كانت آثارها محدودة زمنياً ومرتبطة بتغيير أسماء الحكام دون وضع أسس ثابتة مُفعلة لمفهوم الشرعية، فهي غيرت الأنظمة السياسية ولكنها لم تغير العقيدة السياسية والثقافية والفكرية للمجتمع ذاته. ومن هنا، فشتان الفرق بين المفهومين.
وفي هذا الإطار، فإننا أمام قضية أكبر بكثير من تغيير أدوات الحكم ومؤسسات الدولة واستبدال القائمين عليها في لعبة كراس سياسية طالما سمعنا بها، بل وسئمنا نتائجها، فالأجدر في التقدير هو التركيز على مفهوم «ثورة الفكر» الذي يجب أن يسبق مفهوم الثورة بشكل عام، بل إن المجتمعات قد تستعيض به عن الثورة التي غالباً ما تكون تكلفتها السياسية والاقتصادية والإنسانية كبيرة مقارنة بالتطور الفكري الذي كثيراً ما يصحبه تغير وتطور سلوكي للمواطنين، وهنا يكون المقصود مرتبطاً بتغيير بعض الأنماط الهامة السائدة في طريقة تناول المجتمع لبعض قضاياه، خصوصاً الثقافية منها، بل والأهم أنها قد تتطرق لمنظومة الشرعية ككل داخله.
ويحضرني هنا نموذجين هامين للغاية، الأول للراهب «مارتن لوثر» في 1517، والثاني للشيخ «على عبد الرازق» في كتابه الشهير «الإسلام وأصول الحكم» 1924، وهما النموذجان اللذان سنفرد لهما مقالين مستقلين نظراً لأهمية الأول في تغيير مسيرة الغرب، والثاني في تغيير مفاهيم شرعية الحكم في العالمين العربي والإسلامي. فالأول غير مفهوم الشرعية السياسية، وممارسة العقيدة في القارة الأوروبية، وفتح المجال أمام ثورة ثقافية وفكرية وعقائدية كانت كفيلة بتغيير مسيرة القارة الأوروبية بالكامل، وإحداث ثورة اجتماعية مفاهيمية كما سنرى. أما نموذج الشيخ «على عبد الرازق»، فقد رسم بفكره واقعاً رفضت أغلبية الدول الإسلامية قبوله، وأقصد هنا تحديداً مفهوم وجوب الخلافة كأداة للحكم، بما أسس فكرياً لقبول المجتمعات الإسلامية فكرة اختفاء الخلافة واقعياً من الخريطة السياسية، وتقبل هياكل سياسية أخرى لحكم الأقطار العربية.
إن الهدف الحقيقي من وراء إعلاء مفهوم «ثورة الفكر» هنا هو العمل على التجديد الفكري بصفة عامة، سواء كان من خلال مفهوم «الثورة»، أو ما يطلق عليه في علم الاجتماع «علاج الصدمات Shock Therapy»، أي الدفع بعناصر فكرية جديدة غير مألوفة ومتعارضة مع واقع محدد، بما يدفع المثقفين ومن خلفهم المجتمع، بل ومؤسسات الدولة أيضاً، إلى مراجعة المفاهيم الفكرية للواقع على خلفية المتغيرات حتى لا يكون المجتمع في حالة ازدواجية وصراع بين مفاهيمه القابلة للتغير من ناحية، والتطور المنشود من ناحية أخرى، بما يحسم قضية الحفاظ على الهوية والتأقلم مع الحاضر، الذي كثيراً ما لا يجد الفرد مرجعية للقياس عليها في منظومته الفكرية والثقافية، بل والسياسية أيضاً، فالمجتمعات كثيراً ما تحتاج لثورة فكرية للخروج من البحيرة الفكرية الراكدة دون تغيير حدودها، والثورة الفكرية هنا لا يُقصد بها الانفصال عن ماضي الأمة وثوابتها العقائدية والثقافية والتاريخية، بل عملية تجديد أو إحلال للمفاهيم القابلة للتغيير، ولعل نموذج الشيخ على عبد الرازق في المقالة التالية سيلقي الضوء على المقصود الحقيقي بثورة الفكر.



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.