استراحة طه حسين ملهمة «دعاء الكروان» تتحول إلى متحف

شيدت في «تونة الجبل» بالمنيا في ثلاثينات القرن الماضي

استراحة طه حسين
استراحة طه حسين
TT

استراحة طه حسين ملهمة «دعاء الكروان» تتحول إلى متحف

استراحة طه حسين
استراحة طه حسين

في مكان يعود عمره إلى عام 350 قبل الميلاد، اختار عميد الأدب العربي بناء على ترشيح صديقه عالم الآثار سامي جبرة، ووكيل المجمع العلمي بالقاهرة، أن يقيم في فيلا صغيرة في منطقة نائية بقرية «تونة الجبل» بمحافظة المنيا مسقط رأسه، فكانت مصدر إلهامه لكتابة رائعته «دعاء الكروان» التي انتهى منها عام 1934.
وأخيراً، ومع الإعلان عن كشف أثري جديد لمقبرة تاريخية، أعلن د. جابر نصار، رئيس جامعة القاهرة، تحويلها إلى متحف حتى يتمكن زوار تلك المنطقة الأثرية من زيارة الاستراحة التي شهدت مولد إحدى أهم الروايات في الأدب العربي.
في عام 1931 تعاون طه حسين أثناء عمادته لكلية الآداب بجامعة القاهرة مع سامي جبرة ودعمه للكشف عن آثار الأشمونيين ومنها مدينة كاملة المعالم، بالإضافة إلى كثير من النقوش والبرديات والوثائق باللغة الهيروغليفية والديموطيقية، وكان دائماً يصطحب سامي جبرة طه حسين ويضيئان الشموع في مقبرة «إيزادورا»، وهي فتاة جميلة لقيت مصرعها غرقاً أثناء عبورها ضفة النيل للقاء حبيبها الضابط بالجيش.
ويبدو أنه استكان للمنطقة النائية وأقام بها لفترة أوحت له بحبكة القصة عن الحب والثأر والغدر والانتقام. وتقع الاستراحة في طابقين تحيط بها حديقة صغيرة ولها سور وبوابة خشبية، وعلى الأرجح أقام بها حسين على فترات متقطعة بين الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. ورغم بساطة طرازها المعماري فإن الناظر إليها سيشعر أنها محاطة بهالة من الغموض والهيبة تليق بعميد الأدب العربي الذي استطاع أن يتولى منصب وزير المعارف وأجرى إصلاحات كبيرة في التعليم المصري، بل ولا يزال كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» مرجعاً لمثقفيها وكتابها.
لم تكشف جامعة القاهرة عن مكونات أو مقتنيات المتحف، ولكن مجرد الإعلان عن تحويلها لمتحف أمر محمود، وإن كانت هي بالفعل مزاراً سياحياً بحكم توسطها منطقة أثرية من أهم المناطق بمصر.
تقول المرشدة السياحية الزهراء عوض، لـ«الشرق الأوسط»: «عادة ما نصطحب المصريين والأجانب لزيارة مقبرة إيزادورا، وأثناء مرورنا للمقبرة تستوقفنا استراحة عميد الأدب العربي، وحينما أشرح لهم كيف أنه كان ضريراً واستطاع تولي منصب عمادة كلية الآداب في القاهرة وفي الإسكندرية، وغير كتاباته، فيثير الأمر اهتمامهم ويرغبون في زيارة تلك الاستراحة التي تبدو مهملة ومهجورة، مما كان يثير استياء السياح من إهمالها». وحول تسمية «تونة الجبل» تشير إلى أن كلمة «تونة»، هي تحريف لكلمة تطور نطقها عبر عدة لغات، حيث كانت تُلقب المنطقة بالبحيرة أو «تاحتي»، في اللغة المصرية القديمة، وأصبحت في اليونانية «تاونس»، ثم «تونة» في اللغة العربية، وأضيف إليها كلمة الجبل لكونها في منطقة صحراوية.
ولعل روعة «دعاء الكروان» وأهميتها لا تكمن فقط في قيمتها الأدبية كرواية، وإنما كونها تشير إلى واقع الأدب المصري والأدباء المصريين في ذاك الوقت وسموهم وارتقائهم الأدبي، وكيف كانت حفاوتهم بإنتاجهم واستقبالهم له. فقد كتب طه حسين في مقدمة روايته إهداءً خاصاً للعقاد، رغم ما كان بينهما من مساجلات ومعارك أدبية، وكتب العقاد رداً على حسين عقب قراءته الرواية في مجلة الرسالة: «قال صديقنا الدكتور طه حسين وهو يهدي إلينا (دعاء الكروان): أنت أقمت (للكروان) ديواناً فخماً في الشعر العربي الحديث، فهل تأذن في أن أتخذ له عشاً متواضعاً في النثر العربي الحديث، وأن أهدي إليك هذه القصة تحية خالصة من صديق مخلص). وإني لأحسب وأنا أتقبل الهدية شاكراً أن (الكروان) سيأوي إلى العش الذي سماه صديقنا متواضعاً لأنه يرتضي العش، وإن أغريناه بالدواوين. وحسبنا منه أنه يدعونا وندعوه، وأننا وإياه نلبي الدعاء».
وبدوره، كتب الشاعر اللبناني خليل مطران قصيدة مستوحاة من أجواء الرواية وأهداها لطه حسين يقول فيها: «دعاء هذا الكروان الذي... خلدته في مسمع الدهر، له صدى في القلب والفكر من... أشهى متاع القلب والفكر، لكنه مشج بترجيعه... لما جرى في ذلك القفر».
وكانت زوجة طه حسين الفرنسية سوزان قد أشارت في كتابها «معك» الذي ترجمه للعربية د. بدر الدين عرودكي، إلى حب طه حسين وعشقه لطائر الكروان، وذكرت أنه كان يقول: «ها هو ذا طيري العزيز الذي يملأ الفضاء بغنائه الفرح منذ بدأت الكتابة لك. إن ذلك يغمرني بالفرح». وفي موضع آخر بالكتاب تقول: «فقد كان طه الذي أحب دوماً عصفور بلده هذا يستقبل تحيته كل مساء بفرح، ويظن أن صرخة واحدة أو خفقة جناح واحدة تجتاز السماء كلما مرْت طيور الكروان من فوقنا بسرعة. لم أكن الوحيدة التي سمعت بطريقة مختلفة هذا الكروان، الذي أوحى إلى طه بواحد من أجمل كتبه، بطريقة مختلفة». كان هنري بورنيك (Borneeque Henri)، وهو أستاذ الآداب الكلاسيكية بكلية الآداب بجامعة ليل الفرنسية، قد أراد التعرف على طه الذي كان عاجزاً عن الحركة، فجاء لرؤيته وتحدثَا وقتاً طويلاً، وهذه هي السطور الأخيرة من مقال كتبه بعد هذا اللقاء: «ها أنا ذا من جديد على الدرب القصير الهادئ، حيث تغني الجداجد تحت أقواس الأشجار المغلقة... وأعيد التفكير في النهاية المؤثرة لـ(دعاء الكروان) وقيمتها الصوفية في نظر النفوس الكبيرة: أليس من العجب أن يكون هذا الضوء الذي أخذ يغمرنا شراً من الظلمة التي خرجنا منها؟ إن أحدنا لن يستطيع أن يهتدي في هذا الضوء إلا إذا قاده صاحبه».
تحولت الرواية إلى واحدة من روائع السينما المصرية؛ فيلم «دعاء الكروان» لهنري بركات الذي أنتج عام 1959. فقد كان طه حسين صاحب رؤية وبصيرة استشرف فيها مستقبل الأدب وعلاقته بالسينما، فقد قال في إحدى ندواته بالجامعة الأميركية بالقاهرة في خمسينات القرن الماضي ينقل وديع فلسطين عنه قوله إن «السينما والمسرح في حاجة إلى الانتفاع بالأدب الذي ينتجه الأدباء المعاصرون».
وفي لقاء مصور مع المخرج هنري بركات، كشف فيه: «كان فريد الأطرش يود تمثيل الرواية وأرسل بها إلي، حينما قرأتها انتابني الخوف من تحويلها لفيلم، لخوفي من عدم تقبل الجمهور لأجوائها... ولكن بعد استحسان الجمهور لفيلم (حسن ونعيمة) تحمست لها، وعرضت الفكرة على طه حسين، فقال: (الرواية ليست فيها صور، أنت تعلم أنني لا يمكنني كتابة الصور ببراعة)». فرد بركات: «على العكس، الرواية مليئة بالصور».
ورغم أن الفيلم طرح نهاية مغايرة للرواية الأصلية لطه حسين، فإنه حقق نجاحاً كبيراً، وكان اختيار نهاية الفيلم بناء على موافقة د. مؤنس طه حسين، الذي قال لطه حسين إن تلك النهاية تتوافق مع ميول الجماهير. فقد اختار هنري بركات أن ينتصر الخير دائماً على الشر وأن كل ظالم يجب أن يلقى مصيره، وأن يلقى المهندس الشاب مصرعه على يد الخال الذي قتل هنادي أيضاً، على عكس النهاية المثيرة التي كتبها طه حسين، فهي نهاية تنتصر للحب على مشاعر الانتقام، فقد تسامت «آمنة» على مشاعر الانتقام من المهندس الذي أغوى شقيقتها وقتلت على يد خالها في ذلك الفضاء العريض بسببه، وغلبها الحب فعاشت معه.
من الرائع فعلاً أن تتحول بيوت الأدباء والمبدعين والفنانين التشكيليين لمزارات ومتاحف تخلد أسماءهم وتلهم الأجيال الجديدة، ويمكن من خلالها تقفي أثرهم الأدبي والظروف الاجتماعية الثقافية التي أثرت في مسيرتهم الإبداعية، ففي الجيزة يوجد متحف «رامتان»، وهو منزل طه حسين بالهرم، الذي تحول لمتحف له دور ثقافي ملموس. وفي الإسكندرية يمكن زيارة تمثاله الواقع أمام مقر رئاسة الجامعة، حيث تولى تأسيسها ورئاستها عام 1942. جدير بالذكر أن عميد الأدب العربي وُلِد في نوفمبر (تشرين الثاني) 1889 بقرية «الكيلو» بمحافظة المنيا. فقد بصره في الرابعة من عمره إثر إصابته بالرمد، لكنَّ ذلك لم يثنِ والده عن إلحاقه بكُتَّاب القرية. وتابع مسيرته الدراسية بخطوات واسعة، حيث التحق بالتعليم الأزهري، ثم كان أول المنتسبين للجامعة المصرية سنة 1908، وحصل على درجة الدكتوراه سنة 1914، لتبدأ أولى معاركه مع الفكر التقليدي، حيث أثارت أطروحته «ذكرى أبي العلاء» موجة عالية من الانتقاد. ثم أوفدته الجامعة المصرية إلى فرنسا، وهناك أعد أطروحة الدكتوراه الثانية: «الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون»، واجتاز دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني. وكان لزواجه بالسيدة الفرنسية سوزان بريسو عظيم الأثر في مسيرته العلمية والأدبية، حيث قامت له بدور القارئ، كما كانت الرفيقة المخلصة التي دعمته وشجعته على العطاء والمثابرة، وقد رُزقا اثنين من الأبناء؛ أمينة ومؤنس.
وبعد عودته من فرنسا، عمل أستاذاً للتاريخ اليوناني والروماني بالجامعة المصرية، ثم أستاذاً لتاريخ الأدب العربي بكلية الآداب، ثم عميداً للكلية. وفي 1942م عُين مستشاراً لوزير المعارف، ثم مديراً لجامعة الإسكندرية. وفي 1950 أصبح وزيراً للمعارف، وقاد الدعوة لمجانية التعليم وإلزاميته، وكان له الفضل في تأسيس عدد من الجامعات المصرية. وفي 1959م عاد إلى الجامعة بصفة «أستاذ غير متفرغ»، وتسلم رئاسة تحرير جريدة «الجمهورية».
وفارق الحياة في أكتوبر (تشرين الأول) 1973 عن عمر ناهز 84 عاماً.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.