استراحة طه حسين ملهمة «دعاء الكروان» تتحول إلى متحف

شيدت في «تونة الجبل» بالمنيا في ثلاثينات القرن الماضي

استراحة طه حسين
استراحة طه حسين
TT

استراحة طه حسين ملهمة «دعاء الكروان» تتحول إلى متحف

استراحة طه حسين
استراحة طه حسين

في مكان يعود عمره إلى عام 350 قبل الميلاد، اختار عميد الأدب العربي بناء على ترشيح صديقه عالم الآثار سامي جبرة، ووكيل المجمع العلمي بالقاهرة، أن يقيم في فيلا صغيرة في منطقة نائية بقرية «تونة الجبل» بمحافظة المنيا مسقط رأسه، فكانت مصدر إلهامه لكتابة رائعته «دعاء الكروان» التي انتهى منها عام 1934.
وأخيراً، ومع الإعلان عن كشف أثري جديد لمقبرة تاريخية، أعلن د. جابر نصار، رئيس جامعة القاهرة، تحويلها إلى متحف حتى يتمكن زوار تلك المنطقة الأثرية من زيارة الاستراحة التي شهدت مولد إحدى أهم الروايات في الأدب العربي.
في عام 1931 تعاون طه حسين أثناء عمادته لكلية الآداب بجامعة القاهرة مع سامي جبرة ودعمه للكشف عن آثار الأشمونيين ومنها مدينة كاملة المعالم، بالإضافة إلى كثير من النقوش والبرديات والوثائق باللغة الهيروغليفية والديموطيقية، وكان دائماً يصطحب سامي جبرة طه حسين ويضيئان الشموع في مقبرة «إيزادورا»، وهي فتاة جميلة لقيت مصرعها غرقاً أثناء عبورها ضفة النيل للقاء حبيبها الضابط بالجيش.
ويبدو أنه استكان للمنطقة النائية وأقام بها لفترة أوحت له بحبكة القصة عن الحب والثأر والغدر والانتقام. وتقع الاستراحة في طابقين تحيط بها حديقة صغيرة ولها سور وبوابة خشبية، وعلى الأرجح أقام بها حسين على فترات متقطعة بين الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. ورغم بساطة طرازها المعماري فإن الناظر إليها سيشعر أنها محاطة بهالة من الغموض والهيبة تليق بعميد الأدب العربي الذي استطاع أن يتولى منصب وزير المعارف وأجرى إصلاحات كبيرة في التعليم المصري، بل ولا يزال كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» مرجعاً لمثقفيها وكتابها.
لم تكشف جامعة القاهرة عن مكونات أو مقتنيات المتحف، ولكن مجرد الإعلان عن تحويلها لمتحف أمر محمود، وإن كانت هي بالفعل مزاراً سياحياً بحكم توسطها منطقة أثرية من أهم المناطق بمصر.
تقول المرشدة السياحية الزهراء عوض، لـ«الشرق الأوسط»: «عادة ما نصطحب المصريين والأجانب لزيارة مقبرة إيزادورا، وأثناء مرورنا للمقبرة تستوقفنا استراحة عميد الأدب العربي، وحينما أشرح لهم كيف أنه كان ضريراً واستطاع تولي منصب عمادة كلية الآداب في القاهرة وفي الإسكندرية، وغير كتاباته، فيثير الأمر اهتمامهم ويرغبون في زيارة تلك الاستراحة التي تبدو مهملة ومهجورة، مما كان يثير استياء السياح من إهمالها». وحول تسمية «تونة الجبل» تشير إلى أن كلمة «تونة»، هي تحريف لكلمة تطور نطقها عبر عدة لغات، حيث كانت تُلقب المنطقة بالبحيرة أو «تاحتي»، في اللغة المصرية القديمة، وأصبحت في اليونانية «تاونس»، ثم «تونة» في اللغة العربية، وأضيف إليها كلمة الجبل لكونها في منطقة صحراوية.
ولعل روعة «دعاء الكروان» وأهميتها لا تكمن فقط في قيمتها الأدبية كرواية، وإنما كونها تشير إلى واقع الأدب المصري والأدباء المصريين في ذاك الوقت وسموهم وارتقائهم الأدبي، وكيف كانت حفاوتهم بإنتاجهم واستقبالهم له. فقد كتب طه حسين في مقدمة روايته إهداءً خاصاً للعقاد، رغم ما كان بينهما من مساجلات ومعارك أدبية، وكتب العقاد رداً على حسين عقب قراءته الرواية في مجلة الرسالة: «قال صديقنا الدكتور طه حسين وهو يهدي إلينا (دعاء الكروان): أنت أقمت (للكروان) ديواناً فخماً في الشعر العربي الحديث، فهل تأذن في أن أتخذ له عشاً متواضعاً في النثر العربي الحديث، وأن أهدي إليك هذه القصة تحية خالصة من صديق مخلص). وإني لأحسب وأنا أتقبل الهدية شاكراً أن (الكروان) سيأوي إلى العش الذي سماه صديقنا متواضعاً لأنه يرتضي العش، وإن أغريناه بالدواوين. وحسبنا منه أنه يدعونا وندعوه، وأننا وإياه نلبي الدعاء».
وبدوره، كتب الشاعر اللبناني خليل مطران قصيدة مستوحاة من أجواء الرواية وأهداها لطه حسين يقول فيها: «دعاء هذا الكروان الذي... خلدته في مسمع الدهر، له صدى في القلب والفكر من... أشهى متاع القلب والفكر، لكنه مشج بترجيعه... لما جرى في ذلك القفر».
وكانت زوجة طه حسين الفرنسية سوزان قد أشارت في كتابها «معك» الذي ترجمه للعربية د. بدر الدين عرودكي، إلى حب طه حسين وعشقه لطائر الكروان، وذكرت أنه كان يقول: «ها هو ذا طيري العزيز الذي يملأ الفضاء بغنائه الفرح منذ بدأت الكتابة لك. إن ذلك يغمرني بالفرح». وفي موضع آخر بالكتاب تقول: «فقد كان طه الذي أحب دوماً عصفور بلده هذا يستقبل تحيته كل مساء بفرح، ويظن أن صرخة واحدة أو خفقة جناح واحدة تجتاز السماء كلما مرْت طيور الكروان من فوقنا بسرعة. لم أكن الوحيدة التي سمعت بطريقة مختلفة هذا الكروان، الذي أوحى إلى طه بواحد من أجمل كتبه، بطريقة مختلفة». كان هنري بورنيك (Borneeque Henri)، وهو أستاذ الآداب الكلاسيكية بكلية الآداب بجامعة ليل الفرنسية، قد أراد التعرف على طه الذي كان عاجزاً عن الحركة، فجاء لرؤيته وتحدثَا وقتاً طويلاً، وهذه هي السطور الأخيرة من مقال كتبه بعد هذا اللقاء: «ها أنا ذا من جديد على الدرب القصير الهادئ، حيث تغني الجداجد تحت أقواس الأشجار المغلقة... وأعيد التفكير في النهاية المؤثرة لـ(دعاء الكروان) وقيمتها الصوفية في نظر النفوس الكبيرة: أليس من العجب أن يكون هذا الضوء الذي أخذ يغمرنا شراً من الظلمة التي خرجنا منها؟ إن أحدنا لن يستطيع أن يهتدي في هذا الضوء إلا إذا قاده صاحبه».
تحولت الرواية إلى واحدة من روائع السينما المصرية؛ فيلم «دعاء الكروان» لهنري بركات الذي أنتج عام 1959. فقد كان طه حسين صاحب رؤية وبصيرة استشرف فيها مستقبل الأدب وعلاقته بالسينما، فقد قال في إحدى ندواته بالجامعة الأميركية بالقاهرة في خمسينات القرن الماضي ينقل وديع فلسطين عنه قوله إن «السينما والمسرح في حاجة إلى الانتفاع بالأدب الذي ينتجه الأدباء المعاصرون».
وفي لقاء مصور مع المخرج هنري بركات، كشف فيه: «كان فريد الأطرش يود تمثيل الرواية وأرسل بها إلي، حينما قرأتها انتابني الخوف من تحويلها لفيلم، لخوفي من عدم تقبل الجمهور لأجوائها... ولكن بعد استحسان الجمهور لفيلم (حسن ونعيمة) تحمست لها، وعرضت الفكرة على طه حسين، فقال: (الرواية ليست فيها صور، أنت تعلم أنني لا يمكنني كتابة الصور ببراعة)». فرد بركات: «على العكس، الرواية مليئة بالصور».
ورغم أن الفيلم طرح نهاية مغايرة للرواية الأصلية لطه حسين، فإنه حقق نجاحاً كبيراً، وكان اختيار نهاية الفيلم بناء على موافقة د. مؤنس طه حسين، الذي قال لطه حسين إن تلك النهاية تتوافق مع ميول الجماهير. فقد اختار هنري بركات أن ينتصر الخير دائماً على الشر وأن كل ظالم يجب أن يلقى مصيره، وأن يلقى المهندس الشاب مصرعه على يد الخال الذي قتل هنادي أيضاً، على عكس النهاية المثيرة التي كتبها طه حسين، فهي نهاية تنتصر للحب على مشاعر الانتقام، فقد تسامت «آمنة» على مشاعر الانتقام من المهندس الذي أغوى شقيقتها وقتلت على يد خالها في ذلك الفضاء العريض بسببه، وغلبها الحب فعاشت معه.
من الرائع فعلاً أن تتحول بيوت الأدباء والمبدعين والفنانين التشكيليين لمزارات ومتاحف تخلد أسماءهم وتلهم الأجيال الجديدة، ويمكن من خلالها تقفي أثرهم الأدبي والظروف الاجتماعية الثقافية التي أثرت في مسيرتهم الإبداعية، ففي الجيزة يوجد متحف «رامتان»، وهو منزل طه حسين بالهرم، الذي تحول لمتحف له دور ثقافي ملموس. وفي الإسكندرية يمكن زيارة تمثاله الواقع أمام مقر رئاسة الجامعة، حيث تولى تأسيسها ورئاستها عام 1942. جدير بالذكر أن عميد الأدب العربي وُلِد في نوفمبر (تشرين الثاني) 1889 بقرية «الكيلو» بمحافظة المنيا. فقد بصره في الرابعة من عمره إثر إصابته بالرمد، لكنَّ ذلك لم يثنِ والده عن إلحاقه بكُتَّاب القرية. وتابع مسيرته الدراسية بخطوات واسعة، حيث التحق بالتعليم الأزهري، ثم كان أول المنتسبين للجامعة المصرية سنة 1908، وحصل على درجة الدكتوراه سنة 1914، لتبدأ أولى معاركه مع الفكر التقليدي، حيث أثارت أطروحته «ذكرى أبي العلاء» موجة عالية من الانتقاد. ثم أوفدته الجامعة المصرية إلى فرنسا، وهناك أعد أطروحة الدكتوراه الثانية: «الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون»، واجتاز دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني. وكان لزواجه بالسيدة الفرنسية سوزان بريسو عظيم الأثر في مسيرته العلمية والأدبية، حيث قامت له بدور القارئ، كما كانت الرفيقة المخلصة التي دعمته وشجعته على العطاء والمثابرة، وقد رُزقا اثنين من الأبناء؛ أمينة ومؤنس.
وبعد عودته من فرنسا، عمل أستاذاً للتاريخ اليوناني والروماني بالجامعة المصرية، ثم أستاذاً لتاريخ الأدب العربي بكلية الآداب، ثم عميداً للكلية. وفي 1942م عُين مستشاراً لوزير المعارف، ثم مديراً لجامعة الإسكندرية. وفي 1950 أصبح وزيراً للمعارف، وقاد الدعوة لمجانية التعليم وإلزاميته، وكان له الفضل في تأسيس عدد من الجامعات المصرية. وفي 1959م عاد إلى الجامعة بصفة «أستاذ غير متفرغ»، وتسلم رئاسة تحرير جريدة «الجمهورية».
وفارق الحياة في أكتوبر (تشرين الأول) 1973 عن عمر ناهز 84 عاماً.



رحيل إبراهيم أبو سنة... شاعر الرومانسية العذبة

الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
TT

رحيل إبراهيم أبو سنة... شاعر الرومانسية العذبة

الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة

حياة حافلة بالعطاء الأدبي، عاشها الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة الذي غيّبه الموت صباح أمس عن عمر يناهز 87 عاماً بعد معاناة طويلة مع المرض.

ويعد أبو سنة أحد رموز جيل شعراء الستينات في مصر، واشتهر بحسه الرومانسي شديد العذوبة، وغزلياته التي تمزج بين الطبيعة والمرأة في فضاء فني يتسم بالرهافة والسيولة الوجدانية. كما تميزت لغته الشعرية بنبرة خافتة، نأت قصائده عن المعاني الصريحة أو التشبيهات المباشرة؛ ما منح أسلوبه مذاقاً خاصاً على مدار تجربته الشعرية التي اتسعت لنصف قرن.

ترك أبو سنة حصاداً ثرياً تشكل في سياقات فنية وجمالية متنوعة عبر 12 ديواناً شعرياً، إضافة إلى مسرحيتين شعريتين، ومن أبرز دواوينه الشعرية: «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» 1965، و«أجراس المساء» 1975، و«رماد الأسئلة الخضراء» 1985، و«شجر الكلام» 1990.

عاش صاحب «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» طفولة قروية متقشفة تركت أثراً لافتاً في شعره؛ إذ ظل مشدوداً دائماً إلى بداهة الفطرة وواقعية الحياة وبساطتها.

وبحسب الموقع الرسمي للهيئة المصرية العامة للاستعلامات، وُلد أبو سنة بقرية الودي بمركز الصف بمحافظة الجيزة في 15/3/1937، وحصل على ليسانس كلية الدراسات العربية بجامعة الأزهر عام 1964. عمل محرراً سياسياً بالهيئة العامة للاستعلامات في الفترة من عام 1965 إلى عام 1975، ثم مقدم برامج ثقافية بالإذاعة المصرية عام 1976 من خلال «إذاعة البرنامج الثاني»، كما شغل منصب مدير عام البرنامج الثقافي، ووصل إلى منصب نائب رئيس الإذاعة.

وحصد الراحل العديد من الجوائز منها: «جائزة الدولة التشجيعية» 1984 عن ديوانه «البحر موعدنا»، وجائزة «كفافيس» 1990 عن ديوانه «رماد الأسئلة الخضراء»، وجائزة أحسن ديوان مصري في عام 1993، وجائزة «أندلسية للثقافة والعلوم»، عن ديوانه «رقصات نيلية» 1997، فضلاً عن «جائزة النيل» في الآداب التي حصدها العام الجاري.

ونعى الراحل العديد من مثقفي مصر والعالم العربي عبر صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي، ومنهم الشاعر شعبان يوسف الذي علق قائلاً: «وداعاً الشاعر والمبدع والمثقف الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، كنتَ خيرَ سفيرٍ للنبلِ والجمالِ والرقةِ في جمهورية الشعر».

وقال الشاعر سمير درويش: «تقاطعات كثيرة حدثت بين الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة وبيني، منذ بداياتي الأولى، فإلى جانب أنه صوت شعري صافٍ له تجربة طويلة وممتدة كان لي شرف الكتابة عنها وعنه، فهو إنسان حقيقي وجميل وطيب ومحب للآخرين، ولا يدخر وسعاً في مساعدتهم».

ويضيف درويش: «حين كان يقرأ الشعر بصوته في برنامجه الإذاعي، كنت أحب القصائد أكثر، فمخارج الحروف وإشباعها وتشكيلها، وليونة النطق، إلى جانب استعذاب الشعر... كلها مواصفات ميزته، كما ميزت فاروق شوشة والدكتور عبد القادر القط... ثمة ذكريات كثيرة لن أنساها يا أستاذنا الكبير، أعدك أنني سأكتبها كلما حانت فرصة، وعزائي أنك كنتَ تعرف أنني أحبك».

ويستعيد الكاتب والناقد الدكتور زين عبد الهادي ذكرياته الأولى مع الشاعر الراحل وكيف أحدث بيت شعري له تغييراً مصيرياً في حياته، قائلاً: «ربما في سن المراهقة كنت أقرأ الشعر حين وقع في يدي ديوان صغير بعنوان (قلبي وغازلة الثوب الأزرق) لمحمد إبراهيم أبو سنة حين قررت الهجرة خارج مصر عام 1981، كان الديوان الصغير وروايات (البلدة الأخرى) لإبراهيم عبد المجيد، و(البيضاء) ليوسف إدريس، و(حافة الليل) لأمين ريان، و(ميرامار) لنجيب محفوظ... هي شهود انتماءاتي الفكرية وما أتذكره في حقيبتي الجلدية».

ويضيف عبد الهادي: «كان الغريب في هؤلاء الشهود هو ديوان محمد إبراهيم أبو سنة، فبقدر حبي للعلم كان الأدب رحيق روحي، كنت أقرأ الديوان وأتعلم كيف يعبّر الشعر عن الحياة المعاصرة، إلى أن وصلت لقصيدة رمزية كان بها بيت لا أنساه يقول: (البلاد التي يغيب عنها القمر)، في إشارة لقضية ما أثارت جدلاً طويلاً وما زالت في حياتنا المعاصرة، كان هذا البيت أحد أهم دوافع عودتي من الغربة، فمهما كان في بلادي من بؤس فهو لا يساوي أبداً بؤس الهجرة والتخلي عن الهوية والجذور».

أما الشاعر سامح محجوب مدير «بيت الشعر العربي» بالقاهرة فيقول: «قبل 25 عاماً أو يزيد، التقيت محمد إبراهيم أبو سنة في مدرجات كلية (دار العلوم) بجامعة القاهرة، وأهداني وقتها أو بعدها بقليل ديوانه المهم (قلبي وغازلة الثوب الأزرق)، لأبحث بعد ذلك عن دواوينه الأخرى وأقتني معظمها (مرايا النهار البعيد، والصراخ في الآبار القديمة، ورماد الأسئلة الخضراء، ورقصات نيلية، وموسيقى الأحلام)، وغيرها من الدواوين التي قطع فيها أبو سنة وجيله من الستينيين في مصر والوطن العربي مسافة معقولة في توطين وتوطئة النص التفعيلي على الخط الرأسي لتطور الشعرية العربية التي ستفقد برحيله أحد أكبر مصباتها».

ويضيف: «يتميز نص أبو سنة بقدرته الفائقة على فتح نوافذ واسعة على شعرية طازجة لغةً ومجازاً ومخيلةً وإيقاعاً، وذلك دون أن يفقد ولو للحظة واحدة امتداداته البعيدة في التراث الشعري للقصيدة العربية بمرتكزاتها الكلاسيكية خاصة في ميلها الفطري للغناء والإنشادية. وهنا لا بد أن أقرّ أن أبو سنة هو أجمل وأعذب مَن سمعته يقول الشعر أو ينشده لغيره في برنامجه الإذاعي الأشهر (ألوان من الشعر) بإذاعة (البرنامج الثاني الثقافي) التي ترأسها في أواخر تسعينات القرن المنصرم قبل أن يحال للتقاعد نائباً لرئيس الإذاعة المصرية في بداية الألفية الثالثة؛ الفترة التي التحقت فيها أنا بالعمل في التلفزيون المصري حيث كان مكتب أبو سنة بالدور الخامس هو جنتي التي كنت أفيء إليها عندما يشتد عليّ مفارقات العمل. كان أبو سنة يستقبلني بأبوية ومحبة غامرتين سأظل مديناً لهما طيلة حياتي. سأفتقدك كثيراً أيها المعلم الكبير، وعزائي الوحيد هو أن (بيت الشعر العربي) كان له شرف ترشيحك العام الماضي لنيل جائزة النيل؛ كبرى الجوائز المصرية والعربية في الآداب».

عاش صاحب «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» طفولة قروية متقشفة تركت أثراً لافتاً في شعره

وفي لمسة احتفاء بمنجزه الشعري استعاد كثيرون قصيدة «البحر موعدنا» لأبو سنة التي تعد بمثابة «نصه الأيقوني» الأبرز، والتي يقول فيها:

«البحرُ موعِدُنا

وشاطئُنا العواصف

جازف

فقد بَعُد القريب

ومات من ترجُوه

واشتدَّ المُخالف

لن يرحم الموجُ الجبان

ولن ينال الأمن خائف

القلب تسكنه المواويل الحزينة

والمدائن للصيارف

خلت الأماكن للقطيعة

من تُعادي أو تُحالف؟

جازف

ولا تأمن لهذا الليل أن يمضي

ولا أن يُصلح الأشياء تالف

هذا طريق البحر

لا يُفضي لغير البحر

والمجهول قد يخفى لعارف

جازف

فإن سُدَّت جميع طرائق الدُّنيا أمامك

فاقتحمها

لا تقف

كي لا تموت وأنت واقف».