المسألة الاجتماعية ومجابهة الإرهاب والأصولية في وثيقة {ترقي الشعوب}

مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
TT

المسألة الاجتماعية ومجابهة الإرهاب والأصولية في وثيقة {ترقي الشعوب}

مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)
مع ظهور {داعش} توالى تفريخ المتطرفين والذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة للانتشار والتمدد («الشرق الأوسط»)

في مثل هذا التوقيت منذ خمسين عاما، وتحديدا في صيف عام 1967 صدرت عن الكرسي الرسولي في حاضرة الفاتيكان وثيقة تسمى «ترقي الشعوب»populorum progressio واعتمدها البابا بولس السادس. ولعل ما يدعونا لإعادة قراءة هذه الوثيقة في هذا التوقيت، هو أن ما جاء بها لو انتبه إليه أصحاب القرار وصناع الأفكار حول العالم في ذلك الوقت، لربما كانت الفرصة قد تجاوزت أفكار الإرهاب والأصولية التي يعانيها عالمنا المعاصر، والتي هي نتاج بصورة جذرية في جانب كبير منها لمسائل اجتماعية تم تجاوزها، وبات على شعوب العالم دفع أكلاف إصلاحها وهي عالية وغالية جدا لو يعلمون.

ضرب من الضروب التي دعت الإرهاب لأن يجد له مسارب إلى النفوس يتصل اتصالا حقيقيا بغياب العدالة الاجتماعية لا سيما لدى الشعوب التي تجهد للتملص من براثن الجوع والبؤس, وسطوة الأمراض السارية، وتنشد المزيد من الاشتراك في الحضارة, وتقيما أوفر إيجابية لصفاتها الإنسانية.
وقت كتابة هذه الوثيقة لم تكن قضية الإرهاب تشغل تفكير العالم، بل الحرب الباردة الدائرة بين المعسكرين الشرقي والغربي, والتي كانت في أوج احتدامها، ومع ذلك يجد من يطالع الوثيقة أن أسباب نشوء وارتقاء الأصولية التي تقود للعنف القاتل كامنة في سطورها.
ينشأ الإرهاب من تجريد الإنسان من كثير من صفاته الإنسانية، الأمر الذي يدفعه دفعا إلى دائرة الانتقام الفتاك، سيما أن المعادل الموضوعي للحياة عنده يضحى الموت, ولهذا ترى الوثيقة أن ما يطمح إليه الناس في يومنا هذا هو أن يتحرروا من ربقة البؤس, ويحصلوا بوجه أضمن على أسباب المعيشة والصحة والعمل المستقر, وأن يصيبوا من العلم نصيبا أكبر.
تختصر الوثيقة هذه الجزئية في القول: إن البشر كافة مدعوون لأن يعملوا أكثر ويعرفوا أكثر ويملكوا أكثر، كي يكونوا أكثر إنسانية.
يتسرب الإرهاب إلى النفوس، عندما تجد شعوب بأكملها وطغمات من الشباب بعينها، أنه محكوم عليها بالحياة في أوضاع تحيل هذه المطامح سرابا، هكذا تقول سطور الوثيقة، وبخاصة عند الشعوب الحديثة العهد بالاستقلال القومي، والتي تشعر إلى جانب هذه الحرية السياسية المكتسبة بأهمية الاقتصاد، لكي تكفل لمواطنيها تفتحهم الإنساني الكامل فيعيشون ضمن شعوب الأرض في الموقع والموضع الذي يمثلهم.
يعن لنا هنا أن نتساءل... إلى أي حدود كان الظلم الاجتماعي لدول العالم الثالث مدعاة لظهور الأصوليات واشتداد عود الإرهاب؟
قطعا أن تلك الشعوب التي تحدثنا عنها الوثيقة، لم تجد لحياتها معنى في ظل الاحتلال العسكري بداية، والرأسمالي الاقتصادي تاليا، ولهذا هربت إلى الماضي السحيق تستجير به، من ظلم الواقع, وفيما البعض منها قبل بالانكسار النفسي والأدبي تحت الضغوط، فإن آخرين اتخذوا العنف المسلح طريقا تتساوى فيه أسباب الحياة مع دوافع الموت، وكان الإرهاب بثوبه الأسود الذي يخيم على عالمنا اليوم.
الرؤية التفكيكية لوثيقة «ترقي الشعوب» تفاجئنا بأنه كانت هناك مصارحة ومكاشفة فاتيكانية للعالم قبل نحو خمسة عقود، بشأن الدور الذي لعبه الاستعمار والدول المستعمرة في مسيرة الشعوب التي تتهم اليوم من قبل الحواضر الغربية بأنها: «معين مورد للإرهاب».
تقر الوثيقة بأن الدول المستعمرة كان مطلبها في الغالب مصلحتها وسيادتها وعظمتها، وقد كان ذهابها دفعة واحدة قد خلق وراءه أحيانا وضعا اقتصاديا سريع العطب هذا الوضع لا نغالي إن قلنا إنه خلق أوضاعا مزرية من الفقر المادي، ومن الكراهية للآخر.
هنا فإن المستعمر تحديدا أعطى للعنف والإرهاب وروح الانتقام ذرائع تكاد تكون نبيلة في عيون أصحابها، ولعل هذا ما نراه في أوروبا اليوم بنوع خاص، من أبناء القارة الأفريقية، أو بعض من الأجيال الجديدة لمواطني دول شمال غربي أفريقيا، أي دول المغرب العربي تحديدا، ما يفسر بدرجة أو بأخرى, مسارات الإرهاب في فرنسا أو بلجيكا وإن كان لا يبرره بحال من الأحوال.
على أن البعض يرد بأن هناك إرهابا وعنفا متوالدا لدى أجيال أو شعوب لا تعيش أزمات اقتصادية أو تعاني فاقة الجوع أو تكابد شظف العيش، وهي مقولات حديثة، ومن المثير أن الوثيقة تنبهت لهذا المشهد مبكرا جدا، ولهذا أشارت إلى أن مسألة الترقي لا تخص مجرد النمو الاقتصادي، فلكي يكون صحيحا يجب أن يكون كاملا، أي أن يشمل كل إنسان، والإنسان كله، والمعنى هنا هو أنه لا تسليم بالفصل بين الاقتصادي والإنساني، ولا بين النماء والحضارات، فهو من شروطها فالذي تحتفل به الوثيقة ومن وراءها هو الإنسان، كل إنسان وكل جماعة من الناس، إلى الإنسانية كلها جمعاء.
يعني ما تقدم أن الوفرة الاقتصادية لدى البعض، قد واكبها قصور شديد في البناء الروحي والاجتماعي, الثقافي والفكري، ولهذا ظهر العنف وطفا الإرهاب على السطح كتوابع لا مناص منها لاختلالات هيكلية في البنية الإنسانية.
قبل نحو خمسين عاما, تناولت الوثيقة إشكالية الرأسمالية التي أضحت متوحشة، والتي دمرت سلم القيم الإنسانية، وفتحت الأبواب واسعة لدعوات الإقصاء والعزل، الإبعاد والأنانية، وهذه بدورها كانت مرتعا لكل من آمن بأن العودة إلى الأصول، هي الطريق الأصوب لملاقاة غوائل المستقبل، ثم من الراديكالية التي أعادت تجذير حضورها، ليشتعل العالم نارا ودمارا من جديد.
في هذا الإطار كان بولس السادس الحبر الروماني الأعظم يرى أن النمو الفردي والجماعي يمسي في خطر إذا فسدت من القيم سلمها الحقيقي، فلا جرم أن ابتغاء ما هو ضروري أمر مشروع، وأن العمل على بلوغه أمر واجب لأن الذي لا يريد أن يعمل لا يأكل أيضا، إلا أن التكالب على متاع الدنيا قد يقود إلى الجشع، وإلى شهوة المزيد من القدرة, كما أن البخل في الأفراد والأسر يولد على الصعيد الآخر أنانية أخرى مستترة.
مثيرة جدا للمتأمل سطور الوثيقة، وكأنها كانت تقرأ مآلات العالم الحديث، والعالمين العربي والإسلامي بنوع خاص رسميا عندما تتناول إشكاليتي العنف والثورة... ماذا عن الأمر؟ أدرك كتاب «ترقي الشعوب» أن الظلم الاجتماعي لا بد أن يولد انفجارات لا قبل للبشرية بها, ولا طائل من ورائها، إذا ما باتت الملايين من البشر في أوضاع الألم والمرض والجوع والخوف والفقر، ولاحظ هنا كيف أن البون بين تقدم البعض وركود البعض الآخر بل تقهقرهم، في تزايد مستمر.
وفي هذا الإطار يظهر العنف أولا والثورات تشيع ثانية... أما العنف، الدالة والتابع والأداة المفضلة للإرهاب فيحدث بسبب الأوضاع التي يصرخ جورها في أذن السماء وعندما تكون شعوب بأكملها خالية الوفاض من كل مبادرة ومسؤولية، ومن كل إمكانية ترقٍ ثقافي واشتراك في الحياة الاجتماعية والسياسية فإن خطر الانزلاق في العنف يضحى الرد الطبيعي أمام مثل هذه الغضاضة اللاحقة بالكرامة الإنسانية, يكون كبيراً...
هل تلقى هذه الكلمات صدى لا سيما تجاه العنف الحادث في أوروبا بنوع خاص، أو فيما خص الحوادث الإرهابية الكبرى التي جرت بها المقادير في الولايات المتحدة الأميركية على وجه العموم؟
فيما الثورة أو الثورات، وحالات العصيان الثوري - إلا في حال الطغيان الراهن المتمادي، الذي يسيء إلى حقوق الشخص الأساسية إساءة خطيرة، وتنجم عنه أضرار خطيرة للبلاد - فإنها تجر معها مظالم جديدة، وتدخل أنواعاً جديدة من عدم التوازن، وتراكم الخراب فوق الخراب، ذلك أنه لا يجوز قمع الشر الراهن بما يؤول إلى شر أقدح.
المنطوق السابق يجعلنا نتأمل حال العالم العربي في السنوات الست الماضية، والتي أعقبت ما أطلق عليه «الربيع العربي»، فقد عاشت بلادنا ثورات تاريخية، لا ثورات ديمقراطية، والتوصيف هنا لثعلب السياسة الخارجية الأميركي هنري كيسنجر، فالأولى لا تجر إلا الخراب ولا ينتج عنها إلا المزيد من العنف، وتوالي تفريخ المتطرفين وأصحاب الطرق غير السلمية، الذين يؤمنون بالعنف كمنهج حياة، فيما الثورات الديمقراطية فهي التي تعطي نتائج إيجابية تنعكس برداً وسلاماً على مواطني بلدانها حول العالم.
الوثيقة رغم مضي عشرات السنين عليها، لم تقف مكتوفة الأيدي عند تشخيص الأمراض الاجتماعية، بل ذهبت في طريق الإصلاح، ولهذا ارتأت وقتها - وكم بات البون شاسعاً والعلاج مكلفاً اليوم - أن الأوضاع الحاضرة يجب أن تواجه بجرأة، والمظالم التي تصحبها يجب أن تقاوم وأن تقهر، فالترقي يقتضي تحولات جريئة، وأن من الإصلاحات العاجلة ما يجب الشروع به من دون أدنى تأخير وعلى كل إنسان إذن أن يقوم بقسطه بسخاء، ولا سيما الذين، بثقافتهم ومكانتهم وسلطانهم تتوافر لهم إمكانيات كبيرة للعمل، ليكونوا مثالاً ببذلهم مما لهم.
لكن «ترقي الشعوب» وإغلاق مياذيب الكراهية، وسد متاريس الإرهاب، وإنهاء زمن الأصوليات، جميعها أمور في حاجة ماسة لتخطيط ومنهج، ومن هنا فإنه لا قبل للمبادرة الفردية وحدها - تنص الوثيقة - ولا لعبة المنافسة وحدها بأن تكفلا نجاح الرقي. ولا ينبغي التعرض لخطر المزيد من ثراء الأثرياء وقوة الأقوياء بتكريس بؤس الفقراء، وتمكين عبودية المرهقين.
من أجل ذلك لا بد من مناهج من شأنها أن «تشجع وتحفز، وتعاطف وتسند وتكمل»، عمل الأفراد والهيئات المتوسطة، وعلى السلطات العامة أن تختار، بل أن تفرض، الأغراض التي يجب استهدافها، والغايات التي يجب بلوغها، والوسائل التي توصل إليها.
أفضل طريق لمحاربة العنف والإرهاب اليوم، بخلاف الحلول الأمنية والعسكرية التي أثبتت التجربة التاريخية أنها قصيرة العمر، وضعتها الوثيقة، من خلال التأكيد على أن لا معنى للمزيد من الإنتاج إلا إذا كان في خدمة الإنسان، مهما كان لونه أو دينه، جنسه أو عرقه.
والغاية هنا من الإنتاج تضييق دائرة التفاوت، ومكافحة ضروب التمييز، وعتق الإنسان من عبوديات الأزمنة المعاصرة، وتمكينه من أن يكون هو نفسه العامل المسؤول عن تحسن حاله ماديا وعن ترقيه أدبياً وعن تفتحه روحياً.
أفضل بل وأنفع الطرق لمواجهة دعاوى العنصرية والكراهية، والإرهاب والأصولية، هي النماء، وعليه فإن من قال بالنماء قال بالاهتمام بالتقدم الاجتماعي، بقدر الاهتمام بالتقدم الاقتصادي، أي الاهتمام بالإنسان بوصفه جسدا وروحا وليس جسدا فقط، إذ لا يكفي أن تزيد الثروة العامة حتى تتوزع بإنصاف، ولا يكفي أن تعزز التقنية حتى تكون الأرض أكثر إنسانية للسكنى.
يمكن للمرء أن يستخلص الكثير جداً، النافع والمفيد من هذه الوثيقة التي يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها، لا سيما في سياق الاستعانة بها لمجابهة طاعون عصرنا الحاضر، غير أن أفضل خلاصاتها، تتمثل في القول بأن أخطاء السلف يجب أن تحذر المحدثين من الوقوع في الأخطار التي يجب اجتنابها في هذا المجال.
ذلك بأن «تكنوقراطية» الغد قد تجر من الويلات ما لا يقل هولاً عن «ليبرالية» الأمس، والاقتصاد والتقنية لا معنى لهما إلا بالإنسان اللذين هما في خدمته، والإنسان لا يكون إنساناً حقاً إلا بمقدار ما يكون هو سيد أعماله، والحكم في قيمتها، إذ ذاك هو نفسه عامل تقدمه، وفقاً للطبيعة التي أعطاها الخالق له، ويظل هو حراً بإمكاناتها ومستلزماتها.
أفضل كلمات نختتم بها هذا العرض المختصر للغاية لهذه الوثيقة التاريخية، وفيها الخلاص من كثير من أدران العنف والإرهاب القول بأن ترقي الإنسانية الكامل، الذي يتجاوز الوحشية التي رأيناها في الأعوام القليلة الماضية، لا يمكن أن يتم من دون تضافر الإنسانية عليه...
في بومباي أوائل ستينات القرن العشرين. تحدث البابا بولس بالقول: «على الإنسان أن يلتقي بالإنسان، وعلى الأمم أن تتلاقى كالإخوة والأخوات وكأبناء لله، ففي هذا التفاهم والولاء المتبادلين وفي هذه الشركة المقدسة، يجب إذن أن نبدأ بالعمل معاً، لكي نبني مستقبل البشرية المشترك»... مستقبل لا مكان فيه حكماً للكراهية ولا الإرهاب أو الأصوليات السلبية.



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».