مركز الحرب الفكرية... وتصحيح المسار الخاطئ

الطريق الأنفع والأرفع لمواجهة التطرف والأصولية

الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في حديث مع عدد من منسوبي وزارة الدفاع («الشرق الأوسط»)
الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في حديث مع عدد من منسوبي وزارة الدفاع («الشرق الأوسط»)
TT

مركز الحرب الفكرية... وتصحيح المسار الخاطئ

الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في حديث مع عدد من منسوبي وزارة الدفاع («الشرق الأوسط»)
الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في حديث مع عدد من منسوبي وزارة الدفاع («الشرق الأوسط»)

قبل بضعة أيام انطلقت في المملكة العربية السعودية رسائل «مركز الحرب الفكرية» عبر وسائل التواصل الاجتماعي، شارحة أهدافه باللغات العالمية.
والمركز تابع لوزارة الدفاع السعودية، ويعدّ أحد أهم الإفرازات الفكرية لولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي يقود ثورة فكرية في داخل المملكة، تجلت بشكل واضح للعيان في مقابلته المتلفزة الأخيرة.
المركز الجديد، الذي يرأس الأمير محمد مجلس أمنائه، يدعمنا لطرح السؤال الرئيسي في هذه القراءة هل الإرهاب والتطرف، التشدد والأصولية في حاجة جميعها إلى وسائل عقلية وذهنية لمكافحتها، أم أن الحل الأمني هو الطريق الوحيد لإطفاء النيران المشتعلة؟

المؤكد، أن الإرهاب اليوم لم يعد تلك الخلايا العنقودية التي تنتظم في ترتيب هيراركي (هرمي) واضح المعالم، كما كان الحال في وقت ظهور تنظيم القاعدة، على سبيل المثال، فقد ألهم انتصار «داعش» في العراق قبل عامين جميع المتطرفين المختبئين في أنحاء العالم؛ مما سيزيد بالفعل من انتشار سرطان الإرهاب إلى ما وراء العراق وسوريا، ومحاولة التوغل في بقية المنطقة العربية، والعالم من ورائها.
في هذا السياق، تشتد الحاجة إلى «مركز الحرب الفكرية»، الذي يعمل على تصحيح المسار الخاطئ الذي مضى فيه العالم عبر عقدين تقريباً؛ إذ اعتبر الجميع أن المواجهات الأمنية والملاحقات الاستخباراتية للإرهابيين، كفيلة باجتثاث جذورهم، وهو ما ثبت عدم صحته؛ ذلك أن الحرب على الإرهاب بصفته فكرة مجردة ضمن تجريد الأشياء، تقع فلسفياً في نطاق القضايا الفاسدة، فأنت في حربك على الإرهاب بهذه الوسائل الأمنية والعسكرية فقط أشبه ما يكون بشن حرب على فكرة الغضب والكراهية اللتين تنميهما السياسات الخاطئة، مثل تلك التي حولت أفغانستان والعراق، والآن سوريا وليبيا إلى معامل لتفريخ الإرهابيين.
من هنا، تظهر جلياً الحاجة إلى «مركز الحرب الفكرية»، بصفته فعلاً من أفعال الاجتهاد والتجديد العقلي، فعل يقظة وحضور، وفعل حيوية وفاعلية، وفعل مبادرة ومسؤولية، يتفق مع طبيعة الإسلام العقلانية، التي تتصف بالعمومية والقابلية للتطبيق في كل زمان ومكان، وتبقى أهداف المركز ضرباً من ضروب الاجتهاد الذي يمثل وسيلة تأكيد تلك العمومية، وتفعيل تلك القابلية دائماً وأبداً؛ مما يقضي باستمراره وتجدده، في كل وقت وحين.
يبقى الإرهاب والتطرف نوعين من الباطل، ومع ذلك - ومن أسف شديد - قدّر لهما في العقود الثلاثة الماضية أن يجدا أرضية فكرية في أذهان الكثير جداً من الشباب العربي والمسلم، فهل ما جرى كان بسبب قصور عقلاني، في التواصل الفكري أدى إلى تلك الانحرافات الجسيمة، وذلك التطرف غير الخلاق؟
الشاهد، أن المشروع العالمي الذي يبسط «مركز الحرب الفكرية» لمواجهة التطرف، يقوم على ركائز فلسفية وسياسية وذهنية رائقة وراقية؛ ذلك أنه إن كان الإرهاب سلوكاً عملياً قائماً على أفكار محورية خاطئة ودفعت معتنقها إلى التطرف؟ ثم تحولت إلى عقيدة ثابتة لن تتزحزح من العقل الموبوء بها إلا مع خروج الروح من الجسد إلى بارئها، فإن المكافحة هنا لا يمكن أن تقوم أبداً عبر طلقات الرصاص للقضاء على الإرهابيين، بل عبر كشف الأخطاء والمزاعم والشبهات وأساليب الخداع التي يروج لها التطرف والإرهاب.
يعنّ لنا أن نتساءل: ما الخطأ الفكري الذي جرى في العالمين العربي والإسلامي في السنوات الماضية، وأتاح لهذا النبت الشيطاني أن يجد طريقاً إلى الحياة ليحيلها عبر دروبه السوداء إلى الموت؟
المقطوع به أن مفهومي التطرف والإرهاب نشآ في العقول ظاهرة فردية منعزلة وبعيدة كل البعد عن أي إطار تنظيمي أو سياسي في المجتمعات البدائية قبل أن يصبح أسلوب عمل جماعي منظم تتحرك قواعده وجنوده على الأرض، وتتحول إلى ظاهرة عابرة للحدود مع انتشار ثقافة العولمة؛ فتغزو أفكار التطرف العقول، متجاوزة كل الموانع والحواجز بفعل وسائل الإعلام الحديثة. على أن الإشكالية الأساسية هي أن صوت تلك الوسائل كان - ومن أسف مرة أخرى - هو الأكثر صخباً وضجيجاً ولابما سمعاً ومقدرة على اكتساب المزيد من النفوس والعقول، وربما يعزى ذلك إلى قصور في أدوات الدعوة الصحيحة والإرشاد الواعي.
في هذا الإطار، فإن مركز الحرب الفكرية، يحسن جداً أن يأخذ على عاتقه، وكما جاء في إعلان الانطلاق، أيضاً مسألة المنهج الشرعي الصحيح في قضايا التطرف والإرهاب، وتقديم مبادرات فكرية لكثير من الجهات داخل السعودية وخارجها، إضافة إلى مبادرات فكرية للتحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب وآيديولوجيا التطرف.
والشاهد، أن مبادرة «مركز الحرب الفكرية» تكتسي أهمية خاصة من حيث كونها مبادرة عالمية، تتجاوز حدود العالمين العربي والإسلامي إلى آفاق الكون الوسيع، ولا سيما أن ظاهرة الإرهاب الناجمة عن التعصب والتطرف، باتت ظاهرة عالمية، تعاني منها قارات الأرض الست، ولم تخلُ بقعة أو رقعة على الأرض، إلا وأصابتها بفيروساتها القاتلة.
يدرك القائمون على المركز أن التطرف والتعصب يولدان العنف بالضرورة، حيث إن المتعصبين لديهم قناعة راسخة بعدالة قضيتهم يتصرفون من منطلق إحساسهم بالتفوق ويقينهم الذاتي، بأنهم مختلفون عن الآخرين، ويكنّون الاحتقار لمجتمعهم الصغير والكبير.
يصف الكاتب والمفكر الأفريقي الشهير «ووسي سوينكا» المشهد العالمي اليوم بأنه بات عالماً من المتعصبين، وهو عالم واحد ويتداخل مع جميع الأديان والآيديولوجيات والطموحات؛ فالروافد التي تغذي مستنقع التعصب قد تأتي من مصادر مختلفة، وقد يفصل بينها التاريخ والظروف المناخية، والجنس، أو أشكال الظلم والحرمان المتعددة، لكنها تلتقي في المصب نفسه، أي موقع اليقين المطلق الذي لا يناقش، ويدفعها دافع يسمح لكل شخص بأن يعلن نقاء ذاته ونصوع بياضها في مجتمع فاسد ملوث.
ولهذا؛ فإنه في غياب القدرة على الشك بالنفس يولد من اليقين المطلق إحساس بالتفوق، وهو ما تتسم به مواقف المتطرفين، وما يسمح لهم باقتراف أفعال عنيفة ضد المجتمع الذي يحتقرونه وكلهم صلف وغرور؛ لمجرد أن المجتمع لا يؤمن بمجموعة الآراء نفسها التي يعتنقونها هم.
من هنا، يمكننا وصف مشروع «مركز الحرب الفكرية» بأنه مشروع وطني داخلي، ومشروع عالمي خارجي يحارب الإرهاب عبر الأفكار المضادة، عاملاً على إنهاء جذوره الفكرية وحوامله الآيديولوجية والدوغمائية دفعة واحدة، ومحصناً الواقعين الاجتماعيين العربي والإسلامي في الداخل بنوع خاص من مخاطر العنف والإرهاب، وهي معركة مستقرة ومستمرة، تتطلب جهداً على جهد، وإرادة فوق إرادة لشراسة المعركة الفكرية التي يواجهها العالم اليوم.
والثابت من القراءة الأولية لرسائل المركز وأهدافه، أن هناك بعداً طيباً للغاية يتصل بسعي المركز للارتقاء بمستوى الوعي الصحيح للإسلام في الداخل الإسلامي وخارجه... ماذا يعنى ذلك؟
تاريخياً، هناك أخطاء ارتكبتها جماعات بعينها أثرت على الفهم الوسطي ومنهجية الوسطية والاعتدال في الإسلام على الصعيد الداخلي، جرى ذلك عندما اختلط الدين مع الفكر الديني أو الرأي في الدين.
ثم جرى بعد ذلك تسييس الدين، أو تدين السياسة، وهنا نتذكر ما يقول ابن المقفع «الدين تسليم بالإيمان، والرأي (السياسة)، تسليم بالخصومة، فمن جعل الدين رأياً جعله خصومة، ومن جعل الرأي ديناً فقد جعله شريعة». وهكذا؛ فإن الذين يسخّرون الدين لأغراض سياسية ويدّعون أنه يعبر عن إرادة السماء، إنما يحاولون تمرير أفكار خاصة، وإقناع الجماهير بها على أساس أنها إرادة إلهية وهي مجرد إرادة فرد أو حتى جماعة.
على أن إعادة الوعي بأصول الإسلام وثوابته في الداخل، لا بد أن يقابلها عمل فكري كبير في الخارج، ذلك أن الصورة الذهنية الإيجابية عن حقيقة الإسلام عالمياً قد تلقت طعنات خطيرة على مدار التاريخ، بعضها قديم والأثر محدث. أما عن القديم، فقد جرت به المقادير على ألسنة وأقلام وأوراق كثير من المستشرقين والكتاب الغربيين الذين افتأتوا على الإسلام والمسلمين من عينة البروفسور «برنارد لويس» بنوع خاص وأنداده، وهؤلاء حفروا خندقاً واسعاً مليئاً بالكراهية والتعصب والتزمت تجاه العالم الإسلامي، واعتُبر مورداً للعداوات والكراهات، التي أججت ثورات أصحاب القرار والسياسة. تجاه العالمين العربي والإسلامي؛ ما ولد ردود أفعال كارثية لدى قطاعات من الشباب المسلم، الذي قد مضى في طريق عنف مقابل.
يفلح مركز الحرب على الإرهاب فكرياً كثيراً جداً، بوضعه تلك الحرب من الجانب الآخر موضع القتال الفكري، الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، ومقارعة البرهان بالبرهان، أما الطعنات الحديثة فقد تمثلت في العمليات الإرهابية الخطيرة التي روّعت الآمنين في الكثير من العواصم الغربية، وخلفت تصوراً عمومياً مغلوطاً قطعاً، مفاده أن هؤلاء هم المسلمون عن بكرة أبيهم، وهذه هي خلاصة أفعالهم، وإن كان لمركز الحرب الفكرية أن يصنع صنيعاً عظيماً، فإنه لا بد من التواصل الفاعل مع العالم الغربي إعلامياً ومجتمعيا لبيان من يشوّه صورة الأمر بتأويلاته الفاسدة وجرائمه البشعة.
يبقى التطرف في كل الأحوال موقفاً فكرياً يرفض معتنقوه أي فرصة للحوار، كما يرفضون أي تلميح حول وجود قصور أو خطأ في فهمهم، ويذهبون في جدلها إلى أبعد مدى ممكن، وكل مدرسة من مدارسه الفكرية لديها متطرفوها، لكن الثابت أن المتطرفين من جميع الأطياف في نهاية الأمر يرفضون أي تسوية أو حل وسط مع الآخرين الذين لا يشاركونهم آراءهم.
هنا، ومن جديد، فإن مراكز الحرب الفكرية، وبحسب الصياغات الأولية الجيدة للقائمين عليه، يراهن على تكوين فهم عميق ومؤصل لمشكلة التطرف، من خلال أساليب وكوامن نزعاته، لكن تحديد الفئات المستهدفة من قبل الجماعات المتطرفة، وفهم الأدوات والمنهجيات التي تستخدمها الجماعات المتطرفة، ما الذي يجعل المركز، الذي نحن بصدده طرحه فكرياً، مغايراً في العالمين العربي والإسلامي، ويبشر بدور فاعل وخلاق له في قادمات الأيام؟
الشاهد، ملاحظات عدة تبين رحابة فكر القائمين عليه، وفي المقدمة فَهَمُ المجدد الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد، وخروج أفكاره عن صندوق الاتباع إلى دائرة الإبداع، بداية يفتح المركز أبوابه للتعاون البناء مع كثير من المؤسسات والمراكز الفكرية والإعلامية، وهو في هذا يقدم مثالاً واضحاً على فكرة اللقاء مع الآخر الذي يمتلك رأياً وطرحاً مختلفَين، دون أن يفكر في عزله أو إقصائه بعيداً، بل الاستفادة من تعدد الرؤى في طريق المجابهة الفاعلة لطاعون القرن الحادي والعشرين، أي الإرهاب الناتج من الأصوليات والهويات القاتلة ثانياً في الوقت الذي تشتد فيه ظلامية الاتجاهات اليمينية التي تعود بنا إلى دوائر الفاشية الفكرية الكارهة لأي تشارع أو تنازع عقلاني، نجد أن أحد أهم أهداف المركز، رسم سياسات وأساليب فاعلة لتعزيز قيم الاعتدال والتسامح والحوار والتفاهم في سياق الإيمان، بحتمية التنوع والتعددية.
هذا الهدف النبيل في واقع الحال يتصل اتصالاً وثيقاً بالعالم الخارجي، مما يلقي عبئاً فكرياً على القائمين على المركز، ويحتم عليهم التعاون والاستعانة بالعقول الآسيوية والأوروبية والأميركية، وكل من يؤمن بروح اللقاء مع الآخر، في مواجهة الأطروحات النظرية المجردة التي عانى منها العالم في العقدين الأخيرين، مثل نظرية «صدام الحضارات» لصاحبها صموئيل هنتنغتون، أو «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكاياما، وإن تراجع لاحقاً عن شموليتها في شكل من أشكال إعادة القراءة لديالكتيك التاريخ الذي لا يتوقف، وإلا كانت نهاية الإنسانية بالفعل.
لعل نجاحات ونجاعات «مركز الحرب الفكرية» تتأتى من يقين ثابت، ظاهر للعيان ضمن سطور المركز وأهدافه، يقين بحتمية استخدام قوى التعددية الثقافية من أجل محاربة التطرف والتشدد، اللذين يقودان حتماً في طريق الإرهاب والعنف.
لقد حذر الكثير من المثقفين والفلاسفة والمفكرين مراراً من خطر العودة إلى نظم الحكومة الفاشية أو الشمولية التي تدعو إليها جماعات الإرهاب، والتي عانى منها العالمان العربي والإسلامي كثيراً مؤخراً؛ فالفكر المتطرف يطرح شعارات شديدة التبسيط لحل محلال معقدة، ويمثل هذا الفكر خطراً محققاً في جميع المجتمعات والأزمنة، ولكن مثل أي مرض، فإن له علامات وأعراضاً نستطيع أن نحتاط منها عبر الفكر المنفتح على الآخر، الواعي بحقائقه وتطوراته الإنسانية.
في هذا السياق، يسعى «مركز الحرب الفكرية» إلى أن يكون شعلة، وليس فقط شمعة للتنوير في عالمنا المعاصر، حيث يعرض قيم الإيمان السليم ومبادئه بخطاب يراعي تفاوت المفاهيم والثقافات والحضارات، منسجماً مع سياقه العصري.
المركز المتوقع له نجاحات طيبة، لديه إرادة حقيقية في الإفادة من الدراسات والبحوث التي تدفع في طريق ثنائية التفكير وتعظيم الاستفادة منها، لا أحادية الرأي الواحد التي تقود إلى الحكم الأوتوقراطي، الذي علمتنا التجارب التاريخية أنه يولد ويورث كوارث لا قبل للبشرية بها من جديد. طريق المركز لمحاربة الإرهاب يتقاطع إيجاباً مع إنشاء منصات علمية وفكرية، وعقد منتديات ومؤتمرات فكرية وكل أوجه التلاقح والتنافح، والشراكات الإنسانية والدينية الثرية، شرقاً وغرباً، التي جل هدفها تعزيز رؤية الهيمنة المعتدلة في زمن الأوصوليات والحروب والعنف النار والدمار والمرار.
يأتي المركز ليعزز رؤية المملكة العربية السعودية الحديثة، التي يقود نهضتها الفكرية والتنموية الأمير محمد بن سلمان، والداعية إلى احترام حقوق الإنسان والتسامح مع وجهات النظر الأخرى، والانحياز إلى العدالة الاجتماعية، وإلى رؤية كونية تتجاوز الحواجز القومية والعرقية والدينية، وهذه نقلة فكرية قبل أن تكون بنيوية لمواجهة الغلو والتطرف، ومسرب من مسارب العودة إلى زمن الحضارة العربية والإسلامية التي بزغت شمسها قبل قرون على العالم، في لقاءات وحوارات ذهبية، وآن لها العودة من جديد وهي عودة محمودة ولا شك.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟