مركز الحرب الفكرية... وتصحيح المسار الخاطئ

الطريق الأنفع والأرفع لمواجهة التطرف والأصولية

الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في حديث مع عدد من منسوبي وزارة الدفاع («الشرق الأوسط»)
الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في حديث مع عدد من منسوبي وزارة الدفاع («الشرق الأوسط»)
TT

مركز الحرب الفكرية... وتصحيح المسار الخاطئ

الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في حديث مع عدد من منسوبي وزارة الدفاع («الشرق الأوسط»)
الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في حديث مع عدد من منسوبي وزارة الدفاع («الشرق الأوسط»)

قبل بضعة أيام انطلقت في المملكة العربية السعودية رسائل «مركز الحرب الفكرية» عبر وسائل التواصل الاجتماعي، شارحة أهدافه باللغات العالمية.
والمركز تابع لوزارة الدفاع السعودية، ويعدّ أحد أهم الإفرازات الفكرية لولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي يقود ثورة فكرية في داخل المملكة، تجلت بشكل واضح للعيان في مقابلته المتلفزة الأخيرة.
المركز الجديد، الذي يرأس الأمير محمد مجلس أمنائه، يدعمنا لطرح السؤال الرئيسي في هذه القراءة هل الإرهاب والتطرف، التشدد والأصولية في حاجة جميعها إلى وسائل عقلية وذهنية لمكافحتها، أم أن الحل الأمني هو الطريق الوحيد لإطفاء النيران المشتعلة؟

المؤكد، أن الإرهاب اليوم لم يعد تلك الخلايا العنقودية التي تنتظم في ترتيب هيراركي (هرمي) واضح المعالم، كما كان الحال في وقت ظهور تنظيم القاعدة، على سبيل المثال، فقد ألهم انتصار «داعش» في العراق قبل عامين جميع المتطرفين المختبئين في أنحاء العالم؛ مما سيزيد بالفعل من انتشار سرطان الإرهاب إلى ما وراء العراق وسوريا، ومحاولة التوغل في بقية المنطقة العربية، والعالم من ورائها.
في هذا السياق، تشتد الحاجة إلى «مركز الحرب الفكرية»، الذي يعمل على تصحيح المسار الخاطئ الذي مضى فيه العالم عبر عقدين تقريباً؛ إذ اعتبر الجميع أن المواجهات الأمنية والملاحقات الاستخباراتية للإرهابيين، كفيلة باجتثاث جذورهم، وهو ما ثبت عدم صحته؛ ذلك أن الحرب على الإرهاب بصفته فكرة مجردة ضمن تجريد الأشياء، تقع فلسفياً في نطاق القضايا الفاسدة، فأنت في حربك على الإرهاب بهذه الوسائل الأمنية والعسكرية فقط أشبه ما يكون بشن حرب على فكرة الغضب والكراهية اللتين تنميهما السياسات الخاطئة، مثل تلك التي حولت أفغانستان والعراق، والآن سوريا وليبيا إلى معامل لتفريخ الإرهابيين.
من هنا، تظهر جلياً الحاجة إلى «مركز الحرب الفكرية»، بصفته فعلاً من أفعال الاجتهاد والتجديد العقلي، فعل يقظة وحضور، وفعل حيوية وفاعلية، وفعل مبادرة ومسؤولية، يتفق مع طبيعة الإسلام العقلانية، التي تتصف بالعمومية والقابلية للتطبيق في كل زمان ومكان، وتبقى أهداف المركز ضرباً من ضروب الاجتهاد الذي يمثل وسيلة تأكيد تلك العمومية، وتفعيل تلك القابلية دائماً وأبداً؛ مما يقضي باستمراره وتجدده، في كل وقت وحين.
يبقى الإرهاب والتطرف نوعين من الباطل، ومع ذلك - ومن أسف شديد - قدّر لهما في العقود الثلاثة الماضية أن يجدا أرضية فكرية في أذهان الكثير جداً من الشباب العربي والمسلم، فهل ما جرى كان بسبب قصور عقلاني، في التواصل الفكري أدى إلى تلك الانحرافات الجسيمة، وذلك التطرف غير الخلاق؟
الشاهد، أن المشروع العالمي الذي يبسط «مركز الحرب الفكرية» لمواجهة التطرف، يقوم على ركائز فلسفية وسياسية وذهنية رائقة وراقية؛ ذلك أنه إن كان الإرهاب سلوكاً عملياً قائماً على أفكار محورية خاطئة ودفعت معتنقها إلى التطرف؟ ثم تحولت إلى عقيدة ثابتة لن تتزحزح من العقل الموبوء بها إلا مع خروج الروح من الجسد إلى بارئها، فإن المكافحة هنا لا يمكن أن تقوم أبداً عبر طلقات الرصاص للقضاء على الإرهابيين، بل عبر كشف الأخطاء والمزاعم والشبهات وأساليب الخداع التي يروج لها التطرف والإرهاب.
يعنّ لنا أن نتساءل: ما الخطأ الفكري الذي جرى في العالمين العربي والإسلامي في السنوات الماضية، وأتاح لهذا النبت الشيطاني أن يجد طريقاً إلى الحياة ليحيلها عبر دروبه السوداء إلى الموت؟
المقطوع به أن مفهومي التطرف والإرهاب نشآ في العقول ظاهرة فردية منعزلة وبعيدة كل البعد عن أي إطار تنظيمي أو سياسي في المجتمعات البدائية قبل أن يصبح أسلوب عمل جماعي منظم تتحرك قواعده وجنوده على الأرض، وتتحول إلى ظاهرة عابرة للحدود مع انتشار ثقافة العولمة؛ فتغزو أفكار التطرف العقول، متجاوزة كل الموانع والحواجز بفعل وسائل الإعلام الحديثة. على أن الإشكالية الأساسية هي أن صوت تلك الوسائل كان - ومن أسف مرة أخرى - هو الأكثر صخباً وضجيجاً ولابما سمعاً ومقدرة على اكتساب المزيد من النفوس والعقول، وربما يعزى ذلك إلى قصور في أدوات الدعوة الصحيحة والإرشاد الواعي.
في هذا الإطار، فإن مركز الحرب الفكرية، يحسن جداً أن يأخذ على عاتقه، وكما جاء في إعلان الانطلاق، أيضاً مسألة المنهج الشرعي الصحيح في قضايا التطرف والإرهاب، وتقديم مبادرات فكرية لكثير من الجهات داخل السعودية وخارجها، إضافة إلى مبادرات فكرية للتحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب وآيديولوجيا التطرف.
والشاهد، أن مبادرة «مركز الحرب الفكرية» تكتسي أهمية خاصة من حيث كونها مبادرة عالمية، تتجاوز حدود العالمين العربي والإسلامي إلى آفاق الكون الوسيع، ولا سيما أن ظاهرة الإرهاب الناجمة عن التعصب والتطرف، باتت ظاهرة عالمية، تعاني منها قارات الأرض الست، ولم تخلُ بقعة أو رقعة على الأرض، إلا وأصابتها بفيروساتها القاتلة.
يدرك القائمون على المركز أن التطرف والتعصب يولدان العنف بالضرورة، حيث إن المتعصبين لديهم قناعة راسخة بعدالة قضيتهم يتصرفون من منطلق إحساسهم بالتفوق ويقينهم الذاتي، بأنهم مختلفون عن الآخرين، ويكنّون الاحتقار لمجتمعهم الصغير والكبير.
يصف الكاتب والمفكر الأفريقي الشهير «ووسي سوينكا» المشهد العالمي اليوم بأنه بات عالماً من المتعصبين، وهو عالم واحد ويتداخل مع جميع الأديان والآيديولوجيات والطموحات؛ فالروافد التي تغذي مستنقع التعصب قد تأتي من مصادر مختلفة، وقد يفصل بينها التاريخ والظروف المناخية، والجنس، أو أشكال الظلم والحرمان المتعددة، لكنها تلتقي في المصب نفسه، أي موقع اليقين المطلق الذي لا يناقش، ويدفعها دافع يسمح لكل شخص بأن يعلن نقاء ذاته ونصوع بياضها في مجتمع فاسد ملوث.
ولهذا؛ فإنه في غياب القدرة على الشك بالنفس يولد من اليقين المطلق إحساس بالتفوق، وهو ما تتسم به مواقف المتطرفين، وما يسمح لهم باقتراف أفعال عنيفة ضد المجتمع الذي يحتقرونه وكلهم صلف وغرور؛ لمجرد أن المجتمع لا يؤمن بمجموعة الآراء نفسها التي يعتنقونها هم.
من هنا، يمكننا وصف مشروع «مركز الحرب الفكرية» بأنه مشروع وطني داخلي، ومشروع عالمي خارجي يحارب الإرهاب عبر الأفكار المضادة، عاملاً على إنهاء جذوره الفكرية وحوامله الآيديولوجية والدوغمائية دفعة واحدة، ومحصناً الواقعين الاجتماعيين العربي والإسلامي في الداخل بنوع خاص من مخاطر العنف والإرهاب، وهي معركة مستقرة ومستمرة، تتطلب جهداً على جهد، وإرادة فوق إرادة لشراسة المعركة الفكرية التي يواجهها العالم اليوم.
والثابت من القراءة الأولية لرسائل المركز وأهدافه، أن هناك بعداً طيباً للغاية يتصل بسعي المركز للارتقاء بمستوى الوعي الصحيح للإسلام في الداخل الإسلامي وخارجه... ماذا يعنى ذلك؟
تاريخياً، هناك أخطاء ارتكبتها جماعات بعينها أثرت على الفهم الوسطي ومنهجية الوسطية والاعتدال في الإسلام على الصعيد الداخلي، جرى ذلك عندما اختلط الدين مع الفكر الديني أو الرأي في الدين.
ثم جرى بعد ذلك تسييس الدين، أو تدين السياسة، وهنا نتذكر ما يقول ابن المقفع «الدين تسليم بالإيمان، والرأي (السياسة)، تسليم بالخصومة، فمن جعل الدين رأياً جعله خصومة، ومن جعل الرأي ديناً فقد جعله شريعة». وهكذا؛ فإن الذين يسخّرون الدين لأغراض سياسية ويدّعون أنه يعبر عن إرادة السماء، إنما يحاولون تمرير أفكار خاصة، وإقناع الجماهير بها على أساس أنها إرادة إلهية وهي مجرد إرادة فرد أو حتى جماعة.
على أن إعادة الوعي بأصول الإسلام وثوابته في الداخل، لا بد أن يقابلها عمل فكري كبير في الخارج، ذلك أن الصورة الذهنية الإيجابية عن حقيقة الإسلام عالمياً قد تلقت طعنات خطيرة على مدار التاريخ، بعضها قديم والأثر محدث. أما عن القديم، فقد جرت به المقادير على ألسنة وأقلام وأوراق كثير من المستشرقين والكتاب الغربيين الذين افتأتوا على الإسلام والمسلمين من عينة البروفسور «برنارد لويس» بنوع خاص وأنداده، وهؤلاء حفروا خندقاً واسعاً مليئاً بالكراهية والتعصب والتزمت تجاه العالم الإسلامي، واعتُبر مورداً للعداوات والكراهات، التي أججت ثورات أصحاب القرار والسياسة. تجاه العالمين العربي والإسلامي؛ ما ولد ردود أفعال كارثية لدى قطاعات من الشباب المسلم، الذي قد مضى في طريق عنف مقابل.
يفلح مركز الحرب على الإرهاب فكرياً كثيراً جداً، بوضعه تلك الحرب من الجانب الآخر موضع القتال الفكري، الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، ومقارعة البرهان بالبرهان، أما الطعنات الحديثة فقد تمثلت في العمليات الإرهابية الخطيرة التي روّعت الآمنين في الكثير من العواصم الغربية، وخلفت تصوراً عمومياً مغلوطاً قطعاً، مفاده أن هؤلاء هم المسلمون عن بكرة أبيهم، وهذه هي خلاصة أفعالهم، وإن كان لمركز الحرب الفكرية أن يصنع صنيعاً عظيماً، فإنه لا بد من التواصل الفاعل مع العالم الغربي إعلامياً ومجتمعيا لبيان من يشوّه صورة الأمر بتأويلاته الفاسدة وجرائمه البشعة.
يبقى التطرف في كل الأحوال موقفاً فكرياً يرفض معتنقوه أي فرصة للحوار، كما يرفضون أي تلميح حول وجود قصور أو خطأ في فهمهم، ويذهبون في جدلها إلى أبعد مدى ممكن، وكل مدرسة من مدارسه الفكرية لديها متطرفوها، لكن الثابت أن المتطرفين من جميع الأطياف في نهاية الأمر يرفضون أي تسوية أو حل وسط مع الآخرين الذين لا يشاركونهم آراءهم.
هنا، ومن جديد، فإن مراكز الحرب الفكرية، وبحسب الصياغات الأولية الجيدة للقائمين عليه، يراهن على تكوين فهم عميق ومؤصل لمشكلة التطرف، من خلال أساليب وكوامن نزعاته، لكن تحديد الفئات المستهدفة من قبل الجماعات المتطرفة، وفهم الأدوات والمنهجيات التي تستخدمها الجماعات المتطرفة، ما الذي يجعل المركز، الذي نحن بصدده طرحه فكرياً، مغايراً في العالمين العربي والإسلامي، ويبشر بدور فاعل وخلاق له في قادمات الأيام؟
الشاهد، ملاحظات عدة تبين رحابة فكر القائمين عليه، وفي المقدمة فَهَمُ المجدد الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد، وخروج أفكاره عن صندوق الاتباع إلى دائرة الإبداع، بداية يفتح المركز أبوابه للتعاون البناء مع كثير من المؤسسات والمراكز الفكرية والإعلامية، وهو في هذا يقدم مثالاً واضحاً على فكرة اللقاء مع الآخر الذي يمتلك رأياً وطرحاً مختلفَين، دون أن يفكر في عزله أو إقصائه بعيداً، بل الاستفادة من تعدد الرؤى في طريق المجابهة الفاعلة لطاعون القرن الحادي والعشرين، أي الإرهاب الناتج من الأصوليات والهويات القاتلة ثانياً في الوقت الذي تشتد فيه ظلامية الاتجاهات اليمينية التي تعود بنا إلى دوائر الفاشية الفكرية الكارهة لأي تشارع أو تنازع عقلاني، نجد أن أحد أهم أهداف المركز، رسم سياسات وأساليب فاعلة لتعزيز قيم الاعتدال والتسامح والحوار والتفاهم في سياق الإيمان، بحتمية التنوع والتعددية.
هذا الهدف النبيل في واقع الحال يتصل اتصالاً وثيقاً بالعالم الخارجي، مما يلقي عبئاً فكرياً على القائمين على المركز، ويحتم عليهم التعاون والاستعانة بالعقول الآسيوية والأوروبية والأميركية، وكل من يؤمن بروح اللقاء مع الآخر، في مواجهة الأطروحات النظرية المجردة التي عانى منها العالم في العقدين الأخيرين، مثل نظرية «صدام الحضارات» لصاحبها صموئيل هنتنغتون، أو «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكاياما، وإن تراجع لاحقاً عن شموليتها في شكل من أشكال إعادة القراءة لديالكتيك التاريخ الذي لا يتوقف، وإلا كانت نهاية الإنسانية بالفعل.
لعل نجاحات ونجاعات «مركز الحرب الفكرية» تتأتى من يقين ثابت، ظاهر للعيان ضمن سطور المركز وأهدافه، يقين بحتمية استخدام قوى التعددية الثقافية من أجل محاربة التطرف والتشدد، اللذين يقودان حتماً في طريق الإرهاب والعنف.
لقد حذر الكثير من المثقفين والفلاسفة والمفكرين مراراً من خطر العودة إلى نظم الحكومة الفاشية أو الشمولية التي تدعو إليها جماعات الإرهاب، والتي عانى منها العالمان العربي والإسلامي كثيراً مؤخراً؛ فالفكر المتطرف يطرح شعارات شديدة التبسيط لحل محلال معقدة، ويمثل هذا الفكر خطراً محققاً في جميع المجتمعات والأزمنة، ولكن مثل أي مرض، فإن له علامات وأعراضاً نستطيع أن نحتاط منها عبر الفكر المنفتح على الآخر، الواعي بحقائقه وتطوراته الإنسانية.
في هذا السياق، يسعى «مركز الحرب الفكرية» إلى أن يكون شعلة، وليس فقط شمعة للتنوير في عالمنا المعاصر، حيث يعرض قيم الإيمان السليم ومبادئه بخطاب يراعي تفاوت المفاهيم والثقافات والحضارات، منسجماً مع سياقه العصري.
المركز المتوقع له نجاحات طيبة، لديه إرادة حقيقية في الإفادة من الدراسات والبحوث التي تدفع في طريق ثنائية التفكير وتعظيم الاستفادة منها، لا أحادية الرأي الواحد التي تقود إلى الحكم الأوتوقراطي، الذي علمتنا التجارب التاريخية أنه يولد ويورث كوارث لا قبل للبشرية بها من جديد. طريق المركز لمحاربة الإرهاب يتقاطع إيجاباً مع إنشاء منصات علمية وفكرية، وعقد منتديات ومؤتمرات فكرية وكل أوجه التلاقح والتنافح، والشراكات الإنسانية والدينية الثرية، شرقاً وغرباً، التي جل هدفها تعزيز رؤية الهيمنة المعتدلة في زمن الأوصوليات والحروب والعنف النار والدمار والمرار.
يأتي المركز ليعزز رؤية المملكة العربية السعودية الحديثة، التي يقود نهضتها الفكرية والتنموية الأمير محمد بن سلمان، والداعية إلى احترام حقوق الإنسان والتسامح مع وجهات النظر الأخرى، والانحياز إلى العدالة الاجتماعية، وإلى رؤية كونية تتجاوز الحواجز القومية والعرقية والدينية، وهذه نقلة فكرية قبل أن تكون بنيوية لمواجهة الغلو والتطرف، ومسرب من مسارب العودة إلى زمن الحضارة العربية والإسلامية التي بزغت شمسها قبل قرون على العالم، في لقاءات وحوارات ذهبية، وآن لها العودة من جديد وهي عودة محمودة ولا شك.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.