مسرح محفوظ عبد الرحمن في ترجمة إنجليزية

عملان من عصر النهضة المسرحية المصرية في ستينات القرن الماضي

مسرح محفوظ عبد الرحمن في ترجمة إنجليزية
TT

مسرح محفوظ عبد الرحمن في ترجمة إنجليزية

مسرح محفوظ عبد الرحمن في ترجمة إنجليزية

خطوة جديدة نحو تقديم أدبنا المسرحي العربي المعاصر على الساحة العالمية، تمثلت في إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة خلال العام الماضي ترجمة إنجليزية لمسرحيتين للكاتب المسرحي المصري محفوظ عبد الرحمن. المسرحيتان هما «حفلة على الخازوق» (1978)، و«ما أجملنا» (1984)، وقد ترجمتهما إلى الإنجليزية رادا الجوهري المحاضرة في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وسلوى حزين حاملة شهادة في الترجمة من الجامعة نفسها. ترجمت الأولى «حفلة» وترجمت الثانية «ما أجملنا». وقد سبق للمترجمتين أن اشتركتا في إصدار ترجمة إنجليزية لديوان الشاعر الدكتور أحمد تيمور «مصر تولد من جديد» (2014). راجع ترجمة مسرحيتي محفوظ عبد الرحمن الدكتور مصطفى رياض أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية الآداب بجامعة عين شمس، وقدم لهما الدكتور محمد عناني أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية الآداب بجامعة القاهرة.
ومحفوظ عبد الرحمن (المولود في 1932) كاتب مسرحي وكاتب قصة قصيرة وناقد وصحافي ومؤلف مسرحيات وأعمال إذاعية وتلفزيونية، أشهرها عن حياة السيدة أم كلثوم الذي لاقى شهرة جماهيرية واسعة. حصل على الليسانس من قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة (شأنه في ذلك شأن روائي آخر كبير من معاصريه هو بهاء طاهر) في 1960. وسافر إلى المملكة العربية السعودية والكويت في 1972 حيث برز مؤلفا إذاعيا وتلفزيونيا، وكتب هاتين المسرحيتين بعد عودته إلى مصر في 1978. ومن مسرحياته الأخرى «اللبلاب» (1963)، و«عريس لبنت السلطان» (1978)، و«احذروا» (1983)، و«كوكب الفئران» (1984)، و«محاكمة السيد جيم» (1985)، و«المحامي والحرامي» (1989). ومن مسلسلاته التلفزيونية: «ليلة سقوط غرناطة»، و«الكتابة على لحم يحترق»، و«السندباد»، و«بوابة الحلواني»، و«مصر المتنبي».
«حفلة على الخازوق» مستوحاة من كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي ترجع قصصه إلى القرن العاشر الميلادي، وإن كانت لم تدون باللغة العربية المصرية إلا في القرن السادس عشر الميلادي، وكانت تتناقل شفاها من جيل إلى جيل. والقصة في «ألف ليلة وليلة» عن امرأة تحمي شرفها بأن توقع من يحاول إغواءها في شر أعماله، وهو خيط نجده في أعمال أدبية من مختلف اللغات، مثل: «حكايات كانتربري» للشاعر الإنجليزي تشوسر، ومسرحية شكسبير «كيل بكيل». وفي قصة «ألف ليلة» تنقذ المرأة حبيبها المسجون بأن تتظاهر بأنها أخته وترشو حارس السجن ومديره على السواء إلى أن يجيء الوالي فيعاقب الأشرار ويعيد الأمور إلى نصابها.
استوحى محفوظ عبد الرحمن هذه القصة ليصوغها في قالب كوميدي ينحو نحو الهزل (الفارس) على نحو قريب مما فعله رشاد رشدي في مسرحيته «شهرزاد» التي أخرجها المخرج جلال الشرقاوي. تقع المسرحية في 3 فصول؛ كل منها يضم عددا من المشاهد. والشخصيات هي: ضابط السجن، ومساعده، وجندي، والحبيبان حسن وهند (أشبه بقصة قيس وليلى، أو روميو وجوليت)، وقاض، ووزير، وتاجر رقيق أو نخاس، وجوار، ووال. يحمل الفصل الأول عنوان «سوء الحظ الذي وقع لحسن المراكبي إذ كان يتمشى قرب قصر الوالي. والأضرار (انظر اللمسة الساخرة!) التي يمكن أن تترتب على كون المرء سعيدا أمينا». وتتنقل الأحداث ما بين غرفة ضابط السجن، وزنزانة حسن، ومكتب القاضي، ومكتب الوزير المسؤول عن ديوان المظالم، وبيت هند. وزمن الأحداث هو العصر المملوكي.
أما «ما أجملنا» فهي مسرحية قصيرة من فصل واحد، شخصياتها والٍ في العصر العباسي، وحاجبه كافي، ووزيره تنوير، وأميرة، ووصيفتها سفر. والمسرحية محاكاة إلى حد ما لمسرحية الكاتب المسرحي الإنجليزي «ج.ب.بريستلي» المسماة «زيارة مفتش». ويستخدم الكاتب عرافا يلعب دور مفتش الشرطة في مسرحية بريستلي. وتروي قصة عجوز تقول إنها ستلعب دور راوية القصص شهرزاد، وإنها خبرت كل شيء من أقدم الأزمنة: قتل قابيل لأخيه هابيل، استشهاد الحسين، رحلات السندباد، مصرع الحلاج، إلخ... وعنوان المسرحية «ما أجملنا» أشبه بالمفارقة أو التورية الساخرة؛ إذ إنه يضاد قبح الأحداث المروية، والفجوة بين المظهر والواقع، والشر المركوز في كثير من الشخصيات.
وترجمة المسرحيتين مذيلة بعدد من الهوامش تشرح لقارئ الإنجليزية ما قد يغمض عليه من إشارات ثقافية أو تاريخية أو جغرافية. فهناك مثلا إشارات إلى سمرقند بأنها على طريق الحرير بين الصين والغرب، وقد جعل منها تيمور لنك عاصمة له في القرن الرابع عشر، وإشارات إلى خراسان وهي الآن جزء من إيران وتركمانستان وأفغانستان. كما يرد ذكر الفلكي والشاعر الفارسي عمر الخيام، وله إلى جانب رباعياته رسائل في الميكانيكا والجغرافيا وعلم المعادن والفلك، والديلم وهم شعب إيراني كان يسكن جبال شمال إيران على الساحل الجنوبي لبحر قزوين، وكانت الأسرة الساسانية المالكة تتخذ منهم جنودا، وعنترة بن شداد البطل والشاعر الجاهلي الذي اشتهر بشجاعته وقصة حبه لعبلة، وسلامة القس من كبار المغنين في العصر العباسي.
والمسرحيتان (عندي أن ترجمة «الخازوق» أفضل من ترجمة «ما أجملنا») تشهدان بمقدرة محفوظ عبد الرحمن الدرامية، وهو الكاتب الذي شب في عصر النهضة المسرحية المصرية في ستينات القرن الماضي. وبحق قال عنه الدكتور سامي سليمان أحمد في «قاموس الأدب العربي الحديث» (إعداد الدكتور حمدي السكوت) إنه يكتب مسرحيات ذات «إطار فانتازي ومضمون واقعي يحمل رموزا ودلالات سياسية، وتدق ناقوس الخطر محذرة من أخطار الغزو الصهيوني والاستعمار الجديد». إنه يستوحي - ضمن ما يستوحي - التراث العربي، رسميا وفلكلوريا، ويسقط ما فيه على الواقع السياسي والاجتماعي الراهن. وقد مست مسرحياته هموم الإنسان العربي في كل البلدان العربية التي قدمت فيها؛ ومنها - إلى جانب مصر - أبوظبي والكويت وسوريا والعراق وتونس.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟