توفيق بكار رحل وفي قلبه شيء من العربية

ساهم في إثراء المشهد الثقافي في تونس على مدى أكثر من نصف قرن

توفيق بكار
توفيق بكار
TT

توفيق بكار رحل وفي قلبه شيء من العربية

توفيق بكار
توفيق بكار

رحل مساء أول من أمس الناقد والأكاديمي د. توفيق بكار عن 90 عاماً، وقد نعاه الوسط الثقافي والأكاديمي التونسي، ووزارة الثقافة التونسية، باعتباره «عموداً من أعمدة الجامعة التونسية، وأحد أبرز مؤسسيها وأقطابها؛ بفضل سعة علمه وغزارة إنتاجه، وكونه أستاذاً معلماً وكاتباً كبيراً، وناقداً له مساهماته الغنية في المشهد الثقافي الأدبي والنقدي على مدى أكثر من نصف قرن».
واشتهر بكار المولود في 1927 بأسلوبه الحديث في التحليل والنقد والتقديم للرواية التونسية، كما اهتم بالأعمال الأدبية العربية، وقدم لعدة روايات عربية مثل «المشاتل» للكاتب إيميل حبيبي، و«موعد النار» لفؤاد التكرلي، و«أساطير الصحراء» لإبراهيم الكوني.
ومن مؤلفاته في التحليل والنقد الأدبي «مقدمات»، و«شعريات» الذي جاء في جزأين، و«قصصيات عربية».
في آخر لقاء معه يعود لعدة شهور، في مقهاه المفضل على ضفة غابة فانسان في جنوب باريس، حيث يتناول قهوته مع لفافة تبغ لا تنطفئ، نظر إلي بعينيه الزرقاوين المتعبتين، ثم أمسك بيدي قائلاً بصوته الخافت الأقرب على الهمس: «أسفي على سوريا»، وراح يروي ذكريات بعيدة زار فيها دمشق وحلب وتدمر، حيث ألقى محاضرات عدة في جامعاتها في اللغة والأدب. على منعطف منزله حيث يقطن مع زوجته الفرنسية عندما يحل على باريس بين فينة وأخرى، وقف يودّعني. أسند عكازه، الذي لازمه آخر شهور حياته، على الحائط القريب، عانقني بحرارة قائلاً: «ربما لن أراك ثانية».
وقفت بعد لحظة الوداع أنظر إليه وهو يمشي وئيداً تنتابه نوبة السعال، التي اعتدت أن أسمعها كلما قابلته، حتى غيبه المنعطف، كدت أذرف دمعة، كأني تيقنت أيضاً أنها المرة الأخيرة التي أرى فيها أستاذي الذي غمرني برعايته، وأغدق علي، كما على عشرات الكتاب الذين يمرون تحت يديه، بنصائحه وملاحظاته، فقد استشعرت رحيله، وكان حدسي صحيحاً.
عندما التقيته في تونس بُعيْد الثورة وفي يدي مخطوطة روايتي «حمام زنوبيا» التي رفضت معظم دور النشر إصدارها لأنها تروي حقبة مريرة من تاريخ سوريا تحت حكم حافظ الأسد، أخذها وتبناها وكتب مقدمتها. لم أكن أحلم يوماً أن يكون لي شرف مقدمة من مقدمات توفيق بكار الشهيرة، من هكذا ناقد، وأديب قلما شهد العالم العربي له مثيلاً بعمق ثقافته، وفصاحة لسانه، وبلاغة عبارته. في كتابيه «شعريات عربية»، و«قصصيات عربية»، وضع بكار أسساً مبتكرة لأسلوب النقد وتحليل النص الأدبي؛ هذا المتخرج من جامعة السوربون، والمتأثر برولان بارت، مؤسس منهج البنيوية في تحليل النصوص الأدبية. ما جعل كثيرا من الأدباء يطرقون بابه ليستشيروه بأعمالهم قبل النشر.
قام مع رفيق عمره محمد المصمودي بتأسيس سلسلة «عيون معاصرة» في دار الجنوب التونسية التي فتحت أبوابها لجيل كامل من الأدباء التونسيين والعرب، فتجد فيها حنا مينه، وإميل حبيبي، وإبراهيم الكوني، ورجاء العالم؛ حيث كتب لروايتها «خاتم» مقدمتها، وكانت آخر مقدمة يكتبها، هذه المقدمات التي تعتبر بحد ذاتها أدباً رفيعاً بلغة «بكارية» لا تشبهها لغة أخرى جمعت في كتاب بعنوان «مقدمات».
اهتم بكار بشكل خاص بالأديب التونسي الكبير، وكان صديقه الحميم، محمود المسعدي، ولا سيما في روايتيه: «حدّث أبو هريرة قال...» و«السد»، إذ كان يرى فيه أديب تونس الأول، وفي نصوصه نفحة من بلاغة القرآن الكريم.
في منزله في حي المنار الثاني في تونس تلمس تواضع الناقد الكبير، ابن تونس الذي رفض أن يغادرها إلى أي مكان آخر رغم كل الإغراءات التي قدمت له للتدريس في جامعات عربية وأوروبية. لقد كان أحد كبار أساتذة الجامعة التونسية، وعميد كلية الآداب. رحل عن هذا العالم عن عمر ناهز الـ90 عاماً من العطاء الأدبي والفكري الذي لم ينضب، وظل يكتب إلى آخر لحظة في حياته، وكأنه في تلك اللحظة كان يقول: «أموت وفي قلبي شيء من العربية».



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.