«فتنة» بين أفغانستان وباكستان بسبب «خط ديوراند»

رسمه الحكم البريطاني عام 1893... وفجّر أزمة عام 2017

«فتنة» بين أفغانستان وباكستان بسبب «خط ديوراند»
TT

«فتنة» بين أفغانستان وباكستان بسبب «خط ديوراند»

«فتنة» بين أفغانستان وباكستان بسبب «خط ديوراند»

تحدث عبد اللطيف بدرام، عضو في البرلمان الأفغاني المنتمي لعرقية الطاجيك من ولاية بدخشان التي تقع في أقصى شمال شرقي أفغانستان، تحدث قبل أيام في مؤتمر صحافي عن أوضاع البلاد من الناحيتين السياسية والأمنية. وعرّج بدرام في سياق شرحه على ما سماه «ملف تدخلات باكستان» في شؤون بلاده، عازيا ذلك إلى وجود خلاف حدودي بين البلدين، ومتهما إسلام آباد بأنها تتدخل في الشأن الداخلي لأفغانستان بحجة أن كابل لم تعترف بالحدود الرسمية بين البلدين. وأشار البرلماني الأفغاني إلى أنه يعتبر «خط ديوراند» المثير للجدل خطا رسميا معترفا به بين أفغانستان وباكستان. وحث الحكومة في العاصمة الأفغانية كابل على إعلان ذلك خطا رسميا يفصل البلدين.
هذا التصريح كان كافيا لإشعال فتيل أزمة جديدة تتحول إلى كرة نار يتقاذفها أبناء عرقيتي الباشتون والطاجيك فيما بينهما عبر قنوات تلفزيونية وشبكات التواصل الاجتماعي التي باتت تتوفر لغالبية الأفغان. كذلك شن عدد من أعضاء البرلمان من عرقية الباشتون في جلسة علنية غاب عنها عبد اللطيف بدرام، هجوما لاذعا عليه، واتهموه بأنه «جاسوس» تلقى الأموال من باكستان. بل وطالبوا رئيس البرلمان الأفغاني بالسماح لهم بـ«رجمه» بالحجارة «ليكون عبرة لمن يتخلى عن أراضي البلد في الجانب الباكستاني من الحدود». كما طالب آخرون من الساسة الباشتون بمنازلة بدرام وخوض حوار التحدي معه في أي قناة تلفزيونية يختارها… فما هي قصة «خط ديوراند»؟
من الطبيعي أن يختلف الأفغان على كل شيء تقريبا. ومن الطبيعي أيضا أن يتقاتلوا على موضوع قد لا يكون له أهمية كبيرة لا من الناحية التاريخية ولا من الناحية العملية... لكن ما هو ليس طبيعيا أن يتعمق الخلاف ليصل إلى درجة التخوين والتهديد بالقتل «رجما» على ألسنة نواب في البرلمان. وهم الساسة الذين يعوّل عليهم في إصدار قوانين ترسم ملامح مستقبلية للبلاد ولشعبها الذي عانى ولا يزال من تبعات الحروب الأهلية.
لقد تزايدت التوترات الفئوية والطائفية خلال العقود الثلاثة الماضية.
الغزو الأميركي لأفغانستان وتدفق ملايين الدولارات بحجة إعادة إعمار البلد وبناء مجتمع خال من العنف والتطرف عمّقا الخلافات الفئوية، وأعطيا نتائج عكسية. وهذا ما يظهر جليا خلال مناقشات سياسية وحوارات، يشارك فيها نخبة من الساسة من العرقيات المختلفة، حول ملفات قد تكون مهمة بالنسبة للمجتمع الأفغاني أو لا تكون أصلا في صلب اهتماماته. وهكذا غدا مألوفا أن يخالف النائب من الباشتون زميله من الطاجيك حتى لو كان رأيه صوابا والعكس صحيح.

لمحة تاريخية
عام 1893م، كانت بريطانيا تحكم شبه القارة الهندية، ويومذاك لم يكن هناك وجود لدولة باكستان الحالية، وقّع الأمير عبد الرحمن خان، حاكم أفغانستان، اتفاقية مع السير هنري مورتمور دیورند، الحاكم البريطاني على شبه القارة الهندية حددت فيها الخطوط الفاصلة بين ما بات اليوم أفغانستان وباكستان.
وفي وقت لاحق أطلق على ذلك الخط اسم «خط ديوراند»، الذي حدد واقعيا - وفيما بعد رسميا - الحدود بين أفغانستان وأراضي الاستعمار البريطاني في شبه القارة الهندية، وكانت بريطانيا تدفع مقابل ذلك للجانب الأفغاني مليون وثمانمائة ألف روبية هندية سنويا كميزانية للدولة. وقيل أيضا إن هذه الاتفاقية التي كانت سارية المفعول في حياة الأمير عبد الرحمن خان، استمر مفعولها بعد وفاته عندما تولى نجله الأمير حبيب الله خان. ولقد طمأن الأخير البريطانيين بأنه سيحترم اتفاقيات أبرمت مع والده بخصوص ترسيم الحدود. وجدد التوقيع على الاتفاقية المذكورة، التي لم يرد فيها ذكر أنها صالحة فقط لمدة مائة سنة وستنتهي بعدها صلاحياتها.
«خط ديوراند» هذا قسّم القبائل الباشتونية القاطنة عبره في أفغانستان وباكستان إلى شطرين. إذ بقي نحو أربعين مليون باشتوني داخل الحدود الباكستانية – حيث يُعرفون بـ«الباتان» – مقابل أقل منهم بكثير في الجانب الأفغاني... إلا أن هؤلاء يرفضون الاعتراف بالحدود الرسمية ويطالبون بضم القبائل الباشتونية عبر الخط إليهم.
وفي عام 1919م، عندما نالت أفغانستان استقلالها التام من المستعمر البريطاني، اعترفت بجميع الاتفاقيات الموقعة بين الأمير عبد الرحمن خان والبريطانيين، بما فيها «خط ديوراند»، وتنصّ المادة رقم 5 من اتفاق السلام الموقع بين كابل والحكم البريطاني في مدينة روالبندي (الباكستانية) صراحة على أن أفغانستان تعترف بالحدود الرسمية التي اعترف بها الأمير عبد الرحمن خان عام 1893م.
بعد ذلك، عندما أسست دولة جديدة باسم باكستان عام 1947 – في أعقاب تقسيم شبه الدولة الهندية بين دولتي الهند وباكستان – رفضت أفغانستان الاعتراف بالدولة الجديدة بحجة أن الحدود غير مرسومة بينهما وطالبت بأراضيها التي تصل حتى عمق مدينة بيشاور الباكستانية حاليا. ومنذ ذاك الحين توترت العلاقات بين كابل وإسلام آباد واستمرت الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، إذ اتهم كل منهما الآخر بالتدخل في شؤونه وتغذية العنف والتطرف في أراضيه. وكان الخاسر الوحيد في هذا الوضع العدائي أبناء شعب الباشتون الساكنون على جانبي «خط ديوراند»، الذين حرموا من التعليم والحياة الكريمة طوال التاريخ. وحاليا، تعتزم باكستان إنشاء بوابات رسمية وبناء سياج حديدي على طول حدودها مع أفغانستان لمنع تسلل مسلحي «طالبان – باكستان» الذين يشنون هجمات في العمق الباكستاني. وتدعي إسلام آباد أنهم يتخذون من أفغانستان مقرا لهم بينما تنفي كابل هذه التهم من أساسها وترد باتهام إسلام آباد بإيواء وتدريب مقاتلي طالبان الأفغانية.

رفض السياج الحديدي
كابل ترفض بالمطلق فكرة السياج الحديدي، وترى أنه غير مُجد في القضاء على التطرف، بل يجب محاربة ملاذات الجماعات الإرهابية الموجودة في العمق الباكستاني. أيضا، يعتبر كثيرون من الساسة الأفغان أن الأزمة بين كابل وإسلام آباد يجب أن تحل عبر الحوار البناء، وأن على كابل مصارحة إسلام آباد والاعتراف بـ«خط ديوراند» كخط رسمي يفصل البلدين كحدود دولية بينهما. غير أن قادة الباشتون من الجانب الأفغاني يرفضون ذلك، ويقولون إن الشعب في البلدين - المراد هنا شعب الباشتون على طرفي الحدود - هو من يجب أن يتخذ القرار المصيري وليس الحكومات.
في المقابل، فإن غالبية قادة عرقية الطاجيك وساستها، وكذلك باقي العرقيات من غير الباشتون، يعتبرون «خط ديوراند» حدودا دولية بين بلادهم وباكستان، ويرغبون في إنهاء هذه المعضلة التي طال أمدها. وهم يرون أن أي ادعاء آخر مجرد استهلاك داخلي لا غير، وذلك أن الحجة القائلة بأن الخط قسم الباشتون ليست دليلا مقنعا. ويعطون على ذلك حجة مقابلة هي أن الطاجيك أيضا مقسمون بين أفغانستان وجمهورية طاجيكستان المتاخمة لها، والشيء نفسه ينطبق على الأوزبك والتركمان المقسمين بين أفغانستان وجمهوريتي أوزبكستان وتركمانستان.
في هذا المناخ المضطرب، تذر الخلافات الفئوية بقرنها، وتبدو في تصاعد مستمر ينذر بحرب أهلية جديدة ما لم يتم تداركها من قبل ساسة عقلاء من الطرفين الباكستاني والأفغاني. وإذا ما تفاقم الموضوع فإنه قد يتحول إلى نقطة اللاعودة... وعندها يغدو تقسيم أفغانستان إلى دويلات صغيرة يصبح خطرا حقيقيا.

موقف حامد كرزاي
خلال مؤتمر علمي عقد في كابل وتحدث فيه الرئيس الأفغاني الأسبق حامد كرزاي (وهو باشتوني) حول الاعتراف بـ«خط ديوراند» كحدود رسمية بين أفغانستان وباكستان، قال كرزاي إن الأفغان لن يعترفوا بهذه الحدود التي تفصل بين قبيلة واحدة في دولتين.
وأشار الرئيس الأسبق إلى أن «جميع الساسة بمن فيهم قادة الطاجيك والأوزبك والهزارة متفقون على أن هذه الحدود غير رسمية، ولا يجوز الاعتراف بها لأن حدود أفغانستان تصل إلى منطقة بول ختك، وهي آخر نقطة في مقاطعة بيشاور الباكستانية. ومن ثم تبدأ حدود إقليم البنجاب الباكستاني». وتدعي كابل تاريخيا أن هذه المناطق تعود إليها، ولكن بسبب تفاهم سياسي بين حكام أفغانستان في زمن الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية جرى تقسيم مناطق الباشتون - أو الباتان - إلى جزأين جزء يخضع لنفوذ باكستان والجزء الآخر ضمن الحدود الأفغانية الحالية.
غير أن باكستان، الطرف الآخر من المعادلة والأزمة، تقول إنها تعتبر مسألة الحدود محلولة ومحسومة بينها وبين أفغانستان، وأنه «لا توجد معضلة تستدعي البحث والنقاش» مع الجانب الأفغاني. كذلك فهي ترفض أي تدخل دولي بهذا الخصوص. وكما يبدو فإن كفة باكستان هي الراجحة في هذه المسألة نظرا لضعف الموقف الأفغاني في الوقت الراهن، فضلا عن أن المجتمع الدولي وجميع المؤسسات الدولية تعترف بـ«خط ديوراند» خط حدود رسمية بين أفغانستان وباكستان، كما أشارت إلى ذلك وزيرة الخارجية الأميركية في العام الماضي. فعندما نشبت أزمة الحدود الأخيرة بين كابل وإسلام آباد عبر إطلاق قذائف صاروخية بين حراس الحدود، قالت الخارجية الأميركية في عهد باراك أوباما إن الولايات المتحدة تعترف بالحدود الحالية كخط فاصل بين أفغانستان وجارتها باكستان.
ولكن ماذا عن بريطانيا الطرف الثالث في الاتفاق السياسي عام 1893م، والتي تحتفظ بنص التوافق السياسي في متحف تاريخي في لندن؟
على الرغم من أن بريطانيا لم تصدر أي تصريح رسمي بهذا الشأن، فإن المؤشرات تشير إلى أنها ترى مسألة الحدود بين أفغانستان وباكستان منتهية بالنسبة لها، وأن الحدود الحالية حدود رسمية معترف بها من قبل الجميع. ويصر الساسة البريطانيون على أن هذه الاتفاقية لم تقيد بمدة زمنية وأنها وقعت بين الطرفين برضاهما دون أي ضغوط عسكرية أو سياسية كما تدعي كابل.

الباشتون... باشتونان
على صعيد آخر، لدى إجراء مقارنة بين أوضاع قبائل الباشتون القاطنة في أفغانستان ونظيراتها القاطنة في الجانب الباكستاني، يجد المتابع والدارس فارقا شاسعا بينهما من كل النواحي. فالباشتون في الجانب الأفغاني، رغم أنهم يحكمون أفغانستان منذ آلاف السنين، لم يتمكنوا من توفير أبسط الخدمات الأساسية للباشتون في بلادهم ولذا ترى قبائلهم متخلفة من الناحيتين التعليمية والاقتصادية، كما أن مناطقهم تعتبر أكثر المناطق حرمانا مقارنة بالعرقيات الأفغانية الأخرى التي تعيش في البلاد. ولهذا السبب تحولت القبائل الباشتونية إلى ملاذ آمن وحاضنة شعبية لجميع الحركات الراديكالية والجماعات المتشددة والإرهابية. وكمثال فإن حركة طالبان خرجت من قبائل الباشتون ويشكل الباشتون غالبية مقاتليها، وهي التي احتضنت زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن وباقي عناصر التنظيم في مناطقها قبيل وبعد الغزو الأميركي لأفغانستان. ومفهوم أن الجماعات المتطرفة تجد في المناطق الفقيرة والمتخلفة تعليميا بيئة حاضنة ومساعدة تستطيع التمدد فيها والتعايش بسبب تلاقي الأفكار المتطرفة. ومن يدقق في الصور التي تخرج من قبائل الباشتون الأفغاني يجد أنهم لم يتغيروا على مر العصور، وتظهر أشكالهم الخارجية كأنهم يعيشون في العصور الحجرية إلا قلة قليلة منهم.
أما في باكستان، خاصة في المناطق التي تنتشر فيها قبائل الباشتون أو الباتان، مثل إقليم بيشاور ومقاطعة خيبر، بالإضافة إلى مدينة كويتا – كبرى مدن إقليم بلوشستان – التي تحولت أخيرا إلى مقر لجماعتي طالبان الأفغانية والباكستانية، فيختلف الباشتون هناك من حيث مستوى المعيشة ومستوى التعليم. هنا ترتفع عند باشتون باكستان نسبة التعليم أعلى بكثير من نظرائهم الأفغان، كما أنهم يعيشون حياة أكثر ترفا وازدهارا من باشتون أفغانستان، ومع أنهم أقلية عرقية في باكستان فلدى باشتون باكستان تمثيل كبير في الحكومة وقد وصلت أكثر من شخصية سياسية باشتونية إلى مناصب رفيعة وحساسة في الحكومات الباكستانية المتلاحقة، بل إن منهم من تقلد منصب رئيس الجمهورية مثل غلام إسحاق خان والجنرال محمد أيوب خان والجنرال يحيى خان... والأخيران توليا أيضا منصب قائد الجيش الباكستاني، وهو منصب جد رفيع في البلاد. كذلك كان في رؤساء جهاز الاستخبارات الباكستاني شخصيات باشتونية أمثال الجنرال حميد غول والجنرال أسد دراني وغيرهما. ومن ثم، فمن الناحية السياسية نرى باشتون باكستان أكثر تمثيلا ودراية بالسياسة وفن الحكم من نظرائهم الأفغان، كما أنهم يعيشون حياة أفضل بكثير من كل النواحي الاقتصادية والأمنية. وتشهد مناطق باشتون باكستان ازدهارا وتطورا كبيرين بالمقارنة مع مناطق الباشتون في أفغانستان حيث تنتشر تجارة المخدرات وزراعة الحشيش والخشخاش (مصدر مادة الأفيون وهي تصدر كما هائلا إلى العالم من هذه المادة القاتلة)... ثم إن معظم الانتحاريين هم من مناطق الباشتون الأفغان والقليل القليل منهم من باشتون باكستان.

النضج السياسي
إضافة إلى ما سبق، نجد أن العملية السياسية عند باشتون باكستان أكثر نضجا، وهناك أحزاب سياسية تخوض الانتخابات وتتمتع بشعبية واسعة بينهم وبين غيرهم من العرقيات الساكنة في باكستان، ويحصلون على عدد كبير من الكراسي في البرلمانات المحلية والمركز.
وصحيح أن الأحزاب الباشتونية في باكستان تناضل من أجل الحصول على كامل حقوقهم وتوفير حياة كريمة لبني جلدتهم، وصحيح أيضا أن معظم هذه الأحزاب أنشئت لتحقيق أهداف قومية، إلا أنها لم تقل في يوم من الأيام في نضالها السياسي إنها تسعى إلى الانفصال عن باكستان والانضمام إلى «أفغانستان الكبرى»، بل العكس تماما هو الصحيح. إذ إن غالبية الأحزاب الباشتونية في باكستان - وأبرز قادتها من أمثال محمود خان اتشكزاي وعبد الولي خان واسفنديار - كلها تطالب بحقوق الباشتون ولكن ضمن دائرة الدستور الباكستاني ورفض الانفصال عن الدولة.
وحقا، هذه هي الورقة الرابحة بالنسبة لباكستان، فحتى لو نظم استفتاء شعبي في الجانب الباكستاني ستصوت غالبية الباشتون بلا شك لصالح البقاء ضمن كيان باكستان، رافضة الانضمام لأفغانستان التي تمزقها الحروب المستمرة منذ أكثر من أربعين سنة ولا تزال تدفع أثمانها الباهظة.
وعن هذا الجانب يقول أحمد سعيدي، الكاتب والمحلل السياسي والدبلوماسي الأفغاني السابق في إسلام آباد، إن «الدعوة إلى إلحاق الباشتون في باكستان بأفغانستان دعوة فارغة وغير قابلة للتحقيق»، مشيرا إلى أن «ساسة أفغانستان يعرفون ذلك جيدا، وهم يبحثون عن أمر مستحيل». ثم أردف: «الأصوات التي تطالب بحق أفغانستان في أراضي باكستان أصوات مغرضة كل كلامها للاستهلاك المحلي، لأنه لا يمكن عودة عقارب الساعة إلى الوراء» على حد تعبيره.
ويشارك محللون كثيرون سعيدي تحليله هذا. ويدعو هؤلاء إلى تركيز الجهود في محاربة الإرهاب والتطرف ونشر ثقافة التسامح وتوفير حياة كريمة للشعب الأفغاني بغض النظر عن انتمائه الطائفي والمذهبي ليكون نموذجا في المنطقة بدل الدخول في نقاشات جانبية لا طائل من ورائها. ويرون أن أولويات أفغانستان يجب أن تكون محاربة التطرف والأفكار المتطرفة التي تجد حاضنة شعبية في مناطق فقيرة من البلاد وذلك عبر نشر التعليم ومحاربة ثقافة العنف والقضاء على المخدرات... لا خوض صراع سياسي سيلحق الضرر بالداخل الأفغاني المقسم أصلا والعيش في استقرار وسلام مع الجيران.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.