الجزائر: شبح مقاطعة الانتخابات يؤرق النظام

الناخبون مخيَرون يوم 4 مايو بين المؤسسات... والمصير الليبي للفوضى

الجزائر: شبح مقاطعة الانتخابات يؤرق النظام
TT

الجزائر: شبح مقاطعة الانتخابات يؤرق النظام

الجزائر: شبح مقاطعة الانتخابات يؤرق النظام

تبدي الحكومة الجزائرية حرصا شديدا على أن يتوجه الناخبون إلى صناديق الاقتراع، بكثافة يوم 4 مايو (أيار) المقبل، وتتعامل مع الاستحقاق البرلماني المرتقب على أنه مسألة حياة أو موت تخص شعبا بكامله. وعلى هذا الأساس، لا يتردد رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة، وكذلك الأحزاب الموالية لها، في ممارسة التخويف من مصير شبيه بما يجري في ليبيا من فوضى وخراب، إذا تجاوبت غالبية الجزائريين مع الدعوة إلى مقاطعة الانتخاب. ويقول مراقبون إن أكثر ما تخشاه السلطات، ليس تغيب الناخبين عن مراكز التصويت، بل اختيارهم غالبية أخرى غير تلك التي تهيمن على مؤسسة التشريع منذ وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم قبل 18 سنة، وتتمثل في «جبهة التحرير الوطني»، أي حزب الرئيس، و«التجمع الوطني الديمقراطي» بقيادة وزير الدولة مدير الديوان بالرئاسة أحمد أويحيى الذي يعد من أبرز مساعدي بوتفليقة، وهو رئيس حكومته سابقاً.
جمعت «الشرق الأوسط» آراء شخصيات سياسية وناشطين ومواقفهم، بخصوص الرهانات المرتبطة بالانتخابات البرلمانية الجزائرية المقررة يوم 4 مايو المقبل، ونتائجها المتوقعة، وقراءاتهم لـ«الهوس الحكومي»، بخصوص دفع الملايين من الناخبين إلى التصويت. وقال وزير الدولة سابقا أبو جرة سلطاني: «دخلت التشكيلات السياسية، التي تجاوزت عقبة 4 في المائة (الحد الأدنى من الأصوات المحصل عليها في آخر انتخابات)، مضمار السباق نحـو قصر زيغود يوسف (مبنى البرلمان)، في أجـواء الاصطفاف على باب انتخابات الرئاسة المرتقبة دستوريا سنة 2019. وقبل إطلاق صافرة الركض تلقاء الحملة رسميا، قـرأ الرأي العام الوطني في الصفحة الأولى لحملة الانتخابات عنوانين بارزين: (لا تحلمـوا بالتغييـر فالاستمـرارية ضمان استقـرارنا، ولا يوجد من بين المتسابقيـن جواد يملك منافسة الحصان العتيد). وطبعاً: (الحصان العتيد) يقصد به (جبهة التحرير) الحزب الواحد الحاكم سابقاً».
وبحسب سلطاني، هذا يعني أن الأمور ستبقى على حالها «... وأن الكعكة البرلمانية ستحتفظ بأقساطها التقليدية لصالح الأُسـر السياسية، وليس لحساب الأحزاب المتنافسة ولا درّ في الصدفّ». ويفهم من كلام سلطاني، أن سيطرة ما يسمى «أحزاب الموالاة» على البرلمان ستستمر لخمس سنوات أخرى. ويضيف سلطاني «نصف الكعكة سيكون من نصيب الأسرة الوطنية، وثلثها للتيار العلماني وحواشيه، وأقل من خمسها بقليل سيتقاسمه التيار الإسلامي والمنشقون عنه... ويبقى ربع العشـر من فُتات الكعكة يؤول إلى المستقلين. بهذا المشهد الراجح يحتفظ تحالف الوطنيين والعلمانيين بالأغلبية الساحقة لتشكيل الحكومة المقبلة. ويُفتح للتيار الإسلامي رواق ضيّق لمـن تابوا وأصلحـوا وبينوا. أما المقاطعون فلا حظ لهم في عيـر النظام، ولا تأثيـر لهم على نفير الشعب. فلا شيء تغيّـر في برمجيات النظام، ولا جديد في برامج الأحـزاب، ولن تحرك الشعب دغدغات العواطف. فالكتلة الناخبة تصارع وحدها أزمة تدهـور القدرة الشرائية، وتحترق وحدها بلظى التهاب الأسعار...».

الانسجام المهدّد
أما قراءة أحميدة عياشي، الكاتب الصحافي والروائي المسرحي المعروف، لمجريات العملية الانتخابي، فهي كما يلي «تعيش السلطة اليوم لحظة في غاية الحرج؛ كونها لم تغيّر من الوضع شيئا منذ الولاية الرابعة لبوتفليقة، بل ازداد الوضع تدهورا على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، ولم يتحقق أي شيء من الوعود التي قدمت للجزائريين منذ أربع سنوات. وحتى الانسجام النسبي الذي كان داخل سرايا الحكم قد تصدع، وبات الصراع الخفي شبه معلن بين هيئة أركان الجيش ورئاسة الجمهورية، التي أضحت أكثر هشاشة بسبب مرض الرئيس بوتفليقة، وغيابه عن المشهد السياسي الفعلي؛ ما جعل المخاوف تتعاظم والقلق يتزايد».
وحقاً، يرى كثير من المراقبين، أن الاضطراب الذي يميز تصرّفات رجال النظام وخوفهم من التغيير بمناسبة الاستحقاق المرتقب، سببه مرض الرئيس وغموض الرؤية بخصوص مصيره في الحكم، وشكوك قوية في قدرته على الاستمرار إلى نهاية الولاية الرابعة عام 2019. وحسب عياشي فإن «المحيط الإقليمي (الأوضاع في ليبيا ومالي) ظل يشكل شبحا بالنسبة للاستقرار الذي ضخت السلطة من أجل الحفاظ عليه - ولا تزال - أموالا طائلة. ومن هنا أدركت الحكومة اليوم أنها تواجه خطرا غير مسبوق؛ ما جعلها تتفاوض في الخفاء، وبشكل فردي، مع المعارضة... التي هي الأخرى تعيش لحظة ضعف وتمزق وفقدان شرعية حقيقية في الشارع، بغية الوصول إلى مشهد توافقي صوري. وتمت خلال ذلك عملية مقايضة، بحيث تبدو السلطة وكأنها تملك مصداقية وشرعية، نظير حصول المعارضة على مقابل متمثل في المحاصصة التي تضمن لها مقاعد في البرلمان وحقائب في الحكومة المرتقبة. كل ذلك يجري تمهيدا لتموقع جديد في ظل انتخابات الرئاسة المنتظرة، لكن هذه التسوية تتم في حالة من اللامبالاة وانعدام الثقة عند المواطنين».
ويتابع عياشي «في الحقيقة، تسعى السلطة من وراء هذه الصفقة إلى إشراك المعارضة أو جزء منها، في تحمل مسؤولية فشل الحقبة الأخيرة من حكم بوتفليقة. ومن هنا نلاحظ هذه النبرة الحادة من الحكومة، تجاه من طالبوا من الأقلية المتواجدة في المعارضة من تيارات وشخصيات سياسية بمقاطعة الانتخابات، واتهامهم بالعمالة لقوى أجنبية مفترضة تريد الشر للجزائر، ومن ثم، تقديمهم إلى الرأي العام على أساس أنهم يمثلون محور الشر. وبذلك؛ تعيد السلطة إنتاج الخطاب نفسه الذي استعملته ضد الذين عارضوا الولاية الرابعة لبوتفليقة، محاولة بذلك قطع الطريق أمام انطلاق شرارة الموجة الثانية من (الربيع الجزائري)، التي تستميت السلطات في الحؤول دون اندلاعه. وكل هذا، والجبهة الاجتماعية خصوصا تعيش وضعا غير مسبوق من حيث الانحدار اللافت للقدرة الشرائية للجزائريين، وعجز السلطة في ظروف الأزمة الاقتصادية عن شراء السلم الاجتماعي... كما فعلت في وقت الرخاء». ويطلق مسمى «السلم الاجتماعي» في الجزائر على إجراءات اتخذت في زمن الوفرة، كتوزيع السكن واستيراد كماليات كثيرة؛ بغية ثني الجزائريين عن المطالبة بتغيير النظام.

المقاطعة... والديمقراطية
في المقابل، يبدو ناصر حمدادوش، البرلماني الإسلامي والقيادي في «حركة مجتمع السلم»، أقل تشاؤما من عياشي، فوفق مرئياته «الأصل أن هذه الانتخابات فرصة للجزائر لتثبت احترام الإرادة الشعبية بالآلية الديمقراطية من أجل التغيير والإصلاح الحقيقي. ولذلك؛ لا يسعنا إلا أن نشارك فيها بقوة، لانعدام أي مشروع سياسي آخر وبديل عملي فاعل لتحقيق التغيير. ونحن بصفتنا حزبا قدمنا ما علينا في هذا الشأن رسائل سياسية إيجابية، والكرة الآن في مرمى السلطة لإثبات حسن النية للعبور بالبلاد إلى بر الأمان، ولاحتواء أي أزمة محتملة في المستقبل قد تعصف بمؤسسات شرعية وذات مصداقية».
ويتفق حمدادوش إلى حد ما مع الحكومة، بخصوص مقاطعة الاستحقاق، قائلا: «المقاطعة ليست برنامجاً سياسيا، بل هي موقف. وإذا تغنى البعض بأن الأغلبية الصامتة تعتبر مقاطعة، منذ توقيف المسار الانتخابي عام 1991 (إلغاء نتائج انتخابات البرلمان التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ)، فماذا قدمت الأغلبية ما عدا الركون إلى الحلول المريحة والسهلة؟». ويستطرد «المقاطعة لا تخدم إلا استمرار الوضع كما هو، وهو ما يعني الانسحاب والسلبية التي لا تخدم إلا مزوّري الانتخابات. إن الاستماتة في المقاطعة لا تعني أننا سنصل إلى الديمقراطية الحقيقية. وللأسف الشديد لا تزال الإرادة السياسية العليا غائبة بخصوص احترام الإرادة الشعبية عبر الآلية الديمقراطية؛ وهو ما يجعل ذهنية السيطرة والتحكم في نتائج الانتخابات مهيمنة، وبالتالي، لا يسمح بالتداول السلمي على السلطة. ولكن رغم كل ذلك، تبقى المقاومة السياسية والنضال الديمقراطي مستمرا؛ لأن الحقوق تُؤخذ ولا تُعطى».
من جانب ثانٍ، يلاحظ حمدادوش أن «تصرفات السلطة تزيد في العزوف الانتخابي، وبخاصة عندما تكرّر الأسطوانة المشروخة نفسها حول تخيير المواطن بين الأمن والاستقرار وبين الديمقراطية»، في إشارة إلى تصريحات لمسؤولين جاء فيها أن «شبح الحرب الأهلية في ليبيا، يخيم على الجزائر إذا تخلف الجزائريون عن انتخاب مؤسساتهم الشرعية». ويتابع البرلماني الإسلامي، موضحاً موقفه وموقف تياره السياسي «إن هواجسنا من التزوير، الذي هو أخطر أنواع الفساد التي تهدد مستقبل البلاد، مبنية على سوابق حقيقية. وعندما يتبجّح الآن رموز السلطة بأن التزوير خلال المواعيد السابقة كان ضرورة لمصلحة البلاد، فهو إيحاء سلبي لتهيئة الرأي العام لقبول التزوير في المستقبل، لأن الظروف الحالية أسوأ وأخطر من السابق».

رؤية لاجئ من الخارج
من جهته، يقول: أنور هدام، اللاجئ السياسي بالولايات المتحدة الأميركية ورئيس «حركة الحرية والعدالة الاجتماعية» إن الوضع في الجزائر يتميز بـ«غياب إرادة حقيقية للتغيير السلمي والتداول الحضاري على السلطة لدى، أصحاب القرار». ويعود هدام إلى الوعود بالإصلاح الدستوري التي سبق أن أطلقها الرئيس بوتفليقة قبل 6 سنوات، فيقول: «الإصلاحات السياسية التي أعلنها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في خطاب يوم 14 أبريل (نيسان) 2011 في خضم الربيع الديمقراطي الذي شهدته آنذاك منطقتنا، زرعت آمالا كبيرة في نفوس الجزائريين لإحداث تحول سياسي سلمي يضع حدا لأزمة اختيار السلطة السياسية في البلد، وما ترتب عنها من أزمات أمنية واجتماعية واقتصادية. لكن كما لوحظ بحق الكثير من النشطاء السياسيين وحقوق الإنسان الجزائريين، فإن مجموعة القوانين التي صدرت لتنفيذ تلك الإصلاحات السياسية، كخطوة لتعميق العملية الديمقراطية، زادت في الواقع من التضييق على المجتمع والحقل السياسي».
وهنا يرى القيادي البارز في «جبهة الإنقاذ» سابقاً (استقال من صفوفها) أن «لهذه الإصلاحات التجميلية السطحية، والاستمرار في سياسة الاستبعاد غير العادلة لجزء كبير من المجتمع من العملية السياسية، تأثيرا مباشرا، ليس فقط على شفافية الانتخابات المقبلة، لكن أيضا على المجتمع الجزائري ككل ومستقبله، فضلا عن المنطقة المغاربية برمتها». ثم يلاحظ «عدم وجود بيئة سياسية صحية يمكن أن تجري فيها انتخابات نزيهة». ويتابع هدام إن «أصحاب القرار يعتبرون في الانفتاح الديمقراطي الذي تشهده بعض الدول المجاورة - رغم تعثره - تهديدا لاستقرار الجزائر والمنطقة ينبغي وضع حد له. ومن هنا استمرارهم في رفض وعرقلة التحول الديمقراطي في بلدنا؛ ذلك أن الإدارة ما زالت منحازة ومدجنة، حيث لا سلطة حقيقية للجنة مراقبة الانتخابات على العملية الانتخابية».
ويضيف هدام «هناك شريحة عريضة من السياسيين، ما زالت ممنوعة من حق الترشح في الانتخابات» - في إشارة إلى قياديي وحركيي «الإنقاذ» الذين تحملهم السلطة مسؤولية الدماء التي سالت خلال الحرب الأهلية، في تسعينات القرن الماضي - ويستطرد «ما زال جزء كبير ممن انتخبهم الشعب في أكثر الانتخابات نزاهة عرفتها الجزائر منذ الاستقلال (1991)، ممنوعا من ممارسة حقوقه المدنية والسياسية، بتهمة وقوفه وراء المأساة الوطنية، بعيدا عن أي تحقيق مستقل في كل الجرائم التي ارتكبت بحق الأبرياء، وفي غياب أي حكم قضائي يحدد المسؤوليات في تلك الأحداث الأليمة... كل ذلك يشكل عقبات في وجه التغيير المنشود ووسيلة تزوير مسبق للانتخابات والتلاعب بنتائجها».
وتجدر الإشارة، إلى أن في الجزائر، ما يسمى بـ«العشرية السوداء» التي ترمز إلى الإرهاب والدمار، دفعت بالسلطة إلى اتخاذ تدابير دستورية وقانونية، حدّت من نطاق انتشار الإسلامويين سياسيا. وجرت مساع لعودة هدام إلى الجزائر عام 2006 في إطار سياسة «المصالحة»، لكن جهة في النظام رفضت ذلك، وتتهم السلطات هدام بتبني عملية إرهابية وقعت عام 1994 بقلب العاصمة خلفت 40 قتيلا، بينما هو ينفي ذلك. ويرى هدام أنه «رغم سلبيات الوضع الحالي، فإن آفاق تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي في الجزائر، التي قد تُفتح على الشعب الجزائري، تدفعنا في حركة الحرية والعدالة الاجتماعية إلى تجديد الدعوة لكل مخلص وطني له يد داخل السلطة الفعلية، ممن هم جادين في مسألة إحداث التغيير المنشود، إلى تكثيف التواصل للمساهمة الحقيقية والفعلية... وذلك من أجل تحقيق توافق وطني للعمل معا لرفض الاستمرار في تنظيم انتخابات مزورة حتى قبل أن تجري، وتوفير الظروف المناسبة لتنظيم انتخابات تعددية نزيهة وشفافة تسمح لشعبنا بتحقيق تحول ديمقراطي حقيقي، من خلال فتح المجال للمشاركة السياسية لجميع الجزائريين دون أي إقصاء؛ وإطلاق هيئة انتخابات مستقلة حقيقة تشرف على العملية الانتخابية من بدايتها إلى نهايتها، ونشر قائمة لائحة الناخبين؛ والتعهد باحترام نتائج الانتخابات. إن الانتخابات التي تهدف إلى فرض اختيار أصحاب القرار، بدلا أن تتيح للشعب انتخاب ممثليه، لا تكرس الفساد والاسترزاق بالمال العام فحسب، بل تحرم كذلك المجتمع من الأمل بأي إصلاح أو تغيير سلمي».

برلمان عاجز عن الرقابة
على صعيد آخر، للباحث عدة فلاحي، الذي كان برلمانيا قبل أكثر من 10 سنوات، رأي في الحراك السياسي الجاري المرتبط بالاقتراع؛ إذ يقول: «السلطة التشريعية على العموم بالجزائر هي سلطة شكلية، وجدت لإعطاء الشرعية للسلطة التنفيذية وللنظام أكثر من كونها معبرة عن توجهات وخيارات المواطن. ولو كان الأمر غير ذلك، لتمت تسوية الكثير من الملفات وحلّ الكثير من الأزمات السياسية والاقتصادية، التي تكبر ككرة الثلج، وبالخصوص، مع تراجع نوعية المنتخبين بالمجلس التشريعي... الذي للأسف شهد أسوأ فتراته حينما جاء على رأسه شخصية من المفروض أنها كانت تحسب على النخبة المثقفة، وهو الدكتور العربي ولد خليفة. وهذه صورة أخرى من البؤس المؤسساتي، حينما يخفق رجل مثقف في أن يعطي للمؤسسة التشريعية مصداقيتها وصلاحياتها، فإذا كان هذا هو الحال وهذه هي النتيجة، كيف يمكن التعويل على من هو دونه في المستوى وفي التجربة؟!».
ويفضل فلاحي التعاطي مع الاستحقاق، بطرح السؤال التالي «هل مطلوب من البرلمان أن يشرَع القوانين... أم يناقش ويصادق على النصوص التي تأتيه من الحكومة...أو في شكل أوامر رئاسية؟ حتى هذه الصلاحية الأساسية أخفق فيها، ولم يعد يجتهد في أن يصدر تشريعات لمصلحة المواطن، بل يكتفي بالتنديد والشجب وإصدار البيانات في أحسن الحالات». ويردف «أمام العجز في مجال التشريع والمحدودية في أداء مهمة الرقابة على أعمال الحكومة، وغياب النواب عن الجلسات العامة وأشغال اللجان البرلمانية، واللجوء للطرق السهلة في طرح الأسئلة الشفوية، التي توظف في الغالب كإشهار لصاحبها أكثر من الرغبة في الوصول إلى الحقيقة، والتكفل بانشغال المواطن، لا يمكن أن نتفاءل خيراً بالبرلمان الجديد؛ لأن غالبيته للأسف ستكون مكلفة بمهمة ليست مهمة النائب».
وبشأن التخويف من «مستقبل مظلم»، إذا لم ينتخب الجزائريون بقوة الشهر المقبل، يرى فلاحي أن «التخوّف والتخويف دليل على هشاشة السلطة، وإلا لترك الأمر يمر عاديا. ولو عالجت السلطة المشكلات أيام الأمن والرخاء لما احتاجت إلى علاجات أخرى تخلق بها «فوبيا البلقنة» التي تعيشها بعض الدول العربية. ولكن أمام هذا المأزق السياسي المزمن، تتحمل النخبة المثقفة بمن فيها رجال الدين، المسؤولية. فما معنى أن تدعو بعض الزوايا المهتمة بتحفيظ القرآن، في خطاباتها إلى ضرورة الذهاب للانتخابات؟ ألم يقل وزير الشؤون الدينية محمد عيسى بأن الزوايا مستقلة عن الحكومة... ولا دخل لها في السياسة؟».
إن التخويف لأكبر دليل على أن «السلطة معطوبة»، كما قال الراحل عبد الحميد مهري (أمين عام «جبهة التحرير» سابقاً). والمفارقة الآن هي أن السلطة تريد أن تبقى معطوبة... وكأن ذلك هو الذي يعطيها حق البقاء؛ لأن هذا العطب توظفه لصالحها بالتخويف. وللأسف مرة أخرى، عطب السلطة أضحى وسيلة للبقاء وليس مدعاة للتغيير!».



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».