ثقافة العصر من خلال رواياته

نوع من القدرية أو الحتمية يتحكم في مصائر الأفراد والجماعات

ف.س. نايبول - توماس هاردي
ف.س. نايبول - توماس هاردي
TT
20

ثقافة العصر من خلال رواياته

ف.س. نايبول - توماس هاردي
ف.س. نايبول - توماس هاردي

في عام 1938 أصدر الدكتور طه حسين كتابه «مستقبل الثقافة في مصر». ومنذ أعوام قليلة أصدر الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي كتاباً عنوانه «ثقافتنا ليست بخير». وخلال العام الماضي (2016) صدر كتاب يندرج في هذا الباب عنوانه «أشكال الكارثة: رواية وضع الثقافة» من تأليف الناقد الآيرلندي فرانسيس مالهرن
Francis Mulhern، Figures of Catastrophe: The Condition of Culture Novel، Verso: London / New York 2016
وموضوع الكتاب جنس أدبي متميز: إنه الرواية التي تتحدث عن ثقافة مجتمعها وهو في هذه الحالة المجتمع البريطاني في الفترة منذ تسعينات القرن التاسع عشر حتى اليوم.
وقد اختار المؤلف أربع عشرة رواية تعالج موضوعه هي: «جود المغمور» (1896) لتوماس هاردي، و«هواردز إند» (1910) لإدوارد مورجان فورستر، و«أورلاندو» (1928) و«بين الفصول» (1941) لفرجينيا ولف، و«زيارة جديدة لبرايدزهيد» (1945) لإفلين وو، و«حرارة النهار» (1948) لإليزابيث باون، و«نوع من الحب» (1960) لستان بارستو، و«المقتنى» (1963) لجون فاولز، و«حكم حجري» (1977) لروث راندل، و«المال» (1984) لمارتن إيمس، و«لغز الوصول» (1987) و«رجل المحاكاة» (1967) ل ف. س. نايبول، و«الألبوم الأسود» (1995) لحنيف قريشي، و«عن الجمال» (2005) لزادي سميث. وجدير بالذكر أن اثنتين من هذه الروايات مترجمتان إلى العربية: «جود المغمور» لهاردي (ترجمة سامي ناشد) و«هواردز إند» لفورستر (تحت عنوان «المنزل الريفي»، ترجمة مفيد الشوباشي).
تتناول هذه الروايات حالة الثقافة في عصرها وبشائر مستقبلها. وتشتمل، كما هو طبيعي في مجال الثقافة، على إشارات أدبية كثيرة: فرواية «بين الفصول» لفرجينيا ولف مثلا تشتمل على خيوط شعرية. ورواية «حكم حجري» لروث راندل تضم سطوراً من شكسبير ووردز ورث وكيتس.
وموقف أبطال هذه الروايات من الثقافة مؤشر إلى طبيعة هؤلاء الأبطال. فجود، في رواية توماس هاردي، شاب طامح إلى التعلم يحرص على كتبه ويتعهدها بالعناية والإعزاز. أما زوجته أرابيلا فهي أرضية النزعة دنيوية لا تلقي بالاً لمطامح زوجها الفكرية. وحين ترى عدداً من كتبه على مائدة المطبخ تزيحها بيدها حتى تسقط على الأرض «كي لا تكون في الطريق».
وفي كل هذه الروايات يلعب رمز «البيت» دوراً محورياً، فهو قد يرمز إلى البقاء وتواصل الأجيال. وقد يهدم ليحل محله مبنى جديد - عمارة سكنية حديثة مثلا - بما يشير إلى زوال جانب من المجتمع التقليدي والدفع بطبقة اجتماعية جديدة إلى مكان الصدارة.
كذلك تؤكد الروايات العنصر القومي في الثقافة، فهي إنجليزية في المحل الأول ولكنها مع الزمن تنفتح على مؤثرات كوزموبوليتانية وعلى ثقافات أخرى.
إن نايبول يجلب معه ميراثه بوصفه ابن رجل باكستاني. وثقافة بريطانيا حين كانت إمبراطورية تمتد أملاكها إلى ما وراء البحار مختلفة عن ثقافتها بعد زوال الاستعمار بأشكاله التقليدية. والكتاب البريطانيون أنفسهم مختلفون من حيث المنشأ والخلفية فمنهم الآيرلندي (مثل إليزابث باون) واللندني وابن الريف الإنجليزي. وفي كل هذه الروايات تبرز خيوط الصراع بين الدين والعلمانية، بين العمل اليدوي والآلة، بين استمرار الأجيال وانقطاعها، بين الانتماء والاقتلاع، بين البورجوازية والبوهيمية، فضلا عن التراتب الهرمي (الهيراركية) أو التدرج الطبقي الاجتماعي.
وتشتبك المصائر الفردية للأفراد على نحو لا يعرف الانفصام بالأحداث العامة الكبرى مثل الحربين العالميتين والإضراب العام الذي نظمته نقابات العمال في بريطانيا عام 1926 وتناوب حكومات حزب المحافظين وحزب العمال على حكم بريطانيا وفترة الكساد الاقتصادي الكبير في كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية (1929 - 1934) وصراع الآيديولوجيات الرأسمالية والشيوعية والنازية والفاشية والديمقراطية على الساحة الأوروبية وفي أجزاء من قارات أخرى وقضايا هجرة الأجانب والتكيف الاجتماعي والمثاقفة.
وفي خلفية كتاب مالهرن تكمن جهود سابقة في النقد الثقافي منها كتابات الروائي د.هـ. لورنس عن الفروق الطبقية (بين عمال المناجم والنخبة المثقفة مثلا) وأثرها في العلاقات الشخصية، وكتابات الناقد ف.ر. ليفيس عن «حضارة الجماهير وثقافة الأقلية» والتدهور الناتج عن انتشار وسائل الإعلام والدعاية والإعلانات والأدب الرخيص والصحافة الصفراء، وكتاب كويني ليفيس (زوجة ليفيس) عن «القصة وجمهرة القراء»، وكتاب الناقد رتشارد هوجارت عن «فوائد تعلم القراءة والكتابة» وهو بحث سوسيولوجي عن أثر التعليم في حياة الطبقة العاملة، وكتابات الروائي الاشتراكي جورج أورويل عن أثر الآيديولوجيات السياسية في صياغة فكر الجماهير، وفكر ت. س. إليوت المحافظ في كتابه «ملاحظات نحو تعريف الثقافة»، وكتابات الناقد اليساري ريموند وليمز عن القرية والمدينة وثقافة مقاطعة ويلز والثقافة والمجتمع في الفترة 1870 - 1950.
ويختم مالهرن كتابه بقوله إنه وإن اقتصر هنا على الرواية الإنجليزية يود أن يوجه النظر إلى آداب أخرى عالجت وضع الثقافة. هناك مثلاً رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» (1955)، وهي تسخر من لغة المجتمع الأميركي في خمسينات القرن الماضي. وهناك رواية الأديب الألماني توماس مان «الجبل السحري» (1924) وأحداثها تجري في مصحة في جبال الألب السويسرية وهي نقد ساخر للثقافة الأوروبية البرجوازية في نهاية القرن التاسع عشر، ورواية الأديب الفرنسي إميل زولا «جرمينال» (1885)، وهي عن حياة عمال مناجم الفحم في شمال فرنسا في ستينات القرن التاسع عشر.
وعلى اختلاف مواقف هؤلاء الكتاب فإن العنصر الثابت في «رواية الثقافة» إنما هو نوع من القدرية أو الحتمية التي تتحكم في مصائر الأفراد والجماعات. إنه نزعة تشاؤمية أقرب إلى أن تكون منذرة بوقوع كارثة في الفكر الغربي، ومن هنا كان عنوان الكتاب الذي عرضناه: «أشكال الكارثة».



سعاد الصباح تشكّل عصابة مع الفراشات... ورواية تاج السر قهرت الشعر

العدد الجديد من مجلة «الإيسيسكو»
العدد الجديد من مجلة «الإيسيسكو»
TT
20

سعاد الصباح تشكّل عصابة مع الفراشات... ورواية تاج السر قهرت الشعر

العدد الجديد من مجلة «الإيسيسكو»
العدد الجديد من مجلة «الإيسيسكو»

انفرد العدد الجديد من مجلة «الإيسيسكو» الثقافية الفصلية (أبريل/ نيسان 2025) بإجراء حوار مع الشاعرة الكويتية الشيخة سعاد الصباح، كما حلّ الروائي السوداني الدكتور أمير تاج السر ضيفاً على هذا العدد، بينما اختتم الكاتب المعروف واسيني الأعرج صفحات المجلة بمقاله: «أصحابٌ ورقيون خالدون»، إلى جانب كثير من المواد المتنوعة في مجالات التراث، واللغة العربية، والخط، والمخطوط، والشعر، والفنون، والآداب... وغيرها.

وبين كل هذه المواد تناثرت قصائد الشعراء والمختارات المتفرقة من قوائم «الإيسيسكو» للتراث في العالم الإسلامي، والمقالات النوعية لكتاب هذا العدد من المجلة، الذين أثروها بمباحثهم النقدية ودراساتهم الرصينة.

حوى ملف «الخط العربي» دراسة عن «الخط العربي... الأصول والجماليات»، وملخصاً لكتاب «أنواع الخط»، ودراسة عن «تهجير المخطوطات». ونالت المرأة نصيباً مقدراً في العدد بمقال عن «المرأة السعودية بين فترتين»، ودراسة عن «نساء الأندلس... صانعات الحضارة وحافظات القيم»، وموضوع «النسوية في الإسلام»، وبمقال نقدي بعنوان «الأنا الشاعرة... نداء الأنوثة» الذي عرض لثلاث تجارب شعرية نسائية.

كما ضم العدد 3 قصائد لمدير عام «الإيسيسكو»، وللدكتور الشاعر عبد العظيم محمد أحمد، وللشاعرة سمية اليعقوبي، بالإضافة إلى كثير من الموضوعات ذات الصلة بمجالات عمل «الإيسيسكو» الثقافية والتربوية والعلمية.

مقابلة مع الشاعرة سعاد الصباح ضمن العدد الجديد من مجلة «الإيسيسكو»
مقابلة مع الشاعرة سعاد الصباح ضمن العدد الجديد من مجلة «الإيسيسكو»

سعاد الصباح: «عصابة مع الفراشات»

في الحوار الذي أجرته معها رئيسة التحرير، الشاعرة روضة الحاج، قالت الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح بشأن مدى رضاها عن مشوارها الأدبي، إنها قطعت مشواراً «مفروشاً بالشوك... بكثير من الشوك، اضطررتُ فيه إلى أن أشكّل مع الفراشات عصابة... لنُشهر التمرد، ولتعلن الورود غضبها وثورتها واحتجاجها... وهذا ما لا يرضي الإقطاعي (شهريار) الذي يريد أن تكون مقاليد حياة المرأة بين يديه؛ يحب متى شاء ويقتل متى شاء...».

وأضافت: «مشوارٌ طويلٌ... فيه كثير من الأحلام تقافزت أمامي مثل الأرانب البرية... فاصطدت بعضها، وزهدت في بعضها، وهرب مني بعضها الآخر... وقد رضيت بما كتب الله لي، وسعيدة بجهدي».

أما رؤية الشاعرة الكويتية لمسيرة المرأة الشاعرة الآن، فقالت عنها: «سعيدة جداً بالمستويات المتفوقة التي تحققت، وكُوّة النور التي ثقبناها في الجدار الإسمنتي... وحزينة جداً على الانجراف العالمي تجاه تمييع قضايا الفضيلة... عبر تسليع المرأة واستغلالها بشكل استهلاكي».

وقالت: «آمنت بأن المرأة خالدة في ثنايا اللغة وفي أعصابها، تمدّها بالحياة وبالرّبيع، فالمرأة كانت - وستظلّ - قلب هذا الجسد الأدبيّ الفاتن، رغم إهمال الحضور النّسائيّ في الشّعر العربيّ خصوصاً، والأدب العربيّ عموماً... فاللغة أنثى كما هي الحضارة والحياة... والغيمة والفرحة والقصيدة، ودون أنوثةٍ تفقد اللّغة خصوبتها وبقاءها وتناسلها ونعومتها».

وأضافت: «محاولات إقصاء المرأة تاريخياً، أوجدت عقليات فذة تجادل بعلم، وتعمل بإخلاص...

يقولون:

إنّ الكلام امتياز الرجال...

فلا تنطقي!!

وإنّ التغزّل فنّ الرجال...

فلا تعشقي!!

وإنّ الكتابة بحر عميق المياه

فلا تغرقي...

وها أنا ذا قد عشقت كثيراً...

وها أنا ذا قد سبحت كثيراً...

وقاومت كلّ البحار ولم أغرق...

يقولون:

إني كسرت بشعري جدار الفضيلة

وإن الرجال هم الشعراء

فكيف ستولد شاعرة في القبيلة؟؟

وأضحك من كل هذا الهراء

وأسخر ممن يريدون في عصر حرب الكواكب...

وأد النساء...

وأسأل نفسي:

لماذا يكون غناء الذكور حلالاً

ويصبح صوت النساء رذيلة؟

تاج السرّ: «الشعر لا ينهزم تماماً... بل يبقى... يطل برأسه بين حين وآخر»
تاج السرّ: «الشعر لا ينهزم تماماً... بل يبقى... يطل برأسه بين حين وآخر»

أمير تاج السر: الرواية قهرت الشعر عندي

في الحوار الثاني الذي أجرته روضة الحاج، مع الروائي السوداني أمير تاج السر، سلط الضوء على مسيرته منذ تقاسمه شمال السودان وشرقه في طفولته وصباه؛ وتشكلت ثقافته من مزيجين ثقافيين مختلفين إلى حد ما، فلكل بيئة مزاجها وخصوصيتها؛ ثم انتقاله إلى مصر ليدرس المرحلة الجامعية في مدينة طنطا، ليعود بعدها طبيباً متنقلاً في «مناطق الشدة» كما يطلق على الأطراف النائية والبعيدة في السودان، ثم استقراره أخيراً في العاصمة القطرية الدوحة بعد أن اختار أن يتخصص في الطب الباطني... وهو ترحال منحه ثراء لغوياً ومعرفياً وثقافياً، وأغنى عوالمه الإبداعية بعناصر مدهشة، وأضاف لقدراته السردية والتخيلية الكثير.

ربطته صلة قربى وثيقة بعبقري الرواية العربية الطيب صالح (خاله شقيق والدته) وإن كان كثير من النقاد يراهما من مدرستين مختلفتين، ولكن «أنَّى لروائي سوداني أن ينجو من سحر الطيب صالح» كما تقول روضة الحاج.

في إجابته عن سؤال بشأن غزارة عطائه المتصل الذي يتجاوز الثلاثين كتاباً، وكذلك التنوع في موضوعات القص، وتعدد تقنيات الكتابة دون تفريط في البصمة الخاصة به، أجاب أمير تاج السرّ: «أنا كنت أكتب في البداية بالنفَس الشعري، ثم حاولت أن أخفف حتى عثرت على صيغتي الخاصة، ابتداءً من رواية (مهر الصياح - 2002)، وأصبح لي نهجي في الأسلوب والتناول، وهكذا أنتجت نصوصاً تتبع الأسلوب نفسه في الغالب، مع وجود أفكار مختلفة. كل نص جديد أكتبه، هو نص قائم وحده، ليست لديّ تداخلات بين النصوص، ولا امتدادات للشخصيات، ولا أحب؛ أو لم أحاول كتابة ثنائيات أو ثلاثيات، تمتد فيها الأحداث والشخوص، النص عندي ينتهي بانتهاء ما أردت كتابته، حتى لو كان قصيراً، لا يهم».

أما عن غزارة الإنتاج، فقال: «أنا أكتب وفق مشروع مستمر، ومتى ما عثرت على فكرة جيدة، وبداية تعجبني، كتبت... بعضهم يقولون هذا كثير، لكن بالنسبة إليّ هذا شيء عادي، واعتدت الكتابة بهذه الطريقة».

وفي إجابته عن انفكاكه من أَسْر الشعر وانتقاله نحو السرد، أجاب: «نعم، في الماضي كان الشعر قوي الشخصية، يوثق أي شاعر إلى حباله المتينة، لذلك نجد كثيراً من الشعراء عاشوا وماتوا شعراء، وحتى الذين كتبوا منهم رواية، لم تكن روايتهم تشكل محوراً في حياتهم. نزار قباني مثلاً، ومحمود درويش، والبياتي... وكثيرون، عُرفوا بصفتهم شعراء فقط، ولم يتطلعوا إلى أي نشاط إبداعي آخر. في جيلي كان الأمر كذلك إلى حد ما، وهناك شعراء بدأوا معي أو قبلي قليلاً، استمروا مخلصين للشعر، رغم اهتزاز مكانته... أنا أختلف، فقد كنت حكّاء في المقام الأول، وأحب الحكايات جداً، وحتى قصائدي كانت فيها حكايات وشخوص، ولم أتردد مطلقاً».

وأضاف: «خضت مغامرة كتابة الرواية مبكراً، وتمنيت أن تستمر مع الشعر، لكنها قهرت الشعر عندي، واحتلت الذهن. لكن الشعر، مع ذلك، بقي حتى الآن، فأنا أستخدمه في لغة الرواية، وأيضاً أكتب نصوصاً شعرية داخل الروايات حين يقتضي الأمر، وأحياناً أكتب قصائد أنشرها في صفحتي على (فيسبوك) وفي منصة (إكس)، وهكذا نستطيع القول إن الشعر لا ينهزم تماماً، بل يبقى؛ يطل برأسه بين حين وآخر».