حضور لافت للشاعرات ونصوص تواجه الحرب بعشقها الحياة

خصصت مجلة الهلال المصرية في عددها لشهر أبريل (نيسان) الحالي ملفا ضافيا بعنوان «المشهد الشعري في سوريا». قدمت للملف الشاعرة السورية رولا حسن، بدراسة نقدية بانورامية رصدت فيها التحولات التي مر بها الواقع السوري في السنوات الأخيرة، وأثر الحرب الكارثية التي لا تزال تشيع القتل والخراب على وتيرة هذه التحولات.
لفتت الدراسة إلى أن الحرب حفزت الشعر، فصعد إلى السطح بعد سنوات الهمود الثقافي. وللوصول إلى هذا، عرجت الشاعرة على المنجز الشعري السوري، في سياقاته المختلفة، مشيرة في هذا السياق إلى تجارب شعراء من أجيال سابقة، من الرعيل الأول، ومن شعراء التفعيلة والنثر، مثل شوقي بغدادي، ونزيه أبو عفش، وصقر عليشي، ومحمد عضيمة. وغيرهم من الشعراء الذين لا يزال صوتهم واضحا وحاضرا، إلا أن الأصوات الجديدة هي سيدة المشهد في الفترة الأخيرة.
ضم الملف نصوصا لأكثر من ثلاثين شاعرة وشاعرا يمثلون أبرز ملامح المشهد الشعري السوري، بتعدد أصواتهم وتياراتهم، فثمة شاعرات ولدن في منتصف التسعينات، وبعضهن مازلن في بواكير حياتهن الشعرية والدراسية، كما أن أغلب الشعراء المشاركين في الملف ينشرون للمرة الأولى في منبر ثقافي مصري.
وحول ملامح المشهد الشعري في خضم ما يمر به الواقع السوري، قالت حسن: «إن الشاعر الآن لا يملك تقديم إجابات عن أسئلة الوجود، وقضايا واقع ليس فيه من يقين يفيد الشعر سوى يقين القدرة على مساءلة الحضور، الذي يعني بشكل من الأشكال مساءلة الهوية والإمكانات التي قد نتصورها لنشكل حلم المستقبل»، لافتة إلى أن النص الشعري الجديد في سوريا «لم يعد بمنأى عما يحدث حوله، يتشظى كما العالم، نص مشحون بالفقد والخسارة والخذلان، تفوح منه رائحة الحرب والبيوت المهجورة. نحن هنا أمام شعرية جديدة، أخذت تتبلور، ولم يعد بالإمكان أن ندير ظهورنا لها، شعرية من أهم مميزاتها، إعادة الاعتبار لشعرية السرد، حيث الانتقال من شعرية الجملة إلى شعرية النص، وذلك عبر محطات لغوية جديدة تنظم نمو النص، بالتركيز على اليومي، والمدلولات المادية الملموسة للأشياء، إنه نص يعيش الحياة الحية، يرفض أي سطوة لأي مرجعيات مسبقة، تقيد وجوده ومغامرته الجمالية».
ونوهت حسن إلى حضور المرأة في جسد الشعرية الجديدة، وبخاصة وسط صراعها اليومي مع الحرب التي تسعى إلى ضرب وجودها الاجتماعي والأخلاقي والثقافي.
فى افتتاحية العدد، قال سعد القرش، رئيس تحرير المجلة: «لولا هذا الملف ما أتيح لنا أن نكتشف كل هذا الثراء في المشهد الشعري في سوريا. وقد حرصت الشاعرة رولا حسن على تمثيل الأجيال والتيارات كافة، وإن لمس القارئ شيئا من الانحياز إلى الشاعرات، لكن الملاحظة الأكثر أهمية هي كثرة عدد الشاعرات والشعراء الذين ربما لم يغادروا بلادهم، لكنهم يجيدون لغة أخرى ويترجمون منها، وهناك بضع شاعرات ولدن في منتصف التسعينات، وأنضجتهن الحرب الدائرة حاليا، إلا أن النصوص راهنت على ما يبقى بعد زوال غبار المعارك ودخانها السام، فنجت من التلوث بحمرة الدماء، وترفعت عن التورط في المباشرة، وأبقت على جوهر إنساني صار فيه الجميع ضحايا حرب وأبناء موت، فيتساوى الجندي الغائب، وحبيبته التي ماتت وهي تنتظره».
من أجواء الملف يتساءل الشاعر إبراهيم حسو، المولود في قامشلي (1968) ويقيم في ألمانيا، في نص بعنوان «نوم غرفتك» يمتزج فيه الخوف من الحلم بالخوف من الواقع، قائلا:
ماذا يفعل السريرُ في غرفتك
لماذا تشاركك الوسائدُ في أحلامك
ألا يخجل الشرشف
حينما تغطين به جسمك.
ما الذي يجعل مرآتك مستيقظة
آخر الصباح؟
وتسرق الحرب حكايات الجدات وأدوات الماكياج في نص «الرجال الذين يصنعون الحرب» للشاعرة بشرى البشوات، التي ولدت في القنيطرة عام 1976. تقول فيه:
الحرب لا تترك لنا فرصة
لنضع أحمر الشفاه
سيظل شَعري معقودا كذيل حصان
لأن فرسا داخلي قد شاخت
أعلِّق قلبي على الحديد الناتئ
في سلك شائك
أغسل وجهي بغبار أحذية الجنود
لا مواعيد في الحرب
ما من امرأة تطمر خوفها وتذهب
إلى الحب في الحرب
أما الشاعرة راما عرفات، التي ولدت في دمشق عام 1987، فتسرب مرثية إنسانية شديدة الشجن للوطن في قصيدة بعنوان «نص» قائلة:
سيزورك الألمُ كثيرا يا صغيرتي
كما لو أنك خدش في خشب السرير
كما لو أنك وقع الخبر
ستكذبين على نفسك كدواء الحمى ومقبض الباب
والشوارع المفتوحة أمامك
ستغلقينها كما تفعل الحرب
ستفرغين الماء من النهر
وستعثرين على إجابة لسؤالك
لماذا يهرب الهواء من الغرق؟
تكشف قصائد الملف عن ملامح شعرية جديدة، مفتوحة بحيوية على المأساة السورية، لكنها مع ذلك مسكونة بالأمل في الحرية والخلاص، إنها قصائد تشبه السوريين في محبتهم وإرادتهم المتشبثة العاشقة للحياة، ولا تدعو القارئ إلى السكينة والاطمئنان، ولا تمنحه شيئا من اليقين، بل تطرح أسئلة وتثير شكوكا، وتبتكر جماليات خاصة تتمرد على ميراث الشعر، وتتفاعل مع آفاقه عالميا. قصائد مسكونة بالدهشة والحيرة، لا ترتهن للحظة المحلية المرتبكة إلا عبر استلهام تشظيها وانشطاراتها.
وتعانق النصوص فضاء الفن التشكيلي السوري، في علاقة لافتة، حيث يصاحب كل نص بالملف صورة للوحة من أعمال فنان سوري؛ ما يمنح الملف حيوية التلاقح بين الصورة بصفتها معطى بصريا، يتجسد عبر اللون والخط والفراغ، وبين النص الشعري، بصفتها لوحة مفتوحة بحيوية على الهم الإنساني في الداخل والخارج معا.