«عذراء سنجار»... وطن مخطوف وطائفة مُستباحة

تتمحور رواية «عذراء سنجار» للقاص والروائي العراقي وارد بدر السالم حول احتلال قضاء سنجار من قبل عصابات «داعش» في ظروف غامضة، إذ انسحبت قوات البيشمركة من دون قتال، تاركة الإيزيديين البسطاء يواجهون مصائرهم المفجعة بين القتل والأسر والسبي والتشريد. ومع أنّ المآسي واحدة لا تتجزأ، فإن سبي أكثر من 3 آلاف امرأة إيزيدية من مدينة سنجار والقرى التابعة لها واغتصابهنّ ثم بيعهنّ في أسواق النخاسة هو حدث مأساوي كبير لا تلمّ به الفانتازيا، ولا يحيط به الخيال الجامح، فهل يستطيع عمل أدبي أن يرقى إلى هذه الكارثة التي ألمّت بكل الإيزيديين الذين وقعوا في الأسر ولم يستطيعوا الفرار إلى الجبل الشاهق المُطل على المدينة المنكوبة؟
لابد من الإشارة إلى أن وارد بدر السالم روائي بصْري مقيم ببغداد حالياً ولم يرَ سنجار حتى هذه اللحظة، وكل عُدّته البَصَرية تكمن في زيارته لمخيمي إيسيان وباعذرا ومعبد لالش النوراني ولقائه بعض الناجيات من الأسر «الداعشي» البغيض، فكيف تمكن من كتابة هذا النص الروائي الناجح شكلاً ومضموناً من دون أن يرى سنجار أو يتعرف على أي من الشخصيات الروائية الرئيسية أو الثانوية على حدٍ سواء؟
يكشف متن الرواية وهوامشها أن كاتبها قد قرأ عشرات الكتب عن الديانة الإيزيدية، وعلى رأسها «كتاب الجلوة» و«مصحف رش»، كما أفاد من بعض الأدباء والكُتّاب الإيزيديين الذين أمدّوه بمعلومات تاريخية واجتماعية وثقافية ودينية عن هذه الطائفة الكريمة التي يعود تاريخها في تلك المضارب إلى 7 آلاف سنة في أقل تقدير. وأكثر من ذلك فإن مَنْ يعرف وارد بدر السالم عن كثب يُدرك جيداً أنّ مخيلته المتقدة التي أبدعت وتألقت في «ذلك البكاء الجميل»، و«أصابع الصفصاف»، و«جذوع في العراء» و«عجائب بغداد» لا يجد صعوبة في أن يشحذ خياله إلى أقصى مداه لينجز عملاً أدبياً يتسيّد فيه الخيال على الواقع المكتظ بالأساطير والخرافات التي نسجتها الذاكرة الجمعية للإيزيديين العراقيين على وجه التحديد.
يمكن تشبيه بنية هذه الرواية وحبكتها الداخلية بجديلة طويلة مضفرة من 3 خُصلات؛ وهي الخيال الفنتازي، والواقع المرير، والأساطير المُجنّحة، بالإضافة للمفاجآت المدهشة التي تخفِّف من قسوة الأحداث الدموية المرعبة التي تحتدم على مدار 74 فصلاً تحيلنا من دون شك إلى الغزوات الـ74 التي تعرّض لها الإيزيديون على مرّ التاريخ من دون أن يتبرأوا من ديانتهم التوحيدية أو يتخلوا عن قناعاتهم الشخصية.
* الشخصية المُنشطرة
بسبب الاحتلال الداعشي لمدينة سنجار وقراها والتبديل القسري لديانتهم تنشطر شخصيات الأسرى السنجاريين، وتتبدل أسماؤهم أيضاً، فيصبح سَرْبَسْت «آزاد»، ويُسمّى دلشاد «عبد الحافظ»، ويتحول سالار إلى «عبد الله»، ونارِين إلى «عائشة» ومنْ يصرّ على التشبث بديانته الإيزيدية فعقابه الموت ذبحاً، أو شنقاً، أو حرقاً، أو رمياً بالرصاص، أو دفعاً من منارة شاهقة. لا يمكن الإحاطة بجميع الشخصيات الواردة في النص الروائي، لكننا نستطيع أن نقسِّمها ببساطة إلى جلادين وضحايا وشخصيات رمزية، حيث ينتمي إلى القسم الأول حجي خان الأفغاني، وأبي عائشة، وصهيب، وخورشيد الكردي وغيرهم، بينما ينتمي إلى فئة الضحايا غالبية السنجاريين أمثال سربست، ونيشتيمان، والمرأة الحامل، والعجوز، وشيرين، ودلشاد، وسالار، وعفدال، وعيدو، ونالين والفتى العربي وسواهم من الشخصيات المُضطَهَدة التي لم تغادر المدينة، أما الشخصيات الرمزية التي «أنْسَنَها» المؤلف فهي الحمامة، والصقر، والغراب، والفراشة، والنجمة، والكلب وأضفى عليها أبعاداً عجائبية؛ فبعضها يحب، وبعضها الآخر يتكلم، والثالث يستوعب ما يدور حوله!
لا يشتمل الخيال الفانتازي على الشخصيات الرمزية المُشار إليها تواً، وإنما يمتد إلى بعض الأحداث العجائبية مثل غوص عفدال في الأرضية الكونكريتية للطارمة بعد أن ألقوه من سطح المنزل أو إنقاذ عيدو المجنون من قبل صقر هبط بشكل شاقولي ليحطم القفص الحديدي وينتشله من النار التي شبّت في قدميه ولم تصل إلى بدلته البرتقالية بعد.
تكتظ الرواية بالأفكار المُهيمنة التي تتردد على ألسنة الضحايا إلى الدرجة التي يصعب فيها على الناقد المتخصص تحديد الثيمة المركزية التي تشعّ على مدار النص الروائي الطويل. وعلى الرغم من أهمية الصرخة المُلتاعة التي تطلقها نيشتيمان، ابنة سربست المُستباحة: «تو تكي دري بابو؟» (أينكَ يا بابا؟) إلا أن الثيمة الرئيسية تكمن في عجز البطل سربست، وتتجلى في ضعفه البشري في مواجهة هذه المحنة الجماعية التي شلّت المدينة برمتها، ولعل نبوءة «الكوجك» أو العرّاف تحمل قدراً كبيراً من ثيمة الوهن الإنساني حينما يخاطبه قائلاً: «... إنك يا فتى ستعيش حياة كدِرة مثل السمكة التي تسبح في الماء الخابط... وسيقتلكَ ماءٌ من ظهرك» (267). يلعب الروائي على هذه الثيمة الكونية بمقاربة تشويقية تقطِّع الأنفاس بحيث يشعر القارئ بين فصل وآخر بأن الأب سيعثر على ابنته المخطوفة والأسيرة نيشتيمان، آخذين بنظر الاعتبار أن هذا الاسم يعني «وطن» فتتضاعف المحمولات الدلالية لتصبح العملية بحثاً عن وطن مخطوف ومستباح بكامله وليس مجرد ابنة واحدة فُقِدت في خضم الاجتياح ولن يجدها لأنها تحولت إلى كوّة أمل يُطل من خلالها على المستقبل القريب الخالي من المحن والكوارث في أقل تقدير.
* المنحى الأسطوري
لم تسقط الرواية في فخّ المباشرة والتقريرية على الرغم من احتشادها بالمَشاهد الواقعية الصادمة التي وثقّت بطريقة فنية ما قامت به عصابات «داعش» على مدى عام وبضعة أشهر، فلنتخيل ردود فعل المتلقي وهو يقرأ عشرين مشهداً لجلد الصبايا والشباب «المُخالفين لتعاليم شريعة داعش»، وبتر الأكف اليمنى لأيدي السرّاق بالسواطير، أو شنق النساء اللاتي لم يطاوعنَ أزواجهنَّ، أو إعدام الرجال والنساء الإيزيديين خنقاً لأنهم لم يغيّروا ديانتهم، أو إخصاء الأطفال كي لا ينجبوا «كُفاراً» في المستقبل، أو خِتان النساء المتزوجات كي لا يرتكبن المعصية، أو إلقاء السُكارى مكتوفي الأيدي من الجسر الحديدي كي يموتوا غرقاً، وما سواها من المّشاهد المروّعة التي تقشعر لها الأبدان.
وبغية تخفيف هذه القسوة التي تغطي مساحة واسعة من هذه الرواية، لجأ الروائي إلى الفانتازيا تارة وإلى الأساطير المجنحة تارة أخرى، فالقارئ يعرف سلفاً أن الطيور لا تتكلم، لكنه يتقبّل هذه الظاهرة الأسطورية حينما ترد ضمن سياقها العجائبي الذي يجعل من الصقر عاشقاً للمرأة الحامل، أو من الغراب ناقلاً للأخبار أو أن الحمل يمكن أن يمتد لـ13 شهراً ثم نكتشف في خاتمة المطاف الحيلة الغريبة للمرأة التي تذرعت بالحمل الزائف، بينما كانت تشدّ على بطنها وسادة بمجموعة من الخرق! وأكثر من ذلك، فإن المؤلف جعلنا نصدّق فعلاً أن عفدال الذي رموه من السطح قد غاص فعلاً في أرضية الطارمة الكونكريتية، وقد نبتت مكانة شجرة تين أخذت تكبر يوماً بعد يوم وسوف تتحول إلى مزار يحجّ إليه الإيزيديون من كل حدب وصوب.
لا شك في أن الأصوات المتعددة للرواة بما فيها صوت المؤلف نفسه تدين المواقف الغامضة لحكومتي المركز والإقليم اللتين لم تُحركا ساكناً لتضعا حداً لهذه الجريمة النكراء أو تُقللا من خسائرها الجسيمة، وإنما تركتا الحبل على الغارب وأتاحتا للإرهابيين أن ينفردوا بالإيزيديين كما تنفرد الذئاب الجائعة بآلاف الفرائس الواهنة العزلاء.