نصف قرن على أفلام عملاقة

بونويل الساحر... وبرغمن الغامض وآرثر بن المتمرد

فاي داناواي ووورن بيتي وجين هاكمن يسرقون مصرفاً في «بوني وكلايد» - رود شتايغر وسدني بواتييه «في حرارة الليل»
فاي داناواي ووورن بيتي وجين هاكمن يسرقون مصرفاً في «بوني وكلايد» - رود شتايغر وسدني بواتييه «في حرارة الليل»
TT

نصف قرن على أفلام عملاقة

فاي داناواي ووورن بيتي وجين هاكمن يسرقون مصرفاً في «بوني وكلايد» - رود شتايغر وسدني بواتييه «في حرارة الليل»
فاي داناواي ووورن بيتي وجين هاكمن يسرقون مصرفاً في «بوني وكلايد» - رود شتايغر وسدني بواتييه «في حرارة الليل»

في الثاني من أبريل (نيسان) سنة 1967 تقدّم ناقد سينمائي أميركي من المخرج إنغمار برغمن الذي كان حط في نيويورك لحضور مهرجانها الذي كان يُقام حينها في «الشارع 57 غرباً» لعرض فيلمه الرائع «برسونا».
لكن برغمن رفض الحديث عن فيلمه هذا، وقال للناقد: «أشكرك لكني لا أستطيع الحديث عن (برسونا) مطلقاً. لقد انتهى. إذا ما وجدت معنى ما فيه، فهذا عظيم وأكون ممتناً، لكن لم يعد لي اهتمام به».
ثم أضاف المخرج الذي وضع السينما السويدية بأسرها على الخريطة العالمية: «ثم إن الفيلم سيختفي قبل ظهور مقالتك».
في هذه العبارة الكثير من الصدق والسخرية. الأفلام الرائعة التي قدّمها برغمن في تلك الآونة كان لها جمهورها المخلص لها، لكنه، في أميركا ذلك الحين على الأقل، فئة قليلة العدد محاصرة بالإنتاجات الهوليوودية التقليدية كما كان الحال قبل ذلك الحين وبعده.
على الرغم من ذلك فإن عام 1967 كان من الأعوام المميّزة في السينما العالمية. «برسونا» لم يكن وحيداً لا في روعته ولا في تميّزه، بل إليه يمكن ضم ما لا يقل عن مائة فيلم آخر خرجت في ذلك العام من بينها نخبة تصل إلى نحو عشرين فيلما تتمتع بشروط الفيلم - التحفة.

خلف الستار
50 سنة مرّت على «برسونا» وسواه كانت فيها السينما حول العالم تنطق بلغة مخرجيها قبل أن يستولي عليها، بعد نحو 10 سنوات، المنتجون مرّة أخرى. الجدول البياني لتاريخ العلاقة بين المخرجين والمنتجين، إذا ما رسمناه، بدأ بالدور السلطوي لشركات الإنتاج وبداية «نظام النجوم» الذي لم يشمل النجوم فقط، بل المخرجين باعتبار الكثير منهم موظّفين لقاء أجر شهري. عندما انهار ذلك النظام في الخمسينات تبلورت قوّة المخرجين المتميّزين (من دون أن يغيب نظراؤهم التقليديون) ما أفسح المجال لموجة أفلام عبّرت عن أصواتهم وأساليبهم. هذا في الوقت الذي كانت السينما العالمية بأسرها، من مصر وحتى البرازيل، تشهد تطوّرات مماثلة.
لكن سنة 1967 تتميّز بكثرة الأفلام الجيدة التي حوتها ووفرة ما هو متميّز منها. ليست السنة الوحيدة في هذا المجال، لكن إذ ينظر المرء للعام الذي يؤرخ لنصف قرن من السينما يجد أن ما تم إنتاجه كان بالإجمال دلالة على حرية المخرج في التعبير، وأن هناك أكثر من عشرة أفلام لا يمكن للسينمائي، هاوياً أو محترفاً، تفويتها.
رغم ذلك، شكا المخرج الإسباني لوي بونيول من أنه اضطر لقطع مشهد من فيلمه «جميلة النهار» تلبية لرغبة المنتجين الشقيقين روبير وريمو حكيم. لاحقاً ما أعلن ذلك، لكنه في حينها كان بونيول قد عاد لتوّه من المكسيك التي قضى فيها سنوات عدّة أخرج فيها معظم أفلامه و«جميلة النهار» كان أول فيلم فرنسي له منذ عقود.
إنه عن رواية لجوزيف كاسل قام بكتابة السيناريو جان - كلود كارييه (ثاني تعاون بينه وبين المخرج) وفيه حكاية المرأة (كاترين دينوف التي، كباقي الممثلين، لم تكن سعيدة خلال التصوير لغرابة أسلوب المخرج) التي لا تشعر إلا بالبرود حيال زوجها. ويقنعها صديق (ميشيل بيكولي) بالتحوّل إلى عاهرة لتملأ حياتها العاطفية. في طيّات ذلك، هو فيلم عن التفكك الأسري للبرجوازية التقليدية مشوباً بمحاولات طمس ذلك التفكك للظهور بأن كل شيء على ما يرام. أمر مارسه المخرج لاحقاً في «السحر الخفي للبرجوازية» (1972).
الموضوع الاقتصادي والفوارق الطبقية كانا طرحين واسعي التطرق في ذلك الحين، والمخرج آرثر بن حول «بوني وكلايد» من مجرد فيلم عصابات إلى فيلم علاقات إنسانية وسط ظروف الفترة الاقتصادية الصعبة التي عاشتها أميركا في الثلاثينات. وورن بيتي، وهو يساري محلّف، أنتج هذا الفيلم وقام ببطولته عن سيناريو جيد من روبرت بنتون وديفيد نيومن اللذين كانا تقدّما بعملهما هذا - أولاً - إلى الفرنسي فرنسوا تروفو الذي نصحهما بزميله جان - لوك غودار الذي وافق على إخراجه إذا ما تم تحويل الحكاية إلى فيلم ياباني!
في النهاية تسلم مهامه آرثر بن الخارج من العمل التلفزيوني منذ سنوات قليلة وهذا نفّذ فيلماً جيّداً قوامه بحث العصابة (فاي داناواي في دور بوني وبيتي في دور كلايد مع جين هاكمن ومايكل ج. بولارد) عن المصارف وسرقتها مع الإشارة في أكثر من مشهد إلى أن المصارف ذاتها تسرق المواطنين. مع أن القانون لا يحلل الرد بالمثل، فإن بيتي يطلب من أحد مزارعي تكساس الذي استولى المصرف على منزله وأرضه أن يشفي غليله بإطلاق النار على لوحة المصرف المعلّقة. وفي مشهد آخر، يأنف بيتي عن سرقة زبائن المصرف الذي يسرقه مكتفياً بالمال المودع سلفاً.

الصفعة
«بوني وكلايد» و«الخريج» دخلا سباق الأوسكار في العام التالي، لكن الرابح كان فيلماً آخر مختلفاً عنوانه «في حرارة الليل» لنورمان جويسون. حكايته، المقتبسة عن رواية جون بول الموضوعة سنة 1965، تدور حول المتحري فرجيل تيبس (سدني بواتييه) الذي أمّ بلدة جنوبية صغيرة لزيارة والدته. إنه حسن المظهر. هادئ. يمتاز بالثقافة و… أسود البشرة. هذا يجعله مشتبهاً به عندما تقع جريمة قتل فيتحرك شريف البلدة (رود ستايغر) للقبض عليه قبل أن يكتشف، في اتصال، أن فيرجيل هو تحرٍ آتٍ من مدينة فيلادلفيا حيث يعمل، ويملك من الذكاء ما يفتقر هو، ورجاله إليه.
يضطر للتعاون معه خصوصاً بعدما أصرّت زوجة القتيل ذات التأثير (الممثلة لي غرانت) بذلك. سيُلقى القبض على أسود آخر بريء من الذنب، وسيكشف الفيلم في غمار حكايته كيف أنه من السهل اتهام الأسود بالجريمة لمجرد أنه أسود.
في مشهد ذي دلالة على عمق المشكلة العنصرية في الجنوب (تقع الأحداث في الستينات ذاتها) يدخل الشريف وفرجيل منزل صاحب مزارع القطن الثري إريك (لاري غيتس) الذي يستقبلهما بترحاب إلى أن يبدأ فرجيل بسؤاله حول جريمة القتل. يشعر إريك بالغضب ليس لأنه يمانع في الإجابة بل لأن السائل هو المتحري الأسود ما يعتبرها سابقة أن يدخل أسود منزله ويلقي عليه أسئلة من هذا النوع. يقوم إريك بصفع فرجيل الذي يرد عليه بصفعة أقوى لم يكن إريك مستعداً لها فيقول: «في وقت ما، كنت أستطيع أن أرديك قتيلاً بسبب ذلك».
الجريمة في فيلمين آخرين من ذلك العام هما «بوينت بلانك» لجون بورمان و«في دم بارد» لرتشارد بروكس.
«في دم بارد» مقتبس عن أحداث حقيقية أوردها الكاتب ترومان كابوتي في كتاب تحرياته بالعنوان ذاته كانت نشرت قبل عام واحد وقامت شركة «كولومبيا» بشراء حقوقها وإنتاجها سريعاً.
في عام 1959 اقتحم رجلان منزلاً في ريف كانساس وقتلا عائلة من أربعة أفراد بدم بارد ثم قاما بالفرار من المكان مع ما استطاعا سرقته إلى أن تم القبض عليهما. سيناريو بروكس اتبع أسلوباً واقعياً وشبه تسجيلي (صوّره كونراد ل. هول بالأبيض والأسود) ما جعل الفيلم يبدو أقسى مما كان يمكن له أن يكون فيما لو حاكى الأفلام الروائية الأخرى. سكوت ويلسون، وهو ممثل رائع في كل دور يؤديه وغير معروف اليوم البتّة، وروبرت بلايك (الذي يقضي حالياً سنوات سجنه لاشتراكه - غير المباشر - بقتل زوجته) قادا البطولة.
الفيلم الآخر هو إطلالة المخرج البريطاني جون بورمان إلى هوليوود. حكايته تتميّز كذلك بأسلوب فذ: واقعي، وفي الوقت ذاته ينهل من الخيال ما يستطيع. وهو مأخوذ أيضاً عن رواية وإن كانت تتبع الأدب البوليسي وضعها دونالد وستليك بعنوان «الصياد».
هنا حكاية متشعبة: ووكر (لي مارڤن) ومال (جون ڤرنون) يشكلان نواة عصابة. مال يخدع صديقه ووكر ويطلق النار عليه ويتركه فوق جزيرة ألكاتراز ويستولي على حصته من الغنيمة، كما يستولي على الفتاة التي يحبها (آنجي ديكنسون). لكن ووكر لا يموت، وبعد حين يعود ليصطاد أفراد العصابة بتشجيع من المتحري يوست (كينان وين) وصولاً إلى مال مطالباً بحصته (على صغر قيمتها) ومسترداً المرأة التي يحب.
نجاح «بوني وكلايد» غطّى على «بوينت بلانك» لكنه لم يمنع بورمان من النفاذ إلى أعمال لاحقة في هوليوود في الأعوام التالية إلى أن غادرها سنة 1977 إثر فيلمه الأخير هناك «طارد الأرواح 2».

من أنحاء العالم
كان لافتاً، بالنسبة للسينما العربية، أن السنة المذكورة هي التي عرفت بهزيمة 1967 إثر اندلاع حرب دامت أقل من أسبوع بين دول عربية وإسرائيل. بالتالي انحسر الإنتاج المصري وعروضه كون الحرب وقعت قرب منتصف السنة. على ذلك يسجل لها فيلم «الزوجة الثانية» لصلاح أبو سيف و«جفت الأمطار» لسيد عيسى على الأقل.
في العام ذاته خرج الجزائري «محمد - لخضر حامينا» بجائزة العمل الأول من مهرجان «كان» عن فيلمه «رياح الأوراس».
1967 كان عاماً ثرياً بالنسبة للسينما الفرنسية، فإلى جانب فيلم بونويل «جميلة النهار» قدّم جاك تاتي «بلايتايم» وحقق جان - لوك غودار ثلاثة أفلام (هي: «ويك إند» و«أمران أو ثلاثة أعرفها عنها» و«الصيني»)، وأنجز جان - بيير ملفيل فيلمه البوليسي الرائع «الساموراي» وأمتع روبير بريسون هواة أفلامه بعمل جديد عنوانه «موشيت» في حين تشارك جاك ديمي وأغنيس فاردا إخراج «شابات روشفور».
لكن من الخطأ اعتبار أن هذه الأفلام المذكورة، ما بين الولايات المتحدة وفرنسا، هي كل ما يستحق الإشارة إليه. في مستوى مواز من الأهمية شاهدنا الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني يحقق فيلمه الأول بالإنجليزية «تكبير صورة» (Blow Up) الذي تقع أحداثه في بريطانيا. وزميله (من أسلوب مختلف) إليو بتري أنجز «لا زلنا نقتل بالأسلوب القديم» بينما أنجز بييترو جيرمي فيلمه الجيد «غير الأخلاقي»، ومن البرازيل جاء غلوبر روشا بفيلمه «المدخل». واليوغوسلافي ألكسندر بتروفيتش فيلمه الممتع «حتى إني قابلت غجراً سعداء».
أما «برسونا» الذي تم إنتاجه قبيل نهاية عام 1966 لكنه لم يعرض عالمياً إلا مع مطلع 1967، فشهد انتشاراً واسعاً على الرغم من شكوك برغمن حياله. هذا ما يجعله أكثر انتماء للسنة موضوع الحديث.
«برسونا» كان الفيلم الثاني عشر للمخرج برغمن. وكان أيضاً التعاون الكامل السادس بينه وبين مدير التصوير سڤن نيكڤست. وهو من «أصعب» الأفلام تحليلاً من بين ما حققه المخرج ويعمل على عدّة مستويات، فهناك مستوى العلاقة الخاصّة بين بطلتيه (الممثلة المريضة بنوبة صمت ليڤ أولمَن والممرّضة بيبي أندرسن)، ومستوى ما يعنيه الرمز الكامن في تلك العلاقة. إنه عن خداع النفس. فيلم عن المعايشة الداخلية وفي الوقت ذاته ما نسمح بممارسته من هذه المعايشة في حياتنا اليومية. وهناك مستوى آخر يتعامل الفيلم معه هو في اختيار المخرج لما يود التعبير عنه بالطريقة التي يريد، والتي تخلق أحياناً قدراً من حيرة المتلقّي حيال ما يراه. لكنها حيرة محسوبة لا في عداد التركيبة الفنية التي حققها المخرج لفيلمه فقط، بل أيضاً في عداد التركيبة النفسية للشخصيات التي يتعامل معها.
هو أيضاً فيلم شعري ممتزج بلون تجريبي خاص من دون التخلّي عن عنصر الدراسة النفسية التي ميّزت الكثير من أفلام برغمن حينها. وهو آسر في كل استخداماته وعناصره ومفتاحها جميعاً واحد: اختيارات المخرج السويدي من الأداءات. من الحوارات. من اللقطات، من حجم اللقطات. من زوايا اللقطات. من التوقيت الذي يختاره للانتقال من صورة إلى أخرى.

IN THE BOX
‫من خطف جوائز 1967؟‬
بعض الأفلام المذكورة أعلاه فازت بجوائز العام التالي، لكن جوائز السنة المذكورة الأساسية توزّعت على النحو التالي: ‬

‬• ‫الأوسكار لفيلم أميركي: «رجل لكل الفصول» لفرد زنيمان‬
‬• أوسكار أفضل فيلم أجنبي: «رجل وامرأة» لكلود ليلوش (فرنسا)
• بافتا: «من يخاف فرجينيا وولف» لمايك نيكولز (الولايات المتحدة)
• غولدن غلوبس (دراما): «رجل لكل الفصول»
• غولدون غلوبس (كوميدي): «الروس قادمون» لنورمان جويسون
• مهرجان برلين: «المغادرة» لييرزي سكوليموفسكي (بولندا)
• مهرجان كان: «انفجار» لمايكل أنجلو أنطونيوني (إيطاليا- بريطانيا)
• مهرجان فنيسيا: لم يُعقد ‫‬



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».