فريد أبو سعدة يستعيد مكابدات الكتابة وطقوسها

في كتاب قيد الطبع

أبو سعدة
أبو سعدة
TT

فريد أبو سعدة يستعيد مكابدات الكتابة وطقوسها

أبو سعدة
أبو سعدة

فيما يشبه خلاصة الخبرة أو الحكمة المستقاة من مكابدة تجربة الإبداع والحياة معا، والطقوس التي تجمعهما أو تفرق بينهما في لحظة الكتابة، يدور هذا الكتاب والذي يحمل عنوان «الصبي الذي كنتُ» للشاعر فريد أبو سعدة.
الكتاب قيد الطبع بالهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة. ويصفه أبو سعدة بأنه «محاولة لاستراق النظر، بعين طفل في تجربتي التي تنوعت ما بين الشعر والمسرح والتأملات النقدية والفن»، لافتا إلى أن «للكتابة طقوسا وللحياة طقوسا مغايرة، وأنت تخضع في اللحظة المعينة لواحدة منهما، أن تعيش أو تكتب».
وحول الكتابة كطقس يشكل لب مغامرة الإبداع يقول أبو سعدة: «قلت في هذا الكتاب: عندما أدخل في طقس الكتابة يبهت العالم الخارجي، إنه يختفي بالقدر الذي تتمدد فيه طقوس الكتابة مالئة الوعي كله، عندما تعيش فأنت تمتلئ بالخبرة، وتغزوك مشاريع للكتابة، مشاريع تنتج من التعامل اليقظ، العقلاني مع السياق، وهذا ما يمكن اعتباره طموح الكتابة، أما الدخول في الكتابة فشيء آخر، الأمر يبدو مثل سبّاح ينظر إلى الماء إلى الشاطئ يقدر المسافة ويحدد المسار والزمن الذي يحتاجه لذلك، ثم ينزل إلى الماء فتتغير التقديرات وتصبح مهمته هي السباحة ضد التيار أو معه في آن!».
يضيف صاحب ديوان «وردة الطواسين»: «القصيدة تباغتني كلسعة السيجارة، إنها تأتي وكأن ليس لديها وقت، إما أن تستدير إليها بكلك أو تغادرك تماما، كثيرا ما تأتي كزائر الفجر، بعد أن يكل الجسد عبر مشاغبات النهار، تبزغ فجأة كضوء قاهر أمام عيونك المجهدة، تسلك من الفراش كخيط، وتلقي بك كالممسوس، لتبحث عن ورق وقلم، وكثيرا ما كنت في الصباح أجد أنني قنصت بعض العبارات فوق كراريس الأولاد أو على أغلفة الكتب أو الهوامش العمودية للصحف، تبدأ دائما بهذه الهمهمة الغريبة، الإيقاع الذي يحاول أن يضبط نفسه وتحاول أنت أن تتماهى معه، شيء كالمس، لا بد أن شكلي بالغ الغرابة أمام أولادي وزوجتي».
ويتابع حول تجليات هذه الطقوس قائلا: «أنا لا أزكي الذات عندما أقول إن الكتابة عذاب، في السنوات الأخيرة، نتيجة الخبرة بالكتابة، أصبح لدي الشجاعة لأقول لبعض الزوار: لا، أصبح لدي الخبرة بهاجس الكتابة الحقيقي وأصبح في مقدوري كنز القصيدة لمدة أطول قبل الشروع في مراودتها واقتناصها.
أحب الخريف والشتاء، حيث يصبح العالم حميميا وأكثر إنسانية، ما يشعرني بالتوحد والأسى، أحب الليل والهدوء، أحب صوت فيروز شرط أن يبدو قادما من بعيد، خافتا مجرد همس تمارسه القطيفة، ولا يناوئ الوعي أبدا وقد رتبت مكتبي، المطفأة على يميني كبيرة بقدر الإمكان، الورق الأبيض، والأباجورة على يساري مسلطة على البياض فيبدو مستفزا، أنا الآن أمام سلطة البياض، القهوة، السجائر، بعض وجوه العائلة يطلون من الصور وأبادلهم الابتسام، ثم فوضى عارمة وأنهض منهكا حائرا، أحاول أن أخلص النص من هذه الفوضى، كمن ينظف الجنين الذي خرج لتوه، ثم أرتمي في الفراش كقتيل، لا مثل رجل خرج من المعركة بجروح كثيرة ويود أن يقول له أحد إنك أيضا جرحت خصمك جروحا عميقة هذا هو العزاء الوحيد».
ويمارس صاحب مسرحية «سيد الوقت» الذي جسد فيها صراع الفيلسوف الصوفي الشهير، السهروردي، مع السلطان صلاح الدين الأيوبي، ما يشبه الاختبارات الأولية للنص قائلا: «أحيانا عندما يكون الوقت مناسبا أو لا يكون، أسرع بالنص إلى أقرب الأصدقاء وأطلب منه أن يقرأه علي، أريد أن أشعر بإيقاعه أريد أن أعرف هل أصابته القصيدة في مقتل كما أصابتني أثناء الكتابة أقوم وأقعد، وأمشي في المكان بلا هدف، أصنع قهوة غير التي بردت، وأشعل سيجارة وفي المطفأة أكثر من سيجارة تحولت بطولها إلى رماد! أحدق في الأشياء شاردا، ثم أعود وأقرأ ما كتبت، وأكتب لأغير بعض الكلمات وأتلكأ أمام مفردة، أتوجس من التوقف ثم أندفع فوق البياض المناوئ».
وحول العلاقة مع الآخر إبداعيا يقول: «الآخرون هم الجحيم... هكذا قال سارتر وكم هي صادقة هذه العبارة، لكن أستطيع أن أضيف إليها أن أحب الناس إلي أمام القصيدة هم آخرون! لأن الفعل الشعري أعمق بكثير من كل المواضعات الاجتماعية إنه زلزلة حقيقية وهو لاعتماده علي مناطق من اللاوعي وعلى تداعيات قد تدهش الشاعر نفسه قبل القارئ، أقول نظرا لاعتماده على قانون مخالف للقانون الاجتماعي أصدق بما لا يقاس من أي علاقة بين الشاعر والآخرين.
هذه الكتابة التي تؤرق وتزلزل وترج تجعلني من حين إلى آخر أنظر إلى القصيدة وقد اكتملت بشيء من الريبة، هل اصطدت حقا هذه السمكة التي لا أراها أم أن عدّتي لم تخرج سوى جزء منها، كثيرا ما أستسخف القصيدة بعد أن عركتني وتركتني منهكا، وملقى كثوب مبلول، هذه المكابدة أغرب ما فيها أنها لا تحتكم إلى معيار ما، بل إنني كثيرا ما أتشكك في إعجاب البعض بما أكتب!».
ويخلص صاحب ديوان «ذاكرة لوعل» في كتابه إلى ما يشبه حكمة الشعر والحياة معا، حيث يقول: «ربما وصلت إلى قناعة ما بأن القصيدة التي أعود إلى قراءتها بعد سنوات من نشرها، وأجدها غريبة وجميلة وكأنها لشاعر آخر، هي القصيدة الجيدة وأعتقد أن كثيرا من الرضا الذي يصاحب إنجازي لقصيدة ما يكون راجعا إلى اختلاط النص مع السديم الشعري الذي باغتني، أي أن النص وحده غير كاف، إذ يشبه هذا التلذذ بأخيلتك عن لقاء الحبيبة، قبل اللقاء نفسه، وربما يصبح اللقاء تعيسا بالقياس إلى خيالاتك المسبقة عنه.
نعم قليلة هي القصائد التي يتماهى فيها النص مع السديم الشعري، القصائد التي تقتنص الحالة جميعا، القصيدة التي هي جماع نفسك، لنا جميعا طفولة وليست بالضرورة جميلة أو هانئة، ولكن للذاكرة آلياتها الغريبة والمدهشة، إنها تطرد ـ ربما بمبدأ تفادي الألم ـ كل قسوة أو قبح، فلا يبقى سوى الإحساس باللذة والفرح أمام تذكر هذه التفصيلة أو تلك، إن الذاكرة الحية حياة مضافة، ما أحاول أن أقوله بسيط للغاية ومربك للغاية، أحاول أن أقول إن الكتابة هي فعل التملص والتمرد الوحيد على العالم وعلى الآخرين، هي فعل التحقق من الذات، من تفردها، من عدم اختلاطها بالسوي، هكذا بالكتابة رغم مكابداتها يصبح الإنسان وحيدا في مواجهة العالم، وبها يمكنه اكتشاف نفسه، موقعه، دوره، رؤيته، الكتابة تعني الاحتراق وسط الآخرين من أجل أن تقوم من رمادك كطائر الفينيق!!».



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».