الأساطير الإغريقية تعود إلى النوم بعد رحيل والكوت

ديريك والكوت، الهولندي والأسود والبريطاني معاً، اللاشيء أو الأمة الكاملة، أمير الشعراء وكبير المسرحيين، المفكّر الذي أعاد للكاريبي اعتباره، والأديب الذي وضع سانت لوسيا على خريطة جائزة نوبل، بدا وكأنه اكتفى من فترة حكمه المديد فغادر عالمنا عن 87 عاماً. كان لأكثر من نصف قرن وكأنه قوة احتلال كاريبيّة دخلت قلب الثقافة الغربية الأنجلوفونية، فأحكم سيطرته على لغتها، وحوّلها إلى ما يشبه مملكته الخاصة، جالساً فيها على عرش الشعر أميراً دون منازع، حتى إنه لمّا مات لم يترك وريثاً بنفسِ قماشته ليتولى المنصب من بعده.
من جزيرة عزلاء منسيّة، من سانت لوسيا - التي لم يسمع بها أحد تقريباً في العالم القديم - انطلق والكوت ليقارع عمالقة الشعر: شكسبير وتشوسر ودانتي وهوميروس وإليوت معاً. كان أكثرنا إدراكاً لحقيقة أن هؤلاء سادة أبديون للقصائد، لكن طموحه لم يكن أقل من أن يقف معهم على الصّعيد ذاته، فصنع من جزيرته الصغيرة عاصمة للكلاسيكيات، وتولى بموهبته الفذّة إمارة الشعر التي اعترفت بها الأكاديمية السويدية ذاتها، فمنحته جائزة نوبل للآداب عام 1992 عن قصيدته الملحمية النفس: أوميروس، التي عارض فيها إلياذة هوميروس جاعلاً من أخيل وهيلينا ابنين لصيادي جزر الأنديز الغربية.
انحدرت أسرته من العبيد الخلاسيين الذين حكَمَ عليهم الغرب بدفعِ ثمنِ نهضته، فورث تاريخ الكولونيالية كلّه دماً في عروقه. تلقى صغيراً تعليماً كولونيالياً (كلاسيكياً)، لكن موهبته منعته من أن يذوب في الآخر، وأطلقته عبر فضاء الأدب مغامرةً نقديّةً ثريّةً لتجربة الهويّة القوميّة كلّها. نشر أول دواوينه في التاسعة عشرة بمائتي دولار استدانتها والدته مديرة المدرسة التي رَبَّته بعد وفاة والده، وأدخلته إلى كوكب الأدب الكلاسيكي الرّحيب وآمنت به دوماً.
بعدها بعام كان يُخرج أولى مسرحياته قبل مغادرته لدراسة الأدب الإنجليزي والفرنسية واللاتينية في الكلية الجامعية بجامايكا ليتخرّج فيها عام 1953.
مشروع والكوت الشعري عَنَى أن يستولي المُستَعمَر على تراث المُستعمِر الحضاري ولغته كأدوات يعيد من خلالها الاعتبار الإنساني لما انتهت إليه التجربة الكولونيالية في الكاريبي من تكوين بشري هجين دماً ولغة وثقافة معاً. وهو في ذلك المشروع استدعى أرواح كبار الشعر الإنجليزي شكسبير ووردزوورث وييتس وإليوت بقصائد ترددت أصداؤها فيما يشابه «بانثيون» أفريقياً وإغريقياً معاً. قصائده كانت مليئة بالألوان والتفاصيل أنجبتها مسارح أرض المعاناة والألم الكاريبي على هيئة بصريات تشكيلية فاتنة في قوالب أقرب ما تكون للأشكال التقليدية للشعر. وحتى عندما غادر والكوت سانت لوسيا إلى رحاب العالم بدا من شعره أنه حمل الكاريبي كله معه، ولذا بقيت قصائده مزروعة دائماً في مسقط رأسه، مهما تقاذفته الأمواج بعيداً.
انتقد كثيرٌ من المثقفين والحراكيين السود في السبعينات اندماج والكوت باللغة الإنجليزية، واتهموه بالتبعية الثقافية لكنه أجابهم شعراً: «أنا لا أنتمي لأي أمة سوى الخيال، فبعد الرجل الأبيض، لفظني السود أيضاً، أولهما وضع أصفاداً في يدي معتذراً بـ(التاريخ)، والآخر قال إنني لم أكُ أسود بما يكفي». لكن وللحقيقة - ورغم موقفه النقدي الصارم من الإمبراطوريّات الغربيّة - فإن للولايات المتحدة الفضل الأكبر في تقديم بيئة النجاح التي أزهرت فيها موهبته. فهو حاز منحةً أولى عام 1957 ثم حصل على فرص للتدريس في جامعات النخبة الأميركية بوسطن وكولومبيا وروتجرز وييل ولاحقاً في كندا والمملكة المتحدة قبل أن تتسبب له منهجيته الحميمية بالتدريس بمشكلات في جامعتين منهما لاحقاً بعد اتهامات له بالتلاعب بالنتائج من قبل فتيات رفضن (فيما قيل) محاولاته لإغوائهن، وهي التهمة التي لاحقته إلى أكسفورد واضطرته لسحب ترشيحه لمقعد أستاذ الشعر في جامعتها المرموقة، وهو منصب أشبه بعمادة الشعر الإنجليزي كلّه، ولم يكن ليستحقه وقتها سواه.
هذه الاستقلالية الفكرية عن اتخاذ موقف مطلق من الأشياء والأحداث في التراث الكولونيالي لبلاده ورفض العدميّة وسعت من نطاق جمهور والكوت إلى ما بعد الكاريبي، وجعلته وجهاً مقبولاً للنضال ضد الكولونيالية، وتراثها المقيت. وعن ذلك كان يقول إنه لا ينبغي رفض الأشياء لأنها أتت من الجانب الآخر، «فمن الغباء مثلاً ألا نقرأ شكسبير لمجرد أنه من ذوي البشرة البيضاء». وكان دائم الانتقاد تجاه إصرار مدرسي الشعر على الأصالة والتفرد، إذ إنه يعتبر «إن الشعراء العظام ليس لديهم وقت لهراء الأصالة هذا»، فالتجربة البشرية في النهاية واحدة. لكنه عام 2012 تحدث خلال مقابلة صحافية عن أن «المؤسسة الثقافية في الولايات المتحدة وبريطانيا بعد كل هذه السنوات والجوائز ما زالت تراني مجرد كاتبٍ أسودَ آخر. ذلك أمر سخيف فعلاً، وأنا أرفض ذلك التقسيم بين مسرح للسود وآخر للبيض، ولا أريد أن أكون طرفاً فيه. أنا كاتب أنتمي للكاريبي، وذلك فقط».
يكاد نجمُ والكوت المسرحي يخفت أمام سطوع نجمه الشعري، إذ إنه كتب وقدّم أكثر من ثمانين عملاً مسرحيّاً لكن غالبها بقي رهينة محلية بينما انطلق شعره في الفضاء العالمي، وهو ما كان يزعجه على الدوام متهماً عواصم الثقافة الغربيّة في لندن ونيويورك بالانتقائية في الأخذ من ثقافة الكاريبي. لكنه حقيقةً أخرج أعمالاً مسرحية وأوبرات مهمة في لندن وميلان بالإضافة إلى الكاريبي بالطبع، مقدِّماً خلطات عجيبة رائقة من ثقافات الكاريبي المحليّة والكلاسيكيات الإغريقية في نصوص مبهرة. عندما سُئل والكوت عن جرأته في اللعب على النصوص الكلاسيكيّة قال إنه «كي تكتسب الأسطورة معنى حقيقياً يجب أن نصدقها»، وبالتالي فإن توظيفه للهجات والتعابير المحلية يُكسِب تلك الأساطير بُعداً واقعياً يقربها من الناس، وهكذا تحيا الأسطورة الإغريقيّة ذات البعد الإنساني في ثياب كاريبية محلية.
والكوت استلهم هذه المعالجة من زيارة له إلى جمهورية الدومينيكان حيث كان رافائييل تروخيو يحكمها بالحديد والنار لثلاثين عاماً لحين مقتله، فكانت استعارة رمز الديكتاتور في كريون الإغريقي لتقريب الصورة إلى ذهن الجمهور الكاريبي. عن ذلك يقول والكوت: «لقد كان ذلك ما يفعله سوفوخليس الإغريقي تماماً: يعيد تقديم الأسطورة القديمة بأدوات معاصرة».
ليس الشعر وحده قد خسر أميره بغياب والكوت، بل خسرت اللغة أيضاً عاشقاً مولعاً. فقد كان دائماً مسحوراً باللغة وقدرتها الفائقة على التطور والتحول والذوبان، فكأنها مخلوق حي يتشكل وفق بيئته وتقلبات الأيام من حوله. وقد نُقِلَ عنه قوله: «أنت لا تصنع من نفسك شاعراً، بل أنت تجد نفسك في حالٍ حيث هناك شعرٌ تلتقطه» واصفاً قصيدته الطويلة «منتصف صيف» بأنها امتداد طبيعي للّغة من حوله، وكان حينها يدّرس في جامعة بوسطن ذات الأجواء الخلابة والجدالات الطازجة.
بإغماض والكوت عينيه، ستعود الأساطير الإغريقية إلى النوم، وسترفرفُ على روح شكسبير وحدة قاتلة، وستتراجع قوات الاحتلال الكاريبية التي حكمت لغة الإنجليز نصف قرن لتسكن في قبرٍ صغير مقابل البحر في سانت لوسيا.