هل حان وقت تنفيذ استراتيجية الأمم المتحدة لحصار الارهاب؟

في ظل تصاعد عنف المتطرفين

هلع ورعب في لندن بعد هجمة إرهابية أمام مجلس العموم («الشرق الأوسط»)
هلع ورعب في لندن بعد هجمة إرهابية أمام مجلس العموم («الشرق الأوسط»)
TT

هل حان وقت تنفيذ استراتيجية الأمم المتحدة لحصار الارهاب؟

هلع ورعب في لندن بعد هجمة إرهابية أمام مجلس العموم («الشرق الأوسط»)
هلع ورعب في لندن بعد هجمة إرهابية أمام مجلس العموم («الشرق الأوسط»)

«نفذ السهم» كما قال يوليوس قيصر ذات مرة، وبات على الإنسانية مواجهة التطرف العنيف، الذي غيّر حال العالم من الأمن والأمان إلى الخوف والقلق. وصار الإرهاب العنيف أداة عابرة للحدود والسدود... إرهاباً يتصل بالأفكار، وكذا بالجماعات. وأضحى يمثل حربا عالمية غير معلنة... حيث ما من بقعة أو رقعة في شرق البسيطة أو غربها إلا وتشهد في السنوات الأخيرة عمليات قتل وترويع وسفك دماء.
ولعل ما جرى في لندن خلال الأيام القليلة الماضية قد أرسل أكثر من إشارة للقابضين على جمر حماية الحريات الإنسانية، مفادها أن حروبهم ضد عقول شديدة الذكاء، وإن كانت من أسف شديد تستغله في الدمار والمرار، فاختيار موعد تنفيذ العملية، لم يكن عشوائيا، بل تذكير متجدد لما جرى في العاصمة البلجيكية بروكسل قبل سنة.
لم يعد الإرهاب الأسود يداري أو يواري نفسه، سواء تلبس الأمر مشهد «الذئاب الفردية»، أو أعلنت منظمات بعينها، وفي المقدمة منها تنظيم داعش المتطرف الإرهابي مسؤوليتها عن تلك الحوادث. فمنفذ عملية دهس المارة في لندن «هو جندي لـ(داعش)، نفذ العملية استجابة لنداءات استهداف رعايا دول للتحالف الدولي...»... هكذا تحدث بيان «داعش» الذي أعلن من قبل مسؤوليته تجاه ثلاث عمليات عشوائية، دهست من خلالها مركبات أتباعه وأشياعه، مواطنين أوروبيين أبرياء.
ثم أنه وطوال عقد أو أكثر، وتحديدا منذ السابع من يوليو (تموز) من عام 2005، والإرهاب «القاعدي» ثم «الداعشي» يطارد الآمنين، ويؤدي إلى مقتل العشرات والمئات، كما رأينا في نيس وبرلين. ولهذا؛ أضحت الحاجة ملحة إلى جهود دولية وتنادٍ عالمي للمجابهة والمواجهة، على أكثر من صعيد... بدءاً من معارك القتال المسلح على الأرض، كما هي الحال في الرقة والموصل، وصولا إلى المعارك «السيبرانية» (الإنترنت) خلف الشاشات وفي الغرف المغلقة.
أليس هذا هو الوقت القيّم لتفعيل خطة العمل من أجل منع التطرف العنيف التي قدّمها الأمين العام السابق للأمم المتحدة «بان كي مون» للجمعية العامة للأمم المتحدة في 12 فبراير (شباط) 2016 وقوبلت بالترحاب؟
ربما تكون المنظمة الأممية الآن أمام أحد أهم الاستحقاقات التي يرتبط بها وجودها، ذلك أنه إن قدّر لها بلورة نهج كامل وفاعل على الأرض لمحاربة الإرهاب، فإنها بذلك تكتب شهادة ميلاد جديدة لحضورها الأممي. هذا نهج لا يتخذ من التدابير الأمنية فقط أساسا لمكافحة الإرهاب، بل يبدع ويبتكر أيضا في اتخاذ خطوات وقائية منهجية لمعالجة الظروف الكامنة التي تدفع الأفراد إلى التطرف والانضمام إلى الجماعات المتطرفة العنيفة.
الأمم المتحدة في هذا التوقيت الملتهب، تدافع عن جوهر كيانها؛ إذ إن التطرف العنيف إساءة مباشرة لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها؛ لأنه يقوّض السلام والأمن وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة، ولا يسلم أي بلد أو منطقة من إثارة. على أن ثمة قائلا يقول إن واشنطن شهدت الأيام القليلة الماضية مؤتمرا شارك فيه وزراء خارجية 68 دولة بهدف واضح، هو محاربة «داعش»، وربما هذا يكفي في الحال؛ ذلك أن الخلاص من «داعش» يعني الخلاص من الإرهاب حول العالم.
ولكن هنا يبقى التوضيح أمراً حتمياً، ذلك أن القضاء على «داعش» عسكرياً لا يعني نهاية حضوره فكرياً، ولا سيما أنه يتستّر وراء حواجز دوغماتية لا تغيب عن ناظري المتابعين للمشهد؛ فالأفكار لا تموت، وإنما تطير بأجنحة. والشاهد أن مؤتمر واشنطن على أهميته لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون أداة بديلة للإجماع الأممي.
إذ ربما أقصى ما يمكن أن يتوصّل إليه المجتمعون في واشنطن هو طرح خطة سياسية عسكرية للقضاء على «داعش»، وهذا أمر جيد في حد ذاته، وواشنطن ماضية فيه قدماً. فلقد أعلن الجنرال جوزيف دانفورد، رئيس هيئة الأركان المشتركة نهار الخميس 23 فبراير الماضي، أن خطة تقودها وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) لهزيمة «داعش»، من المقرّر أن تظهر سريعاً في شكل مسوّدة تتجاوز أطرها اللوجيستية حدود العراق وسوريا لتشمل الخطر الذي يمثله المتشددون حول العالم في إذكاء الصراعات.
وفق «البنتاغون» اجتذب «داعش» نحو 45 ألف مقاتل أجنبي من أكثر من 100 دولة حول العالم. ومن ثم، لكي تنجح الخطة الأميركية، فإن هناك حاجة أولا إلى قطع النسيج الذي يضم الجماعات الإقليمية التي تشكل الآن خطراً عالمياً.
القضية المحورية هنا هي أن واشنطن تتقاطع خيوطها عكسياً مع بعض من تلك الدول. وعليه، يبقى معين الأمم المتحدة هو الأنفع والأرفع في المواجهة القائمة والمقبلة، وتبقى استراتيجية المنظمة العالمية لمكافحة الإرهاب «القاسم المشترك» الذي يحتمي خلف جداره كل من يود الفرار من نيران الكراهية والعداوات الأصولية.
في هذا السياق، تنتاب الكثير من السياسيين والقادة حول العالم المخاوف من أن إدارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب إدارة «انعزالية»، بمعنى أنها تشعر بأهمية المنظمة الأممية، بل تسعى إلى تنفيذ أجندة «أميركا أولا» بمنأى عن الجميع. والمؤكد أن ذلك قد يكون بعضه صحيحا بالفعل، لكن مواجهة الإرهاب حكما تحتم على إدارة ترمب التعاطي بإيجابية تتجاوز حدود البرغماتية الضيقة، إلى ما يمكن أن نسميه «الأنانية المستنيرة». فمن خلال زخم الجهود العالمية لمحاربة الإرهاب، تضمن الولايات المتحدة الأميركية بناء مجتمعات قوية، وتعزّز من إمكانات حماية الداخل الأميركي. وأغلب الظن أن اجتماع واشنطن الأخير، كان بداية لتعاون أميركي - أممي إيجابي سيشهد العالم آثاره عما قريب.
من المثير جدا أن استراتيجية الأمم المتحدة التي نحن بصددها لم تسلط عليها الأضواء، في حين أن موضوعات أقل أهمية تصدح بها وسائل الإعلام صباح مساء كل يوم، ولولا التصاعد المخيف لوتيرة الإرهاب في الفترات الأخيرة لما أعارها أحد التفاتاً يذكر على أهميتها.
ولكن يبقى أن كارثة الإرهاب والإرهابيين التي تحتاج اليوم إلى جهود أممية للمواجهة، باتت تسيطر على الأراضي بالمعنى الجغرافي التقليدي. ثم تنطلق إلى الفضاءات الرحبة عبر وسائط التواصل الاجتماعي لإيصال أفكارها و«إنجازاتها» المذمومة آنيا إلى مختلف أرجاء العالم. وفي هذا تعمل على تحوير قيم السلام والعدالة والكرامة الإنسانية التي نشترك فيها جميعا، بحسب منطوق ونص الاستراتيجية.
من أفضل الأوراق والمداخلات التي قدمت أمام مجلس الأمن حول السلام والأمن الدوليين، يأتي حديث السفير مارك ليال غرانت، رئيس بعثة بريطانيا لدى الأمم المتحدة عن التطرف وسبل مكافحته. وكان السفير قد قدم ورقته قبل سنتين تقريبا، ولكن لم يُلتفت إليها. وها هي بلاده في مقدمة الدول التي تدفع ثمن تقاعس المجتمع الدولي عن مكافحة التطرف العنيف بوصفه نوعا من أكبر التحديات الدولية المسلحة التي تواجهها.
السفير البريطاني يرى أنه لا بد من مواجهة المتطرفين بكل حزم، ومن الواجب على القيادات السياسية، والقيادات الدينية تحديدا، القول بوضوح «هذا لا يمثل ديني». لكن عنده أيضا أن هذا غير كاف. ففعل الإدانة هنا يتوقف عند الحدود السلبية، في حين أن التغيير الإيجابي والمواجهة الخلاقة تقتضي تشجيع بديل إيجابي يتمثل في الحديث عن التسامح والشمولية على سبيل المثال.
عبر الأعوام الماضية تساءل الكثيرون: «لماذا يقدِم هؤلاء الشباب على التطرف؟ ولماذا يسعى بعضهم لدهس الأبرياء أو تفخيخهم بالعبوات الناسفة، أو قطع رؤوسهم دون أدنى ملمح أو ملمس من إنسانية؟
الجواب العقلاني الذي تقودنا إليه سطور الاستراتيجية المشار إليها يتمثل في غياب المجتمعات المنفتحة والمنصفة... المجتمعات التعددية التي تحتضن الجميع وتقوم على الاحترام الكامل لحقوق الإنسان، وتتيح الفرص الاقتصادية للجميع. وحال توافر الوجه الإيجابي لتلك المجتمعات وانتفاء الوجه السلبي المتقدم، سيضحى لدى العالم أفضل بديل ملموس ومجد للتطرف العنيف وأفضل وأنجح استراتيجية تنزع عنه جاذبيته.
يستدعي المشهد الدولي المأزوم حالياً، تناديا دولياً، لمناقشة حال ومآل وقود التطرف والإرهاب، أي الشباب، من كل الأديان والأجناس، ذلك أنه وإن كانت الأصوليات المذهبية تكثر عند البعض، فإن صعود القوميات والشعوبيات عند البعض الآخر سيقود حتما إلى عنف وعنف مضاد. بل ربما نرى الإرهاب متصاعدا داخل الجنس والعرق الواحد؛ لأن كارثة المتطرف أنه لا يرى غير نفسه في عينيه، ولا مكان لطرح آخر عند «ملاك الحقيقة المطلقة». في هذا الإطار الأممي، ربما يتوجب على المنظمة الأممية الدعوة إلى مؤتمر عالمي، قياداته من علماء النفس والاجتماع، لا من السياسيين أو العسكريين ورجالات الاستخبارات... مؤتمر هدفه الرئيس دراسة العوامل التي تدفع الشباب للتطرف، عطفا على الضمانات اللازمة لمنع الترويج للأفكار المتطرفة التي لا تتماشى مع شرعة حقوق الإنسان، والآداب والأخلاقيات العامة.
حديث الضمانات لا يعني أبدا القمع وكبت الحريات؛ ذلك أن مكافحة الأفكار المتطرفة تكون ممكنة فقط حين يكون لدى الناس حرية مواجهتها. والأفكار الظلامية تولد في أوساط الجهلين الفكري والثقافي، فبائع الشموع يفضل أن يظل التيار الكهربائي مقطوعاً. والمتطرفون يعتدون على المدارس والجامعات، والمؤسسات التعليمية والإعلامية لخشيتهم مما يجلبه التعليم من تغيير ومساواة وتنوير، تكشف زيف دعواهم، وإفك أحاديثهم.
من ناحية أخرى، رغم أن المشهد مأساوي، والمخاوف خلف الباب قائمة، وعلامة الاستفهام... أين ومتى ستكون العملية الإرهابية المقبلة؟ فإن استراتيجية الأمم المتحدة، تعطي قارئها مسرباً من مسارب الأمل إذا أحسنت المجتمعات المختلفة تسخير مثالية الشباب وإبداعهم وطاقتهم، وغيرهم من الفئات التي تشعر بالحرمان لبلوغ غاية السلام والوئام عوضاً عن الحروب والخصام.
يتطلع «فاعلو الإثم» إلى الشباب حول العالم بوصفهم المعين والخزان البشري، الذي منه يستقطبون مجنديهم الجدد. وعليه لا بد من فعاليات وخطط تبدأ من المحليات الصغيرة، وصولا إلى حدود الدولة الوطنية، ثم الإقليم الجغرافي؛ فالقارئ، حتى تكتمل الصورة العالمية... فعاليات تستوعب هؤلاء بوصفهم مكسبا يجب تمكينه ليسهم إسهاما بنّاء في التنمية السياسية والاقتصادية لمجتمعاتهم ودولهم. فهم يشكلون موردا لم يستغل بعد، ويجب أن نمكنهم من النظر إلى مستقبلهم نظرة إيجابية، وأن تتاح لهم فرصة حقيقية لتحقيق تطلعاتهم وإدراك أحلامهم.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.