صخب الحياة يعود إلى شرق الموصل... والمعاناة تتفاقم في غربها

رحلة إلى المجهول تنتظر الفارين من معارك {الجانب الأيمن»

صخب الحياة يعود إلى شرق الموصل... والمعاناة تتفاقم في غربها
TT

صخب الحياة يعود إلى شرق الموصل... والمعاناة تتفاقم في غربها

صخب الحياة يعود إلى شرق الموصل... والمعاناة تتفاقم في غربها

صرخ رجل: «حاذروا أيديكم»، بينما كان يغلق الأبواب الحديدية الثقيلة لشاحنة عسكرية محملة بالمدنيين الهاربين من المعارك في غرب الموصل والذين بدأوا رحلة لا يعرفون إلى أين ستقودهم بعد نجاتهم من كابوس المتطرفين.
غطت صباح الموصل سماء انتشرت فيها غيوم داكنة وسحب دخان، فيما كانت القوات العراقية تواصل تنفيذ عملية انطلقت في 17 أكتوبر (تشرين الأول)، لاستعادة المدينة التي تعد آخر أكبر معاقل تنظيم داعش في البلاد.
بين النازحين، سار ياسر أحمد (35 عاما) وهو يحمل طفلا على كتفه وبدا ظهره منحنيا جراء التعب، عبر شارع وسط إجراءات تفتيش تجريها قوات مكافحة الإرهاب، فيما انتشرت على جانبيه مبان مدمرة. قال هذا الرجل الذي يرتدي ملابس رياضية رمادية اللون لطخها الوحل متحدثا عن المتطرفين: «حاصرونا لمدة خمسة عشر يوما، لم يدعونا نخرج». وتابع: «أخيرا تحت ضغط القوات الأمنية تراجعوا لذلك تمكنا من الهرب هذا الصباح».
وفيما استمر سماع دوي انفجار قذائف الهاون، سار عشرات حالهم مثل حال أحمد، تحت المطر وبينهم من يقود عربة حديدية تقل أطفالا أو مسنين بعد أن قطعوا مسافات طويلة، وعلامات التعب والغضب واضحة على وجههم. وكان بينهم من يحمل أكياسا بلاستيكية أو حقائب تحمل ما سمح لهم الوقت بأخذه معهم، بدلا من الفرار بأيد خالية. كان عليهم اغتنام أول فرصة للفرار وبسرعة، بعد أن قضوا أيامهم الأخيرة في غرب الموصل دون ماء ولا طعام ووسط خوف متواصل زرعه المتطرفون. وقال عادل عبد الكريم (27 عاما): «كان القناصة يوجدون فوق أحد المخازن (...) يطلقون النار على الناس».
بعد ساعات من السير وجد المدنيون الفارون شاحنات عسكرية وحافلات بانتظارهم عند طريق رئيسي على مداخل الموصل. لكن حالة من الفوضى العارمة تحيط بهؤلاء النازحين الذين يسرعون للتكدس في الشاحنات ويتدافعون للعثور على مكان فيها، في حين تعلو أصوات صراخ وبكاء هنا وهناك، فيما يتفاوض البعض ويشكو آخرون. في هذه الأثناء، سقطت امرأة تضع نقابا أسود في الوحل بعد محاولة فاشلة للصعود إلى الشاحنة.
وقال أحد عناصر الأمن متحدثا لوكالة الصحافة الفرنسية: «نهتم بالنساء والأطفال، لكن نجد صعوبة في القيام بعملنا، فنحن أمام أعداد كبيرة جدا».
في هذه الأثناء، يصرخ رجل «حاذروا أيديكم» وهو يغلق أبواب شاحنة تكدس بداخلها عشرات النازحين، وبدت على وجوههم مناشدات للاستغاثة. ويفترض أن ينضم هؤلاء الفارون إلى آخرين لجأوا قبلهم إلى مخيمات للنازحين حول الموصل. وستوزع عليهم في المخيمات مساعدات من الأغذية والأغطية ويقدم لهم الدعم للتغلب على الصدمة والظروف القاسية التي مرت بهم، والتي يرجح أن يبقوا فيها إلى حين العودة إلى منازلهم في حال نجت من الدمار جراء المعارك.
وبصوت حزين، قال بلال عبد الجبار (43 عاما) وبجانبه ابناه اليافعان قبل صعوده إلى الشاحنة: «لم يكن هناك ماء ولا طعام، من حيث جئنا، معارك فقط». وتابع قائلا بحسرة: «وإلى حيث نذهب، ليس هناك مستقبل».
ومقابل معاناة المدنيين في الجانب الأيمن يعود صخب الحياة إلى شرق الموصل. ففي الأسابيع القليلة التي تلت نجاح القوات العراقية في طرد «داعش» من هذا الجانب من المدينة فتحت الأسواق أبوابها وبدأت الجرافات تزيل حطاما خلفته المعركة. وظهرت أكشاك في الشوارع بين المباني المنهارة تعرض الفاكهة والخضراوات للبيع وقام الباعة بتشغيل تسجيلات دعاية لبيع شرائح وهواتف جوالة بعد أن كان التنظيم المتشدد يعاقب مستخدميها بالقتل.
لكن، حسب تقرير لوكالة «رويترز»، تبدو في كل مكان آثار ألم تجرعته المدينة وضرر مادي ونفسي لا يمكن تداركه. وأغلقت أجزاء من طرق بسبب أضرار أحدثتها تفجيرات أو لأنها تؤدي لجسور على نهر دجلة إلى غرب الموصل حيث لا يزال القتال مستعرا. ويقول سكان إنه لا يوجد خط رئيسي للكهرباء ولا الماء فيما يجلس العمال وقد خيم عليهم الحزن على جانب الطريق أملا في العمل أو طلبا للمال.
ويشير الوضع المزري في شرق الموصل إلى أنه بمجرد انتهاء حكم المتشددين فإن تعافي المدينة سيكون بطيئا في أحسن الظروف. وقال محمد عبد الله وهو عامل يبلغ من العمر 50 عاما كان واقفا مع آخرين خارج سوق: «دمرت الحرب كل شيء. نبحث عن عمل يوميا لكن لا شيء... ربما مرة في الأسبوع ونكسب نحو 10 آلاف دينار (8.5 دولار). لا توجد مساعدة حكومية. لم يتبق لي سوى جنسيتي».
ويتعلق الكثير من الأعمال اليدوية التي تديرها بلدية المدينة بإزالة الحطام والركام من الشوارع. ووضع سكان من شرق وغرب الموصل حطاما في مكب يسحبه جرار خارج مقام النبي يونس الذي فجره «داعش» عام 2014.
وقال وضاح (30 عاما)، طالبا عدم ذكر اسم عائلته لأنه لا يزال هناك أقارب له في مناطق خاضعة لسيطرة التنظيم المتشدد: «العمل نادر للغاية لكننا سعداء بأننا نقوم به وتحررنا من (داعش)».
وبعد أن نزح وضاح و14 من أقاربه نتيجة للقتال في غرب الموصل فإنهم يعيشون جميعا في منزل أحد أبناء عمومته. وقال «إنه مكدس ولا كهرباء ولا ماء».
وفي السوق استخدم بعض أصحاب المتاجر مولدات كهرباء لإضاءة المحلات وقالوا إن العمل يستعيد نشاطه بشكل ما. وعرض بائع ثيابا قال إنه لم يكن يسمح له ببيعها في ظل سيطرة «داعش» مثل السراويل الطويلة إذ كان التنظيم لا يسمح سوى ببيع سراويل لا تتجاوز الكعبين. وقال مؤيد وهو صائغ مجوهرات ذهبية يبلغ من العمر 54 عاما إن العمل عاد لطبيعته بنسبة 40 في المائة. وأضاف: «يمكن أن ترى الحياة تعود للسوق الآن لكن المشكلة هي البنية الأساسية والأمن. لا تزال هناك قذائف هاون تطلق عبر النهر من قبل (داعش) وتسقط في شرق الموصل»..
والضرر المادي واضح ولا يزال السكان يواجهون خطر امتداد القتال. لكن الندوب النفسية هي الأعمق تأثيرا بالنسبة للبعض. وأعدم متشددو «داعش» والدة لؤي جاسم الذي أصبح الآن يبلغ من العمر 21 عاما لكونها نائبة بالبرلمان. وقال بينما كان يقف مع أصدقائه أمام كشك: «أعدموا الكثير من السياسيين وأفراد الشرطة ومن يعملون لدى الحكومة». وأضاف أن المتشددين أطلقوا النار على والدته ابتسام جابر في الرأس أمام شقيقته الصغرى التي كانت تبلغ من العمر ستة أعوام آنذاك. وقال الشبان إنهم رأوا أيضا متشددي «داعش» يقتلون طفلا من ذوي الإعاقة.
ويريد من هم ما زالوا صغارا في السن العودة إلى الدراسة بعدما حرموا من التعليم لأكثر من عامين. لكن آخرين قالوا إنهم يحتاجون أكثر إلى المال. ووقف شاب على مشارف المدينة وتابع أن شركة خاصة تقوم بنزع الألغام من منطقة يعتقد أن «داعش» قام بتفخيخها قبل أن ينسحب. وقال: «من المسؤول هنا؟ أنا بحاجة إلى عمل».



ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
TT

ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)

احتفل سكان دمشق بسقوط نظام بشار الأسد بعد حرب وحشية استمرت 13 عاماً، لكن أصحاب أماكن السهر في المدينة اعتراهم القلق وهم يعيدون فتح أبواب حاناتهم وملاهيهم.

فقد قادت «هيئة تحرير الشام» فصائل المعارضة التي أطاحت بنظام الأسد، وكانت هناك خشية لدى بعض الناس من أن تمنع الهيئة شرب الكحول.

ظلت حانات دمشق ومحلات بيع الخمور فيها مغلقة لأربعة أيام بعد دخول مقاتلي «هيئة تحرير الشام» المدينة، دون فرضهم أي إجراءات صارمة، والآن أعيد فتح هذه الأماكن مؤقتاً.

ما يريده صافي، صاحب «بابا بار» في أزقة المدينة القديمة، من الجميع أن يهدأوا ويستمتعوا بموسم عيد الميلاد الذي يشهد إقبالاً عادة.

مخاوف بسبب وسائل التواصل

وفي حديث مع «وكالة الصحافة الفرنسية» في حانته، اشتكى صافي، الذي لم يذكر اسم عائلته حتى لا يكشف عن انتمائه الطائفي، من حالة الذعر التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي.

فبعدما انتشرت شائعات أن المسلحين المسيطرين على الحي يعتزمون شن حملة على الحانات، توجه إلى مركز الشرطة الذي بات في أيدي الفصائل في ساحة باب توما.

وقال صافي بينما كان يقف وخلفه زجاجات الخمور: «أخبرتهم أنني أملك حانة وأود أن أقيم حفلاً أقدم فيه مشروبات كحولية».

وأضاف أنهم أجابوه: «افتحوا المكان، لا مشكلة. لديكم الحق أن تعملوا وتعيشوا حياتكم الطبيعية كما كانت من قبل»، فيما كانت الموسيقى تصدح في المكان.

ولم تصدر الحكومة، التي تقودها «هيئة تحرير الشام» أي بيان رسمي بشأن الكحول، وقد أغلق العديد من الأشخاص حاناتهم ومطاعمهم بعد سقوط العاصمة.

لكن الحكومة الجديدة أكدت أيضاً أنها إدارة مؤقتة وستكون متسامحة مع كل الفئات الاجتماعية والدينية في سوريا.

وقال مصدر في «هيئة تحرير الشام»، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، طلب عدم كشف هويته، إن «الحديث عن منع الكحول غير صحيح». وبعد الإلحاح عليه بالسؤال شعر بالغضب، مشدداً على أن الحكومة لديها «قضايا أكبر للتعامل معها».

وأعيد فتح «بابا بار» وعدد قليل من الحانات القريبة، لكن العمل محدود ويأمل صافي من الحكومة أن تطمئنهم ببيان يكون أكثر وضوحاً وقوة إلى أنهم آمنون.

في ليلة إعادة الافتتاح، أقام حفلة حتى وقت متأخر حضرها نحو 20 شخصاً، ولكن في الليلة الثانية كانت الأمور أكثر هدوءاً.

وقال إن «الأشخاص الذين حضروا كانوا في حالة من الخوف، كانوا يسهرون لكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا سعداء».

وأضاف: «ولكن إذا كانت هناك تطمينات (...) ستجد الجميع قد فتحوا ويقيمون حفلات والناس مسرورون، لأننا الآن في شهر عيد الميلاد، شهر الاحتفالات».

وفي سوريا أقلية مسيحية كبيرة تحتفل بعيد الميلاد، مع تعليق الزينات في دمشق.

في مطعم العلية القريب، كان أحد المغنين يقدم عرضاً بينما يستمتع الحاضرون بأطباق من المقبلات والعرق والبيرة.

لم تكن القاعة ممتلئة، لكن الدكتور محسن أحمد، صاحب الشخصية المرحة والأنيقة، كان مصمماً على قضاء وقت ممتع.

وقال لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «كنا نتوقع فوضى عارمة في الموقف»، فيما كانت الأضواء تنعكس على ديكورات المطعم، مضيفاً: «لكننا عدنا سريعاً إلى حياتنا، حياتنا الليلية، وحقوقنا».

حفلة مع مغنٍ

وقال مدير المطعم يزن شلش إن مقاتلي «هيئة تحرير الشام» حضروا في ليلة إعادة الافتتاح ولم يغلقوا المكان.

وأضاف: «بدأنا العمل أمس. كانت الأمور جيدة جداً. كانت هناك حفلة مع مغنٍ. بدأ الناس بالتوافد، وفي وسط الحفلة حضر عناصر من (هيئة تحرير الشام)»، وأشار إلى أنهم «دخلوا بكل أدب واحترام وتركوا أسلحتهم في الخارج».

وبدلاً من مداهمة المكان، كانت عناصر الهيئة حريصين على طمأنة الجميع أن العمل يمكن أن يستمر.

وتابع: «قالوا للناس: لم نأتِ إلى هنا لنخيف أو نرهب أحداً. جئنا إلى هنا للعيش معاً في سوريا بسلام وحرية كنا ننتظرهما منذ فترة طويلة».

وتابع شلش: «عاملونا بشكل حسن البارحة، نحن حالياً مرتاحون مبدئياً لكنني أخشى أن يكون هذا الأمر آنياً ولا يستمر».

ستمارس الحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا بقيادة «هيئة تحرير الشام» عملها حتى الأول من مارس (آذار). بعد ذلك، لا يعرف أصحاب الحانات ماذا يتوقعون.