«فوغ» العربية... إصدارها بعد طول تردد يؤكد أهمية السوق في عالم الموضة

وأخيرا أصبح للشرق الأوسط نسخته الخاصة من مجلة «فوغ». فبعد ترقب طويل صدر العدد الأول من «فوغ» النسخة العربية في بداية الشهر الحالي، وأصبح الخامس من شهر مارس (آذار) 2017 يوما تاريخيا في سجلات الموضة.
المثير في الأمر أن ردود الفعل بينت بأن أبناء المنطقة ليسوا وحدهم من كانوا في انتظار الحدث بلهفة، بل كل عالم الموضة من الولايات المتحدة إلى الصين مع اختلاف الدوافع والأسباب. ففيما كان انتظارنا نابعا من رغبة في رد الاعتبار لسوق مهمة تم تجاهلها طويلا، كان انتظارهم نابعا من فضول لمعرفة كيف ستتعامل ثقافة غريبة عنهم، مع مجلة تقوم على تصوير الموضة بفنية لا تعترف بالتابوهات الاجتماعية وتتحدى المحاذير الثقافية. فكل ما يسمعونه ويعرفونه عن المنطقة أنها إما منغلقة على نفسها أو تصرف مبالغ مجنونة على المنتجات المترفة.
لهذا غني عن القول: إن «فوغ» العربية كانت طوال أسبوع باريس الأخير حديث الساعة. فغلافها الذي تتصدره العارضة جيجي حديد لم يفتح باب حوار الثقافات فحسب، كونها أميركية - فلسطينية، بل صوب كل العيون على الشرق وما يُخفيه وراء الصورة النمطية التي ارتبطت به طويلا.
وفي خضم كل الجدل الذي طرحه الغلاف خصوصا وإطلاق «فوغ» العربية عموما، يُلح السؤال عن سبب تغيير «كوندي ناست» المؤسسة الناشرة لـ«فوغ» رأيها في إصدار نسخة عربية في هذا الوقت تحديدا. صحيح أن المنطقة ساخنة وعلى كل لسان لأسباب سياسية يعرفها الجميع، إضافة إلى قوتها الشرائية التي تجعلها واحدة من أهم الأسواق المحركة للترف، حيث سجلت نموا في العام الماضي بنسبة 19 في المائة حسب تقرير نشرته شركة «باين أند كو»، إلا أن ما كان يتردد وراء الكواليس سابقا أن جوناثان نيوهاوس، الرئيس التنفيذي في «كوندي ناست» كان يرفض فكرة الدخول إلى المنطقة العربية قلبا وقالبا. فالمنطقة بالنسبة له تفرض محظورات تتعارض مع مبادئ المجلة وصورتها البراقة في تجسيد المرأة.
وسواء صح ما كان يتردد وراء الكواليس أم لا، فإن السؤال بقي مطروحا حتى بعد إعلانه أن النسخة الـ22 من المجلة ستكون عربية. فكيف اقتنعت مؤسسة «كوندي ناست» أخيرا بجدوى أن تتوجه للعرب؟ هل حدثت تغيرات اجتماعية وثقافية في المنطقة تبرر هذه الخطوة، أم هي القدرات الشرائية والثقافة الاستهلاكية التي فرضت نفسها وحركت الموضوع بهذا الاتجاه؟
أسئلة كثيرة تجول بالبال نجد لها مبررات أكثر من أجوبة شافية. ثم تلتقي بدينا الجهني، رئيسة تحرير المجلة، سعودية ولدت في كاليفورنيا وتقضي أوقاتها متنقلة بين الولايات المتحدة الأميركية والسعودية. حينها فقط تذوب كل الأسئلة وتشعر بأنك توصلت إلى الجواب. فلا بد أنها كانت سببا من الأسباب التي أقنعت السيد جوناثان نيوهاس بالفكرة.
فدينا الجهني اسم مضمون، يفهم الموضة حيث سبق لها وخاضت تجربة ناجحة عندما افتتحت محل D’NA منذ نحو عقد من الزمن في الرياض، وكانت تعرض فيه أعمال مصممين شباب من أمثال ماريا كاترانزو وإرديم والثنائي «بيتر بيلوتو» وآخرين، كانوا في بدايتهم وغير معروفين عالميا، لكنها عشقت تصاميمهم وآمنت بمواهبهم، فغامرت بتقديمهم لسوق تعرف جيدا أنها تقدر المميز والفني رغم كل ما يقال عنها.
كان مهما بالنسبة لـ«كوندي ناست» أنها عربية تتكلم لغة الغرب بطلاقة، بينما هي بالنسبة للشرق الأوسط، وجه جميل للمرأة العربية المعاصرة. فإلى جانب أنها زوجة وأم وسيدة أعمال ناجحة، هي أيضا امرأة تعشق الموضة وتتنفسها منذ صغرها، إذ تعترف بأن مجلة «تاتلر» وقعت بين يديها صدفة وعمرها لم يتعد الست سنوات. في تلك اللحظة «بدأت علاقة حب لا تزال مستمرة مع الموضة» حسب قولها.
ما يُحسب لدينا أنها تعرف تماما أن مهمتها ليست سهلة، وتعرف أيضا أنها أمام مسؤولية كبيرة تتعدى مجرد اختيار وجه العدد أو الإشراف على صفحات الموضة ومدى مناسبتها للمنطقة أو الجلوس في المقاعد الأمامية خلال أسابيع الموضة العالمية. فهي مسؤولة أولا وأخيرا عن تمثيل المنطقة العربية وتصحيح وضع ترسخت فيه صورة خاطئة لعقود من الزمن، وبالتالي فإن التحدي بالنسبة لها هو أن تُرضي كل الأطراف وتُترجم رؤية المرأة العربية بلغة لا تتعارض مع ثقافتها وبيئتها لكن بأسلوب عصري يُلمع صورتها عالميا ويعكس ذوقها الراقي الذي لا يزال الغرب يجهله أو يرفض الاعتراف به. فإلى جانب أن المنطقة لا تزال محافظة، بالمفهوم الغربي فإن زبونته أيضا مجرد مستهلكة لكل ما يُصدر إليها.
وربما هنا تكمن قوة دينا كامرأة عصرية وشرقية، وهو ما تشهد عليه خبرتها الطويلة في مجال الموضة، وتجربتها في محلها «دي إن آي». فحينها كانت تشرح للمصممين ضرورة ترويض تصاميمهم لكي تناسب البيئة الشرقية، تارة بتطويل فستان وتارة بالتخفيف من الفتحات والـ«ديكولتيه» وغير ذلك. قدرتها على التعامل مع هذه الحساسيات وفهمها للترف ولبنات جنسها كلها عوامل تخول لها أن تقود المركب. والأهم من كل هذا، تؤكد في كل لقاء يُجرى معها بأن الفكرة النمطية عن المرأة العربية في الغرب تُزعجها «كل ما يرددونه عنها أنها تابعة ويجهلون تماما أنها قوية ولها تاريخ طويل في العطاء والمساهمة في بناء المجتمع، وهذا ما سنغطيه في المجلة من خلال عدسات الموضة والثقافة واللقاءات الحصرية على حد سواء». تعلو نبرة صوتها وتتغير نظرتها لتصبح أكثر صرامة وهي تقول: «المرأة العربية ليست مجرد تابعة ولا هي مستهلكة عمياء، بل العكس، تفهم الموضة جيدا وتتمتع بذوق رفيع. وكل ما في الأمر أن العالم لم يفهمها بعد، وهنا تكمن أهمية فوغ ودورها بالنسبة لي».
حماسها للمنطقة مُعد، وشغفها بالموضة واطلاعها على كل كبيرة وصغيرة فيها يُبهر محاورها. فمنذ اللحظة الأولى تُقنعه أن المنطقة تستحق أن تكون لها «فوغها» الخاصة أكثر من أي سوق ثانية. ليس لأنها دخلت لعبة الموضة منذ ستينات القرن الماضي فحسب بل لأنها أكثر من يحتاج إلى منبر لتعريف العالم بثقافتها من منظور عربي يُصحح الصورة النمطية التي كونها خطأ عن المرأة الشرقية.
المثير في دينا الجهني أنها قد تكون مثالية في أفكارها وجامحة بأهدافها، لكنها تُقنعك سريعا بأنك أمام قوة يصعب إيقافها أو الوقوف في وجهها إن وضعت هدفا نصب عينيها. تشعر بنوع من الاطمئنان لأنها ستحارب من أجل نساء المنطقة وترد لهن اعتبارهن. ويزيد هذا الإحساس عندما تستنفر قائلة: «على الغرب أن يعترف بفضل المرأة العربية. فدورها كبير في إنعاش الـ(هوت كوتير) منذ ستينات القرن الماضي إلى اليوم، بدليل أن الكثير من بيوت الأزياء تعرضت إلى نكسات أثرت عليها سلبا خلال حرب الخليج، لأن هذه الزبونة توقفت عن حضور عروضهم أو التسوق في أوروبا، ومع ذلك لا أحد يُقدر دورها في الإبقاء على هذا الفن حيا. وهذا يُضايقني كثيرا... أريد أن أُذكر الجميع بهذه الحقيقة... وأن أذكرهم بأننا سبقنا أسواقا نامية كثيرة في مجال الموضة».
وتضيف بنفس النبرة المنزعجة «لا أفهم لماذا ليس هناك تقدير لنا، كما لا أفهم هذه النظرة التي لم تتغير إلينا على أننا مجرد مستهلكات للموضة وغير ذواقات لها... لا أخفيك هذا يُزعجني كثيرا».
فجأة تخف نبرة صوتها وتهز كتفيها ونظرة محبطة تلوح من عينيها، فتسري في الأوصال قشعريرة خوف من أن تستسلم وهي تشير إلى أن المسؤولية للأسف لا تقع على المصممين وحدهم بل تطال أيضا الزبونة العربية لأنها تقبل هذه المعاملة ولا تثور عليها مع أنها من حقها أن تفرض رأيها عليهم.
لكنها تعود وتُوضح أن «فوغ» النسخة العربية سيكون صوتها في وقت هي في أمس الحاجة فيه إلى من يسمعها. «في منطقتنا نساء ناجحات وقادرات على العطاء، لا تصل قصصهن إلى الغرب، ومهمتنا هي إيصال هذه القصص إلى العالم».
تكرر دينا كثيرا أن العالم العربي يعاني من سوء فهم بسبب افتقاده للغة سلسة يمكن للغرب أن يفهمها بسهولة. فكما للسياسة لغتها، للإبداع أيضا لغته الخاصة. وهذه اللغة التي يغلب عليها الطابع الشاعري عموما، تعتمد على نسج قصص إنسانية مثيرة وصور جذابة هي التي تنجح غالبا في ربط الغرب والشرق بسهولة. فأحلام المرأة العربية لا تختلف عن أحلام أي امرأة في العالم، رغم بعد اختلاف الجغرافيا والبيئات، ومع ذلك لا تزال هناك صورة نمطية لا وجود لها سوى في ذهن الغرب هي الغالبة، ولم ينجح أحد من قبل أن يمحوها.