جثث وشظايا متطايرة وجوع قارص على طرقات غرب الموصل

«الشرق الأوسط» ترصد أجواء المناطق المحررة من «داعش» والخطوط الأمامية للقتال

عائلة ترحب بالقوات العراقية في حي الدندان («الشرق الأوسط»)
عائلة ترحب بالقوات العراقية في حي الدندان («الشرق الأوسط»)
TT

جثث وشظايا متطايرة وجوع قارص على طرقات غرب الموصل

عائلة ترحب بالقوات العراقية في حي الدندان («الشرق الأوسط»)
عائلة ترحب بالقوات العراقية في حي الدندان («الشرق الأوسط»)

مبانٍ مدمرة، وأخرى ملغمة. عبوات ناسفة منتشرة في كل مكان. أصوات الرصاص وانفجار السيارات المفخخة التي يرسلها تنظيم داعش لإعاقة تقدم القوات العراقية في الموصل، تدوي بين الحين والآخر.
يتقدم الجنود باتجاه الأهداف المرسومة لهم، بينما تمتد في الاتجاه المقابل طوابير طويلة من عشرات العائلات التي لم تجد طريقاً للفرار من الحرب سوى التحرك باتجاه خطوطها الأمامية، متقدمة بحذر خشية إصابة أحد أفرادها بشظية متطايرة أو رصاصة من قناصي «داعش» الذين قرروا معاقبة من فضلوا الحرية على البقاء في سجن التنظيم.
تتكرر هذه المشاهد بشكل شبه يومي في الموصل التي واكبت «الشرق الأوسط» عملية تحريرها منذ انطلاقها في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، سواء معارك شرق المدينة المعروف بالجانب الأيسر وشوارعه الواسعة التي تحررت بالكامل في يناير (كانون الثاني) الماضي، أو في الجانب الأيمن (الغربي) وأزقته الضيقة القديمة التي لا تزال تشهد معارك ضارية بين القوات العراقية و«داعش».
تبدأ الرحلة إلى غرب الموصل مع ساعات الصباح الأولى من أربيل. نسلك في كل مرة طريقاً من الطرق الكثيرة التي تؤدي إلى ناحية حمام العليل في جنوب الموصل، ومنها إلى مواقع قوات الشرطة الاتحادية وفرقة الرد السريع، لمرافقتها إلى الخطوط الأمامية للمعركة في وسط الموصل. نمضي على متن آلية مصفحة بين الأحياء المحررة حتى نصل إلى الخط الفاصل، حيث علينا أن نترجل ونخفض رؤوسنا، لتفادي قناصة «داعش».
وفي الطوابق العليا من المنازل الواقعة على خطوط التماس، حيث تشتد معركة القناصة وقاذفات «آر بي جي» والقنابل اليدوية والرشاشات الآلية متعددة الطلقات، يتوسد الجنود الأرض ويحدقون عبر مناظير بنادق القنص من ثقوب الحوائط، بانتظار اقتناص مسلح من «داعش».
وتلعب الطائرات بلا طيار (الدرون) دوراً حيوياً في المعركة، إذ يلجأ إليها الجانبان بكثافة، وتُعد الأخطر من بين جميع الأسلحة، خصوصاً في ظل اضطرار طائرات التحالف الدولي والقوة الجوية العراقية ومروحيات الجيش إلى توخي الحذر في استهداف مواقع «داعش»، كي لا تُلحق الأذى بالمدنيين الذين يتخذهم التنظيم دروعاً بشرية.
ومع كل محاولة لاقتحام منطقة جديدة في غرب الموصل، تشتد ضراوة القتال، خصوصاً منذ انتقال المعارك إلى البلدة القديمة بأزقتها الضيقة. فمع تقدم مقاتلي الشرطة الاتحادية والرد السريع والمغاوير والنخبة، تبدأ الاشتباكات مع من تبقى من عناصر التنظيم الذين يستخدمون الانتحاريين والسيارات المفخخة لإعاقة التقدم، لكن خطوطهم تنهار ويبدأون بالفرار إلى الأحياء الأخرى في العمق، تاركين خلفهم جثث عشرات من قتلاهم.
وتجولت «الشرق الأوسط» في عدد من الأحياء المحررة حديثاً في غرب الموصل، بينها الدواسة والدندان والنبي شيت والعكيدات التي تمثل بوابة المدينة القديمة. ولا يقل التجول في المناطق المحررة خطورة عن تغطية المعارك والاشتباكات، لذا يطلب الجنود العراقيون من الصحافيين السير بحذر وبخفة خلفهم، كي لا يصبحوا فرائس لإحدى مصائد «داعش».
يصرخ جندي من الشرطة الاتحادية خلال الجولة: «احذروا. هناك سيارة مفخخة يقودها انتحاري في الطريق لمهاجمتنا»، فيحمل جندي آخر قذيفة مضادة للدروع، ويقف متأهباً لتدمير السيارة المفخخة المدرعة، ويطلب أحد الجنود من الصحافيين الدخول إلى آلية الشرطة لحمايتهم، قبل أن تفجر القوات السيارة لتنهمر شظايا ومئات الكرات الحديد الصغيرة والحصى.
يهدم التفجير عدداً من بيوت الزقاق جزئياً، فتهرع القوات الأمنية إليها لإنقاذ من فيها. لكن منزلاً واحداً فقط كان مأهولاً بعائلة من 5 أفراد، غالبيتهم أطفال، نجوا من الانفجار لأنهم كانوا يختبئون في سرداب.
جثث مسلحي «داعش» تملأ الأزقة. خليط من جثث مسلحين محليين وآخرين أجانب وعرب، كما يُعرفهم أحد الجنود، فيما تفوح رائحة الدم من كل مكان تقريباً، بعدما تلطخت به الجدران والشوارع. وتحتل سيارات الأهالي التي أخرجها التنظيم بالقوة لإغلاق الأزقة، جزءاً رئيسياً من المشهد، إذ أصيبت غالبيتها بطلقات نارية أو تحطم زجاجها نتيجة دوي الانفجارات القريبة منها. وتروي مها عمار التي تقطن حي الدواسة: «قبل تحرير الحي، دخل مسلحان من التنظيم إلى داخل المنزل بعد أن حطما الباب، وأدخلونا إلى إحدى الغرف الخلفية، وأخرجوا سيارتنا إلى الشارع وبدأوا بإطلاق النار على القوات العراقية... كنا نخشى أن تقصف الطائرات منزلنا لوجود الدواعش فيه، لكن القوات الأمنية قضت على المسلحين. كان أحدهما شيشانياً والآخر عراقياً من الموصل».
ورغم أن الاشتباكات لا تتوقف، فإن بعض الأهالي يخرجون إلى الأزقة فور سماع أنباء تحرير المناطق. بعضهم يترك مدينته، وآخرون يخرجون للتعبير عن فرحتهم بالتخلص من «داعش». ووقفت عائلات أمام منازلها في حي الدواسة الاستراتيجي الذي يضم المجمع الحكومي ومراكز الإدارة والأمن في الموصل، لتحية الجنود العراقيين، فيما رفع الأطفال شارات النصر، وهم يرددون كلمة: «منصورين». وتقول أم سلام (70 عاماً) وهي تقف أمام باب منزلها في الدواسة: «كنا في الظلام. التنظيم كان يستبيح بيوتنا ويجلد أبناءنا على أبسط الأشياء... مارسوا ضدنا سياسة التجويع وأهانونا على مدى أكثر من عامين ونصف العام. أتمنى أن نشهد الهدوء والطمأنينة في المستقبل».
ويعاني معظم أهالي الأحياء المحررة من سوء تغذية وجوعاً قارصاً، إذ كان التنظيم يصادر أخيراً الغذاء لمسلحيه. وتُقدم القوات العراقية بالتنسيق مع منظمات دولية وجهات حكومية حصصاً غذائية ومياه شرب ومساعدات أخرى لأهالي المناطق المحررة.
وخرج رجل في حي الدواسة إلى عرض الطريق ليعانق جندياً ويقبله وهو يذرف الدموع، قائلاً: «الحمد الله أنقذتمونا من الدواعش... لم نأكل منذ أيام سوى الخبز الجاف والماء. أطفالي سيموتون من الجوع». فأبلغ الجندي قيادته الميدانية بالوضع وطلب منها جلب الطعام.
على أن المشهد الأبرز خلال التجول في الأحياء المحررة هو مشهد العشرات من العائلات الهاربة من المناطق الخاضعة للتنظيم باتجاه المناطق المحررة. تسلك هذه العائلات طرقاً خطرة جداً، غالبيتها فُخخت بالعبوات الناسفة، إضافة إلى تعرضها لقصف مستمر من «داعش» لمنع النزوح باتجاه القوات الأمنية. ويقطع النازحون هذه الطرق ركضاً، لأن التوقف، ولو لحظة، قد يقضي عليهم. ويقول أحمد الجبوري الذي يحمل على ظهره حقيبة ويمسك بيده اليمنى ابنه الوحيد جليل: «أخيراً نجونا. نحن نمشي منذ ساعات بلا توقف... جئنا من الأحياء الخاضعة للتنظيم في المدينة القديمة، وواصلنا السير، وها نحن الآن بأمان».
ولدى وصول النازحين إلى الخطوط الأمامية للقطعات العسكرية العراقية، تقدم لهم القوات المساعدة وتبعدهم من الخط الأمامي إلى داخل الأحياء. وعند نقطة معينة تحملهم السيارات العسكرية إلى مخيمات النازحين في ناحية حمام العليل، حيث يخضعون لتدقيق أمني خوفاً من تسلل عناصر «داعش» بينهم، ثم يُخيّرون بين البقاء في المخيمات أو اللجوء إلى أقارب في المناطق المحررة.
لكن المناطق المحررة تواجه تحدياً ضخماً يتمثل بإعادة إعمارها بعد انتهاء المعركة، فالتنظيم دمر غالبية البنى التحتية للموصل، وترك الخراب في كل زاوية من زوايا أحيائها، بينما بات سكان المدينة مصابين بالخوف والقلق والحيرة وفقدان الثقة بعد ما أصابهم من ويلات.



15 ألف طالب يمني في تعز تسربوا خلال فصل دراسي واحد

المعلمون في تعز يواصلون احتجاجاتهم المطالبة بزيادة الأجور (إعلام محلي)
المعلمون في تعز يواصلون احتجاجاتهم المطالبة بزيادة الأجور (إعلام محلي)
TT

15 ألف طالب يمني في تعز تسربوا خلال فصل دراسي واحد

المعلمون في تعز يواصلون احتجاجاتهم المطالبة بزيادة الأجور (إعلام محلي)
المعلمون في تعز يواصلون احتجاجاتهم المطالبة بزيادة الأجور (إعلام محلي)

في حين يواصل المعلمون في محافظة تعز اليمنية (جنوب غرب) الإضراب الشامل للمطالبة بزيادة رواتبهم، كشفت إحصائية حديثة أن أكثر من 15 ألف طالب تسربوا من مراحل التعليم المختلفة في هذه المحافظة خلال النصف الأول من العام الدراسي الحالي.

وعلى الرغم من قيام الحكومة بصرف الرواتب المتأخرة للمعلمين عن شهري نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول)، فإن العملية التعليمية لا تزال متوقفة في عاصمة المحافظة والمناطق الريفية الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية بسبب الإضراب.

ويطالب المعلمون بإعادة النظر في رواتبهم، التي تساوي حالياً أقل من 50 دولاراً، حيث يُراعى في ذلك الزيادة الكبيرة في أسعار السلع، وتراجع قيمة العملة المحلية أمام الدولار. كما يطالبون بصرف بدل الغلاء الذي صُرف في بعض المحافظات.

الأحزاب السياسية في تعز أعلنت دعمها لمطالب المعلمين (إعلام محلي)

ووفق ما ذكرته مصادر عاملة في قطاع التعليم لـ«الشرق الأوسط»، فإن محافظتي عدن ومأرب أقرتا صرف حافز شهري لجميع المعلمين يقارب الراتب الشهري الذي يُصرف لهم، إلا أن هذه المبادرة لم تُعمم على محافظة تعز ولا بقية المحافظات التي لا تمتلك موارد محلية كافية، وهو أمر من شأنه - وفق مصادر نقابية - أن يعمق الأزمة بين الحكومة ونقابة التعليم في تلك المحافظات، وفي طليعتها محافظة تعز.

ظروف صعبة

وفق بيانات وزعتها مؤسسة «ألف» لدعم وحماية التعليم، فإنه وفي ظل الظروف الصعبة التي يمر بها قطاع التعليم في مدينة تعز وعموم مناطق سيطرة الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، ازدادت تداعيات انقطاع الرواتب والإضراب المفتوح الذي دعت إليه نقابة المعلمين، مع إحصاء تسرب أكثر من 15 ألفاً و300 حالة من المدارس خلال النصف الأول من العام الدراسي الحالي.

وقال نجيب الكمالي، رئيس المؤسسة، إن هذا الرقم سُجل قبل بدء الإضراب المفتوح في جميع المدارس، وتعذر استئناف الفصل الدراسي الثاني حتى اليوم، معلناً عن تنظيم فعالية خاصة لمناقشة هذه الأزمة بهدف إيجاد حلول عملية تسهم في استمرار العملية التعليمية، ودعم الكادر التربوي، حيث ستركز النقاشات في الفعالية على الأسباب الجذرية لانقطاع الرواتب، وتأثيرها على المعلمين والمؤسسات التعليمية، وتداعيات الإضراب على الطلاب، ومستقبل العملية التعليمية، ودور المجتمع المدني والمنظمات المحلية والدولية في دعم قطاع التعليم.

المعلمون في عدن يقودون وقفة احتجاجية للمطالبة بتحسين الأجور (إعلام محلي)

وإلى جانب ذلك، يتطلع القائمون على الفعالية إلى الخروج بحلول مستدامة لضمان استمرارية التعليم في ظل الأزمات، ومعالجة الأسباب التي تقف وراء تسرب الأطفال من المدارس.

ووجهت الدعوة إلى الأطراف المعنية كافة للمشاركة في هذه الفعالية، بما في ذلك نقابة المعلمين اليمنيين، والجهات الحكومية المعنية بقطاع التعليم، ومنظمات المجتمع المدني المحلية والدولية.

آثار مدمرة

كانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) قد ذكرت منتصف عام 2024، أن أكثر من 4.5 مليون طفل في اليمن خارج المدرسة بسبب تداعيات سنوات من الصراع المسلح. وأفادت بأن شركاء التعليم يعيدون تأهيل وبناء الفصول الدراسية، ويقدمون المساعدة التعليمية للملايين، ويعملون على إعادة الآخرين إلى المدارس، وعدّت أن الاستثمار في التعليم هو استثمار في مستقبل الأجيال.

وتقول المنظمة إنه منذ بداية الحرب عقب انقلاب الحوثيين على السلطة الشرعية، خلفت الهجمات التي تعرض لها أطفال المدارس والمعلمون والبنية التحتية التعليمية آثاراً مدمرة على النظام التعليمي في البلاد، وعلى فرص الملايين من الأطفال في الحصول على التعليم.

1.3 مليون طفل يمني يتلقون تعليمهم في فصول دراسية مكتظة (الأمم المتحدة)

وأكدت المنظمة الأممية أن للنزاع والتعطيل المستمر للعملية التعليمية في جميع أنحاء البلاد، وتجزئة نظام التعليم شبه المنهار أصلاً، تأثيراً بالغاً على التعلم والنمو الإدراكي والعاطفي العام والصحة العقلية للأطفال كافة في سن الدراسة البالغ عددهم 10.6 مليون طالب وطالبة في اليمن.

ووفق إحصاءات «اليونيسيف»، فإن 2,916 مدرسة (واحدة على الأقل من بين كل أربع مدارس) قد دمرت أو تضررت جزئياً أو تم استخدامها لأغراض غير تعليمية نتيجة سنوات من النزاع الذي شهده اليمن.

كما يواجه الهيكل التعليمي مزيداً من العوائق، تتمثل في عدم حصول أكثر من ثلثي المعلمين (ما يقرب من 172 ألف معلم ومعلمة) على رواتبهم بشكل غير منتظم منذ عام 2016، أو انقطاعهم عن التدريس بحثاً عن أنشطة أخرى مدرة للدخل.