الرواية بين نزع الأساطير والإبحار في عالم صوفي

الفعالية الثقافية الأولى لمعرض الرياض الدولي للكتاب

جانب من معرض الرياض الدولي للكتاب
جانب من معرض الرياض الدولي للكتاب
TT

الرواية بين نزع الأساطير والإبحار في عالم صوفي

جانب من معرض الرياض الدولي للكتاب
جانب من معرض الرياض الدولي للكتاب

في الفعالية الثقافية الأولى لمعرض الرياض الدولي للكتاب، شارك الروائي الإريتري حجي جابر، الذي قدم من قبل ثلاثة أعمال روائية هي: «سمراويت» - 2012. و«مرسى فاطمة» - 2013 (طُبعت أربع مرات ويجري ترجمتها للغة الإيطالية)، و«لعبة المغزل» - 2015، التي وصلت القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب، كما شاركت الدكتورة هيفاء الفريح، التي تعمل كأستاذ مساعد في قسم الأدب، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة، في الندوة بورقة عنوانها: «الشخصية الصوفية في نماذج من الخطاب الروائي المعاصر»، وهي كاتبة وقاصة نشرت الكثير من قصصها القصيرة والقصيرة جداً في بعض الصحف المحلية وبعض المجلات الأدبية. صدر لها عن المركز الثقافي العربي كتاب بعنوان: (تقنيات الوصف في القصة القصيرة السعودية)، ولها قيد الطبع مجموعة قصصية بعنوان: (قدر)، وقصة للناشئة بعنوان: (حكاية قارئ).
وتغيب (لظرف صحي) الروائي السعودي عبده خال.
أدارت الندوة الروائية والكاتبة السعودية رحاب أبو زيد، التي قالت في مقدمتها للندوة، إن «المعرض يمتلأ بالروايات والقصص والإصدارات العتيقة والحديثة، وقد قيل إن الألم مبراة للقلم الحر الجاد في الكتابة، ففسد الكثيرون مع قليل من الاستثناءات والكثير من التحديات أمام من بقوا صامدين بوجه التحولات الخطيرة التي مرت بها الآيديولوجيات والمفاهيم والقيمة خلف القضبان... بتهمة الشفافية، القيمة في عمل ما هي المجد للروائي الجاد والظفر للقارئ الحصيف»...
وتساءلت: في البدء لماذا كانت الرواية ولماذا هي الفن المستمر والدائم في كل الأزمان والأماكن، لعشق الناس للحكايات علاقة بقصص الجدّات منذ عبق سني الطفولة الأولي، إلاّ أن هذا العشق لا يفتأ يكبر مع ثرثرات المارة ونميمة الأشجار عن بعضها البعض، بل وتكبر معنا في أحاديثنا السرية كلما أطلنا البحلقة في الجدران والمرايا...
* ‏أساطير حول الرواية
في ورقته بعنوان «‏أساطير حول الرواية»، يقول حجي جابر: برأيي أن ثمة أساطير، وليكن عددها عشراً، تحيط بالرواية كتابة ونشراً وتلقياً من قبل القراء قد يفاجأ بها من يخوض مجال الكتابة للمرة الأولى. وهو ربما أكثر من يحتاج للتفكير فيها واستحضارها قبل أي شيء.
سأقوم بإيراد هذه الأساطير بشكل متتال. ولكني قبل ذلك بحاجة للتأكيد على صعوبة التعميم هنا بطبيعة الحال، فالاستثناء حاضر ووجهات النظر المخالفة مرحب بها بكل تأكيد.
أولى هذه الأساطير هي «الوقت المناسب للكتابة»، وهنا أقصد أن يتأخر الواحد في كتابة روايته انتظاراً للحظة غير معلومة على وجه الدقة يعتقد أنه يكون فيها قد بلغ الجاهزية الكاملة. هذه اللحظة المناسبة قد لا تأتي إلى الأبد، فالوقت المناسب دائماً هو الآن. ولعل أحد أسباب هذا الانتظار هو الحرص على الاقتراب من الأعمال العظيمة التي يقرأها الشخص في حياته ويستصعب أن يأتي بنصوص دونها في الجودة. لكن يفوته هنا أنّ غالب أصحاب هذه الأعمال لم يبدأوا من القمة إذ لا قمة في الكتابة إنما هي مشوار طويل يبدأ ويتدرج في التطور.
الأسطورة الثانية هي «الإلهام»، وهي حيلة أخرى لتجنّب الكتابة ورهقها برهنها للمزاج وتقلباته، بينما يجدر بالكاتب أن يملك مشروعاً ويلتزم ويتفانى في إنجازه بعيداً عن تلك التقلبات. وهنا من المهم أن نورد مقولة ماركيز الذي يعتقد أنه لا يوجد شيء اسمه إلهام، وأن الأمر يقتصر على مجرد الجلوس والكتابة. نعم هكذا بكل بساطة يقول ماركيز أجلس واكتب دون الالتفات لفكرة واهمة هي ضرورة انتظار الإلهام والبقاء تحت رحمته.
الأسطورة الثالثة تقول: «إن الموهبة وحدها تكفي». الموهبة قد تصنع رواية أولى، لكنها لا تضمن بناء مشروع. لا تضمن الاستمرار. رحلة الكتابة بحاجة إلى حفر واشتغال وتعلّم وتمرين. هي نجارة كما يقول ماركيز. على الكاتب أن يسابق قارئه، وألا يتخلى عن فكرة إدهاشه... وهذه أمور لا تضمنها الموهبة وحدها.
الأسطورة الرابعة التي تحيط بعالم الرواية وكتابتها هي «بلوغ ذروة التجويد»، وهنا ينبغي أن يعرف كل مقبل على الكتابة أن عملية مراجعة النص وتجويده لن تصل إلى نهاية أبداً، وأننا سندفع بالكتاب إلى المطبعة دون بلوغه تلك الذروة.
الأسطورة الخامسة هي أن «الكتاب يشقّ طريقه وحيداً» هناك من يتشبث بالفعل بهذه الفكرة. تنتهي علاقته بكتابه بمجرد صدوره، لا يأتي على ذكره، لا يتحمّس للنقاشات حوله. هو يتمنى نجاح العمل... هذا صحيح، لكنه في المقابل يرفض فكرة السوق، وأن الكتاب سلعة خاضعة لتلك الفكرة.
الأسطورة السادسة هي أن «الناشر سيوصل كتابك لكل قارئ». لنتخيّل هنا السيناريو التالي: سيقرأ الناشر الكتاب وهو بالضرورة على تماس حقيقي بالأدب، سيعيده إليك في زمن معقول مع عدد من الملاحظات الجوهرية ليأخذ موافقتك قبل أن يدفع به إلى محرر الدار الذي سيغربل الكتاب ليخرجه في صورة مثالية. بعد ذلك ستجد حملة ترويج كبيرة، سيقام لك حفل تدشين، وستجد اسمك في وسائل إعلام مختلفة. والأهم أنه لن تجد مكتبة ليس فيها هذا الكتاب.
الأسطورة السابعة وهي أن «الناقد سينتشلك من العَتمة» سيخرج الناقد من بيته إلى جنوب المدينة، وهناك وفي شارع فرعي سيوقف سيارته ليمشي في شارع أصغر لا يسع السيارة. سيجد مكتبة صغيرة بالكاد ينتبه لها المارة. لن يتضايق من الكتب المبعثرة، ولا من الغبار. سيتجه من فوره إلى آخر الممر وكأنه يتبع خريطة الكنز... سيجثو على ركبتيه ليلتقط كتابك المدفون في الرف الأخير. سيزيل عنه الغبار ويقرأه ثم يقدمك إلى العالم كاكتشاف أصيل.
الأسطورة الثامنة هي أن «الاعتراف يحدث بمجرد صدور عملك» وأقصد بالاعتراف هنا أن تجد نفسك تلقائياً قد انخرطت في عالم الروائيين فتدعى إلى المؤتمرات ومعارض الكتب ويصبح الاسم متداولا... الاعتراف غالباً لن يحدث مع كتابك الأول... ولا العاشر بالمناسبة. هو يحدث حين تحصل على جائزة.
الأسطورة التاسعة... تتعلّق بالقارئ، ففي غياب الاعتراف الذي غاب بدوره لأن الناقد الذي تعرفون لم يخرج من بيته إلى جنوب المدينة... ربما تعتقد أن القارئ وحده سيجسر الهوة ويصل إليك. هذا لا يحدث في الغالب.
الأسطورة العاشرة أنك «ستغتني من عوائد كتابك». هذا لن يحدث غالباً. الأمر هنا لا علاقة له بطبيعة عقدك مع الناشر، ولا بضعف القدرة الشرائية في بلدك، ولا بانصراف القراء إلى أمور أخرى ولا بقرصنة الكتب. الأمر يتعلق بالدرجة الأولى في أنك ستكون قادراً على معرفة شيفرة المفاعلات النووية في كوريا الشمالية، وفي فك لغز وفاة الليدي ديانا، وفي فهم الطريقة التي ارتقى فيها ماجد عبد الله عاليا جدا جدا وأحرز هدفه الشهير بالرأس في الهلال. لكنك في المقابل، لن تكون قادراً على معرفة كم طبع الناشر من كتابك بالفعل!
* الشخصية الصوفية
في ورقتها بعنوان: «الشخصية الصوفية في نماذج من الخطاب الروائي المعاصر»، تقول الدكتورة الفريح: أحاول من خلال هذه الورقة أن أفهم سرّ هذا التهافت عبر بضاعتي (السرد)، لا سيما أن الروائيين التفتوا إلى تلك الشخصيات ببعثها من مرقدها وجعلها الشخصية الرئيسية في رواياتهم؛ الأمر الذي زاد من شغفي في السعي لمعرفة سر إحياء تلك الشخصيات في الأدب خاصة، وترديد مقولاتها في مواقع التواصل الاجتماعي عامة.
وهذا الأمر ليس خاصاً بعالمنا العربي، فجلال الدين الرومي وصفته الـ«بي بي سي» سنة 2007 بأكثر الشعراء شعبية في الولايات المتحدة الأميركية. وإعادة ترجمة المثنوي إلى لغات عدة يثبت ذلك الاهتمام. ومع شهرة إليف شافاق الروائية التركية، وتأليفها لروايات عدة؛ فإن أكثر رواياتها مبيعاً رواية «قواعد العشق الأربعون».
وتضيف: لا يفوتني التنويه على أني لا أتحدث عن الخطاب الصوفي في الرواية؛ فذلك الخطاب عرف منذ زمن عند الفرنسي جيلبرت سيونيه في «اللوح الأزرق»، وعند نجيب محفوظ في بعض رواياته كـ«رحلة ابن فطومة» 1983. والطاهر وطار في «الحوات والقصر» وجمال الغيطاني في «كتاب التجليات». واستمر في الأدب المعاصر كـ«عرس الزين» للطيب صالح، «سيدي وحدانة» و«مسرى يارقيب» لرجاء عالم. و«مجنون الحكم» لسالم بن حميش، و«منافي الرب» لأشرف الخمايسي، و«ممالك تحت الأرض» لعبد الواحد الأنصاري، و«شوق الدرويش» لحمور زيادة، و«سيدي براني» لمحمد صلاح العزب، و«الظل الأبيض» لعادل خزام.
وتشير إلى أن ورقتها لا تبحث في الخطاب الصوفي الذي طُرق مرارا. إنما تركز على الشخصية الصوفية بوصفها الشخصية الرئيسة التي تقوم الرواية عليها. ولأن وقت الورقة قصير فقد حصرت المدونة على ثلاثة نماذج لروائيين متنوعي الأقطار وعن شخصيات صوفية مختلفة:
الرواية الأولى عالمية: «قواعد العشق الأربعون» للكاتبة التركية «إليف شافاق»، وعن شخصيتين صوفيتين هما: جلال الدين الرومي وشمس التبريزي،
الرواية الثانية عربية: «الجنيد: ألم المعرفة» للكاتب المغربي عبد الإله بن عرفة، وهي عن شخصية الجنيد البغدادي.
الرواية الثالثة: محلية «موت صغير» للروائي محمد حسن علوان، وهي عن شخصية ابن عربي.
هذا التوجه المحموم من قبل العالم نحو الصوفية برموزها نحاول فهمه ومن ثم نرى إلى أي مدى أسهمت الرواية في تعزيز ذلك التوجه.
وتلخصت محاور ورقتها في ثلاثة محاور: الشخصية الصوفية بين الخطابين التاريخي والتخيلي. والرموز الصوفية في ملامح الشخصية. وخصائص خطاب التصوف.
وفي ختام الورقة تتساءل: لماذا بعثت الشخصيات الصوفية من مرقدها؟ لتجيب بأن الأدب لا يعود إلى الماضي إلا لكي يطرح أسئلة الحاضر.
وتشرح ذلك قائلة: لقد شهد القرن الثالث الهجري فتنا عدة منها السياسي: كفتنة القرامطة، ومنها الثقافي كفتنة خلق القرآن، ومثله القرن السابع الهجري حيث النزاعات السياسية بالدويلات الإسلامية المتفرقة ففي بغداد الخلافة العباسية، وفي الأندلس الموحدون والمرابطون، والدولة الأيوبية في مصر والشام، والسلاجقة في تركيا. وفي الغرب احتل الصليبيون القسطنطينية وهم في طريقهم لاحتلال القدس، وفي الشرق انتشرت جيوش المغول. والمسيحيون كانوا يقاتلون المسيحيين والمسلمون يقاتلون المسيحيين ويتقاتلون فيما بينهم. ومثل القرنين السابقين قرننا هذا الذي يشهد حروبا سياسية طاحنة، كم مضى على الحرب في سوريا؟! متى تهدأ الصراعات بين السنة والشيعة في العراق وغيرها؟! أي دين أتاح لـ«داعش» حثهم قتل الابن لأبيه والجار لجاره؟...
لتختم بالقول: أليس في العودة تلك الشخصيات (الصوفية) الداعية إلى الحب، وإلى السلام دعوة مبطنة من الأدباء إلى أن نحيي معها الإنسان المحب للسلام في دواخلنا؟



أوانٍ فخارية من موقع مليحة

قطع خزفية من موقع مليحة بالشارقة منها زهريتان من الفخار المزجّج
قطع خزفية من موقع مليحة بالشارقة منها زهريتان من الفخار المزجّج
TT

أوانٍ فخارية من موقع مليحة

قطع خزفية من موقع مليحة بالشارقة منها زهريتان من الفخار المزجّج
قطع خزفية من موقع مليحة بالشارقة منها زهريتان من الفخار المزجّج

يحتل موقع مليحة مكاناً مميزاً على خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها عمليات المسح المتواصلة في مختلف أنحاء دولة الإمارات العربية خلال العقود الماضية.

أظهرت الأبحاث الدؤوبة المتواصلة أن هذا الموقع الاستثنائي شكّل في الماضي حاضرة وسيطة في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية، وحلقة وصل بين مختلف أقاليم العالم القديم، كما تشهد مجموعات القطع الفخارية المتعدّدة المستوردة من الخارج. تحضر في هذا الميدان مجموعة من الأواني الفخارية المزجّجة التي تشابه قطعاً وصلت كذلك إلى نواحٍ متقاربة ومتباعدة من الجزيرة العربية، مصدرها جنوب بلاد ما بين النهرين. وتقابلها مجموعة مغايرة تحمل الطابع الإغريقي الصِّرف، وتتكون من قطع صيغت على شكل صنف خاص من الجرار يُعرف بـ«الأمفورة».

شاعت في بلاد ما بين النهرين أطرزة متعدّدة في صناعة الفخار، منها طراز يُعرف بـ«الفخار المزجّج»، راج في جنوب هذه البلاد، وبلغ نواحيَ متعددة تقع خارج أقاليمها الواسعة. تعتمد هذه الصناعة على معالجة السطح الفخاري بإضافة طبقة طلاء مزجّجة تنصهر مع سطح المادة الطينية، وتؤدي هذه المزاوجة إلى خلق مادة جديدة عمد صنّاعها إلى تلوينها بأكاسيد مختلفة تُكسبها رونقاً خاصاً.

وارتبطت هذه الصناعة بهذه الناحية من بلاد الرافدين، وحملت اسمها، وعُرفت به، واعتُمد هذا الاسم بشكل واسع في القاموس الخاص بدراسة الفنون الفخارية المتعددة الفروع والأصناف.

ودخلت الجزيرة العربية قطع متنوعة من هذا الطراز بشكل متواصل، وعلى مدى قرون من الزمن، وشكّلت مجموعات مستوردة تشهد لرباط متين جمع أقاليم الجزيرة الواسعة وجنوب بلاد ما بين النهرين، منها مجموعة خرجت من موقع مليحة الذي يشكّل جزءاً من إقليم عُمان في العالم القديم، ويقع اليوم في المنطقة الوسطى بإمارة الشارقة.

تتكوّن «مجموعة مليحة» من بضع قطع عُثر عليها ضمن قطع متنوّعة من المنتجات الفخارية، منها ما هو محلّي، ويُعرف اليوم بـ«فخار مليحة»، ومنها ما هو من خارج الجزيرة، ومصادره متعدّدة. ويتمثل أبرز هذه القطع المستوردة من جنوب العراق القديم بقطعتين متشابهتين في التكوين كما في الصوغ، غير أنهما تختلفان من حيث الحجم، وقد نجح أهل الاختصاص في ترميمهما، فاستعادتا شكلهما الأصلي الأول بصورة شبه كاملة، وتُعدّان من أجمل النماذج المزجّجة المصقولة باللون الأخضر الزمردي.

وخرجت هاتان القطعتان من مدافن مليحة الأثرية؛ ممّا يعني أنهما شكّلتا في الأصل جزءاً من الأثاث الجنائزي، وهما على شكل زهرية ذات مقبضين عريضين، زيّنت بشبكة من النقوش الزخرفية الغائرة.

يبلغ طول كبرى هاتين الزهرتين 54.5 سنتيمتر، وعرضها 34.5 سنتيمتر، وعنقها مكلّل بطوق عريض، ويحدّه مقبضان مقوّسان يعلو كلّاً منهما مثلث أفقي مسطّح.

وتُزين القسمَ الأعلى من هذه الزهرية شبكةٌ من الخطوط العمودية المتوازية، تستقر فوق شريطين تعلو كلاً منهما سلسلة مشابهة من الخطوط المتوازية كأسنان المشط. وتتبع المزهرية الأخرى تكويناً مماثلاً، ويبلغ طولها 43 سنتيمتراً، وعرضها 30 سنتيمتراً، وزينتها الزخرفية مشابهة، مع اختلاف يسير في التفاصيل يظهر عند دراسته بشكل متأنّ.

إلى جانب هاتين القطعتين، تحضر قطعة ثالثة مشابهة في التكوين، تبدو أعرض وأقصر من حيث الحجم، وقطعة رابعة، وهي على شكل جرة لها مقبض مقوّس واحد، مصدرها موقع سكني يُعرف بـ«قصر مليحة»، وطولها 42 سنتيمتراً، وعرضها 31 سنتيمتراً، وهي مجرّدة من الزخارف، وتتميّز بلونها الأزرق الفيروزي.

تعود هذه المجموعة الخزفية المزجّجة إلى حقبة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الميلادي الأوّل، وتشهد للرباط الذي يجمع بين مليحة وبلاد الرافدين. وتقابلها مجموعة أخرى من ميراث مليحة، تشهد لصلة أخرى مغايرة تجمع بينها وبين العالَم المتوسّطي الإغريقي، وتتمثّل هذه المجموعة بقطع فخارية من الطراز الذي يُعرف بـ«الأمفورة»؛ منها 3 قطع وصلت بشكل شبه كامل. كما هو معروف، ترتبط «الأمفورة» بشكل وثيق بالعالم الإغريقي، وتشكّل صناعة خزفية تقليدية شاعت في ذاك العالم بشكل واسع، وهي على شكل قارورة بيضاوية طويلة، تحدّها قبضتان كبيرتان تتصلان بعنق طويل ونحيل.

شكّلت «أمفورات مليحة» كذلك جزءاً من الأثاث الجنائزي بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الميلادي الأوّل، وهي مخصّصة لحفظ النبيذ، وأهمّها قطعة من الطراز الذي يُعرف بـ«الرودسي»؛ نسبة إلى جزيرة رودس الواقعة بين جزر اليونان وقبرص، وطولها 80 سنتيمتراً، وعرضها 36 سنتيمتراً، وتمتاز بتزجيج من اللون الأسود، ويرى أهل الاختصاص أن هذا التزجيج حدث في جنوب بلاد ما بين النهرين، وشمل سطح هذه «الأمفورة» وداخلها.

تقابل هذه القطعة قطعة مماثلة تخلو من أي تزجيج، وهي «أمفورة» رودسية تقليدية مجرّدة من أي زينة، وعرضها 48 سنتيمتراً. تحضر «الأمفورة» الثالثة إلى جانب هاتين القطعتين، وهي كذلك من الحجم الكبير، وطولها 77 سنتيمتراً، وهي من طراز مغاير، يُعرف بـ«الطراز الإسباني»، ويتميّز بعنق قصير، ومقبضاه على شكل عروتين صغيرتين نسبياً.

وتشهد هذه القطع لعلاقة مثيرة ربطت بين مليحة العُمانية والعالَم الإغريقي القديم، وتؤكّد شواهد أثرية أخرى هذا الرابط المدهش، منها قطعة جزئية صغيرة من «أمفورة» رودسية تحمل نقشاً يونانياً يشير إلى تاريخ صناعتها بين عامي 225 و125 قبل ميلاد المسيح، وقطعة أخرى مشابهة تحمل ختماً يحمل اسم صاحبها المدعو «أنطيماخوس»، وتاريخها يعود إلى فترة تمتدّ من عام 198 إلى عام 146 قبل ميلاد المسيح.


بريطانيا عام 2025... حارسة الذاكرة الثقافية

من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
TT

بريطانيا عام 2025... حارسة الذاكرة الثقافية

من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن

لا يبدو 2025 في روزنامة المملكة المتحدة الثقافية مجرد محطة اعتيادية لطي صفحة عام وفتح أخرى. ففيه، تتواطأ التواريخ لتجمع في سلة واحدة حصاد قرون متباعدة: حكمة القرن السابع عشر التأسيسية، ورومانسية القرن الثامن عشر الاجتماعية، وانفجار الحداثة في الربع الأول من القرن العشرين، وصولاً إلى أسئلة الذكاء الاصطناعي في راهننا المعاصر.

الجزيرة البريطانية كانت أقرب ما يكون إلى مختبر مفتوح، يعيد قراءة هوية الغرب الثقافية عبر رموزها الأكثر رسوخاً. هنا، نحاول رسم خريطة بانورامية لهذا المشهد، حيث يتجاور «فرانسيس بيكون» مع «جين أوستن»، وتتصالح ضبابية لندن «فيرجينيا وولف» مع صخب برادفورد عاصمة الثقافة الجديدة في الشمال.

ربع ألفية جين أوستن... أيقونة متجددة

الحدث الذي يُلقي بظلاله الرقيقة والساخرة على المشهد الأدبي مع نهاية العام، هو الاحتفال بمرور ربع ألفية على ميلاد الروائية الإنجليزية الأشهر، جين أوستن (1775-1817) التي تحولت عبر العقود إلى «ظاهرة ثقافية» عابرة للأزمنة، أو ما يصطلح عليه مؤرخو الفكر بـ«هوس أوستن».

مقاطعة هامبشاير، حيث يقع منزلها في قرية «تشوتون»، صارت قبلة للحجيج الأدبي، وتجاوزت الاحتفالات حيز الجغرافيا لتستعيد «اللحظة الأوستينية» في التاريخ. فقد دفعت دور النشر البريطانية العريقة مثل «بنغوين» و«فينتج» بطبعات خاصة من الروايات الستة الخالدة، ونشرت عدة دراسات نقدية جديدة تفكك سر بقاء هذه النصوص طازجة في زمان «التيك توك». وأصدرت دار «فيرسو» سيرة غرافيكية مميزة رسمتها كيت إيفانز.

مدينة «باث» التاريخية، التي خلدتها أوستن في «دير نورثانجر» و«إقناع»، تحولت شوارعها الحجرية إلى متحف حي، وغداً المهرجان السنوي للاحتفاء بها أكبر من مجرد كرنفال للأزياء التاريخية من فترة ما قبل العصر الفيكتوري، ليكون منصة لإعادة الاعتبار للروائية بوصفها «النسوية الصامتة» و«الناقدة الاقتصادية» التي وظفت أدوات الأدب لرصد حركة المال والزواج في مجتمع متغير. إنه وقت لاستعادة الحبكة المحكمة والسخرية المهذبة التي تضمر تحتها نقداً حاداً للطبقية.

4 قرون على «مقالات» فرانسيس بيكون

إذا كانت أوستن تمثل تيار الشعور ودقة الملاحظة الاجتماعية، فإن 2025 يحمل ذكرى تمتاز بالرصانة والصرامة الفكرية. إنه العام الذي وافق مرور أربعة قرون كاملة على نشر الطبعة الثالثة والمكتملة من «المقالات-1625» للفيلسوف ورجل الدولة فرانسيس بيكون.

نشر بيكون تلك الطبعة قبل عام واحد من وفاته، مودعاً فيها خلاصة تجربته في السياسة والحياة. المؤسسات الأكاديمية، من كامبريدج إلى أروقة المكتبة البريطانية في «سانت بانكراس»، نظمت ندوات أعادت قراءة مقالاته الشهيرة مثل «في الحقيقة»، «في الموت»، و«في الفتن والقلاقل».

تكمن أهمية هذه المئوية الرابعة في استعادة اللغة البيكونية؛ تلك اللغة المكثفة، المتماسكة، التي أسست للنثر الإنجليزي الحديث. ويتمّ تسليط الضوء على أعماله بصفته أباً للمنهج التجريبي العلمي، ومهندساً للسياسة الواقعية، ومفكراً استشرف مبكراً علاقة «المعرفة» بـ«القوة». الاحتفاء ببيكون اليوم احتفاء بالعقل المجرد في مواجهة فوضى العواطف السياسية وحروب الشعبويات.

جانب من معرض لندن

مئوية الحداثة: «السيدة دالواي» تشتري الزهور

بالانتقال من القرن السابع عشر إلى العشرين، يواجهنا تاريخ مفصلي: 1925، الذي يُعرف في النقد الأدبي بعام «المعجزة الحداثية»، وفيه، نشرت فيرجينيا وولف روايتها التي غيرت مسار السرد الروائي: «السيدة دالواي».

«قالت السيدة دالواي إنها ستشتري الزهور بنفسها». هذه الجملة الافتتاحية الشهيرة ترددت أصداؤها في أرجاء لندن طوال 2025، ونظمت المؤسسات الثقافية، بالتعاون مع «الصندوق الوطني»، مسارات أدبية تقتفي أثر «كلاريسا دالواي» في شوارع وستمنستر وبوند ستريت.

تخطى الاحتفال بوولف فضاء السياحة الأدبية ليكون تكريساً لمرور قرن كامل على تقنية «تيار الوعي». وشهدت الجامعات والملاحق الثقافية مراجعات نقدية لإرث «مجموعة بلومزبري» - حلقة غير رسمية من الأصدقاء والأقارب (كتاب، فنانين، فلاسفة) عاشوا وعملوا وتجادلوا بالقرب من منطقة «بلومزبري» بوسط لندن جوار المتحف البريطاني خلال النصف الأول من القرن العشرين - وتأثيرها في تحطيم القالب التقليدي للرواية الفيكتورية الكلاسيكية. كما فتح هذا اليوبيل الباب واسعاً لمناقشة قضايا الصحة النفسية، والعزلة داخل المدينة الكبيرة، وهي ثيمات سبقت وولف إلى تشريحها وتظل شديدة الراهنية للإنسان المعاصر.

وفي سياق متصل بـ«المعجزة الحداثية»، يجدر ذكر مئوية قصيدة «الرجال الجوف» لـ ت. إس. إليوت، ورواية «غاتسبي العظيم»، لفرنسيس سكوت فيتزغيرالد - التي تعد عند كثير من النقاد الرواية الأميركية الأهم -، ما جعل من العام الحالي فترة لاستعادة «القلق الجميل» الذي ميز فترة ما بين الحربين في مجمل العالم الأنجلوسكسوني.

برادفورد 2025: الشمال يكتب سرديته

بعيداً عن مركزية لندن العاصمة، اتجهت البوصلة الثقافية شمالاً نحو «يوركشاير»، وتحديداً إلى مدينة برادفورد، التي توجت بلقب «مدينة الثقافة في المملكة المتحدة 2025». هذا اللقب، الذي تتنافس عليه المدن البريطانية بشراسة، وضع برادفورد تحت المجهر طوال اثني عشر شهراً.

برادفورد، تلك المدينة الصناعية العريقة، تمثل، بريطانياً، بوتقة انصهار اجتماعي وتاريخي. وبكونها أول مدينة لليونسكو في مجال السينما، وبقربها من «هاوورث» (موطن الأخوات الروائيات برونتي)، تمتلك إرثاً ثقافياً ثقيلاً.

وتضمنت الأنشطة المرافقة للتتويج أكثر من ألف فعالية فنية، تراوحت بين المعارض البصرية المعاصرة في «كارترايت هول»، وعروض المسرح التجريبي في المصانع القديمة المعاد تأهيلها وغيرها، كرهان على قدرة الثقافة على قيادة التغيير الاقتصادي والاجتماعي، وتقديم برادفورد أنموذجاً للمدينة البريطانية الحديثة المتعددة الأعراق والهويات، التي تصنع الفن من قلب التنوع.

معرض لندن للكتاب: سؤال الورق والرقائق الإلكترونية

في ربيع 2025، وكعادتها منذ 1971، كانت قاعة «أوليمبيا» بغرب لندن مسرحاً للحدث الأهم في صناعة النشر العالمية: معرض لندن للكتاب. واكتسبت دورة 2025 أهمية خاصة في ظل التحولات التكنولوجية العاصفة.

تجاوز الحديث في الأروقة صفقات حقوق الترجمة والبيع، ليشتبك مع هواجس الناشرين ومنتجي المحتوى تجاه تغّول الذكاء الاصطناعي، ونظمت ندوات ساخنة حول مستقبل الكتابة الإبداعية: إمكانية كتابة الآلة للرواية، وسبل حماية القوانين لحقوق المؤلفين من «تغذية» النماذج اللغوية بأعمالهم.

الجوائز الأدبية والفنون التشكيلية

في الخلفية، تظل الجوائز الأدبية البريطانية الكبرى هي الضابط لإيقاع نبض الحياة الثقافية في المملكة. وذهبت جائزة بوكر الأدبية المرموقة لديفيد زالاي عن «لحم» (Flesh) التي وصفت بأنها عمل محفوف بالمخاطر حول الضعف البشري، بينما توجت الهولندية يائيل فان دير بودن بجائزة أدب المرأة للرواية عن عملها الأول المذهل «مستودع آمن» (The Safekeeper) الذي استعاد أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحصد ستيفن ويت لقب كتاب العام من جريدة «فاينانشال تايمز» عن «الآلة المفكرة» (The Thinking Machine) الذي أرخ لرحلة صعود شركة «إنفيديا» والذكاء الاصطناعي، ونال الآيرلندي دونال رايان جائزة أورويل للرواية السياسية عن «فليسكن قلبك في سلام» (Heart, Be at Peace)، وأخيراً، توجت المؤرخة هانا دوركين بجائزة ولفسون للتاريخ عن كتابها التوثيقي «الناجون» (Survivors) الذي تتبع بدقة قصص آخر أسرى سفن تجارة الرقيق عبر الأطلسي.

وفي الفنون التشكيلية فتح «تيت مودرن» والمتحف البريطاني أبوابهما لمعارض استعادية ضخمة، تسعى للخروج من عباءة المركزية الأوروبية، وتسليط الضوء على فنون الجنوب العالمي، لتصفية الحسابات مع الماضي الاستعماري عبر الفن والجمال. لقد قدمت بريطانيا نفسها في 2025، عبر هذه الفعاليات، حارسةً للذاكرة الأدبية، ومختبراً للمستقبل الثقافي الغربي في آن واحد. إنه عام ثري، ذكرنا، وسط ضجيج التكنولوجيا، بأن الكلمة المكتوبة تظل هي الأداة الأقوى لصياغة وعي البشر، وأن دواء الحروب الثقافية في البحث عن الهم الإنساني المشترك.


عيد رأس السنة بين التأمل الخلاق والصخب الهستيري

نزار قباني
نزار قباني
TT

عيد رأس السنة بين التأمل الخلاق والصخب الهستيري

نزار قباني
نزار قباني

لم يكف البشر عبر تاريخهم الطويل عن الاحتفال بمحطات زمنية دورية، يستولدونها من حاجتهم الملحة إلى التحلق حول رموز ومعتقدات جامعة، تتوزع بين الديني والوطني والاجتماعي. وهم إذ يسمون هذه المحطات أعياداً، يقيمون لها احتفالات وطقوساً متباينة المظاهر والدلالات، ويحولونها إلى مساحات للفرح أو الحزن، للصخب أو التأمل. اللافت أن التطور المتعاظم الذي أصابته المجتمعات على الصعد العلمية والتقنية لم يفض إلى تقليص الظاهرة أو إلغائها، بل تضاعف منسوبها مرات عدة، بعد أن اتخذت طابعاً تكريمياً لبعض الفئات والشرائح المهملة. وهو ما وجد شواهده المثلى، في ابتكار أعياد وأيام للاحتفال بالمعلم والعامل والأم والطفل والأب، وصولاً إلى قيام المنظمات الدولية بإعلان معظم أيام السنة، مناسبات للاهتمام بالفئات المهمشة، أو بالتحديات المستجدة التي تواجه سكان الأرض.

ومع أن التقاليد والعادات المرافقة للأعياد ظلت تتأرجح على الدوام بين الفرح الاحتفالي والحزن الحدادي والخشوع الإيماني الصامت، تبعاً لطبيعة العيد ودلالاته، فإن «البراءة» التي تميزت بها الأعياد في العصور السابقة، سرعان ما أخلت مكانها للمظاهر المتكلفة والصخب السطحي. ففي ظل التغيرات الدراماتيكية التي أصابت الحياة المعاصرة في ظل النظام الرأسمالي، تم تحويل الأعياد إلى مناسبات «باخوسية» للتسوق الباذخ والترف المفرط والتهالك على الملذات.

ووسط تكاثر الأعياد وازدحامها، يبدو عيد رأس السنة المحطة الزمنية الأكثر اتصالاً بواقع البشر وهواجسهم ووجدانهم الجمعي. وقد يكون هذا العيد أحد أكثر الأعياد قِدماً، رغم أن تعيينه الزمني قد اختلف من عصر إلى آخر. فقد احتفل به البابليون قبل أربعين قرناً، في شهر مارس (آذار)، تزامناً مع الاعتدال الربيعي وتجدد الزراعة وطقوس الخصب. واحتاج الأمر إلى قرون عديدة لاحقة، قبل أن يقرر الحاكم الروماني يوليوس قيصر نقل الاحتفال به إلى مطلع يناير (كانون الثاني) من كل عام، تكريماً ليانوس، إله البدايات عند الرومان. ثم أخذت رقعة العيد الاحتفالية في الاتساع بشكل تدريجي، ليطول في وقت لاحق سائر شعوب الأرض وقومياتها وأعراقها.

وإذا كان مفهوماً أن يتخذ عيدا الحب والميلاد طابعهما الاحتفالي المفعم بالفرح والنشوة، باعتبار أن الأول مرتبط بالمشاعر الإنسانية وغريزة البقاء، والثاني بميلاد السيد المسيح، وما يعنيه من بهاء الرمز وقوة الدلالة، فإن من المفارقات المثيرة للدهشة أن يتم الاحتفاء برأس السنة بكل هذ القدر من الضجيج والانتشاء والصخب الكرنفالي الكوني، في حين أن انقضاء سنة من أعمارنا المحدودة يستوجب «التشييع الحدادي » للعام الذي خسرناه، أكثر من الابتهاج بعام قادم لسنا متأكدين من ربحنا له. والأرجح أن إحداث البشر لهذا الضجيج الصاخب ما هو إلا محاولة يائسة لتمويه هواجسهم الفعلية، وتبديد قلقهم الوجودي، وتشتيت خوفهم من فكرة الموت.

لكن اتجاه الكثرة الكاثرة من الناس لمواجهة هذه المناسبة الملتبسة بالارتماء في حمأة المتع الحسية الجمعية، لا يصرفنا عن ملاحظة الجانب الآخر من الصورة، حيث يؤثر البعض الانفراد بأنفسهم بهدف المكاشفة الذاتية، وإجراء جردة حساب مفصلة مع النفس، وتؤثر العائلات أن تتحلق حول نفسها لكي يواجه أفرادها بالتضامن والتكافل مخاوفهم المشتركة من غدر الزمن، فيما يغرق المتوحدون والانطوائيون في وهدة الإحباط والأسى، وصولاً إلى الانتحار في حالات الكآبة القصوى.

وحيث لا يبدو مستغرباً أن يجد كتاب العالم وفنانوه في هذا الاستحقاق الزمني فرصتهم الملائمة لمراجعة علاقتهم بأنفسهم، أو لطرح الأسئلة المتعلقة بشؤون الحياة واستحقاقاتها الداهمة، كقضايا الحب والحرب والصراع على البقاء والتبدل السريع للمصائر، فإننا نعثر في نتاج هؤلاء الكثير من الشواهد والأمثلة الدالة على ذلك. فالشاعر الأميركي روبرت لويل، المولود في أوائل القرن المنصرم، الذي عايش حربين عالميتين، لا يرى في بدايات الأعوام سوى مناسبات متكررة لتجديد عهد البشر مع صقيع الضغائن ولهب الحروب الدامية، فيكتب في قصيدته «يوم رأس السنة»:

مرة بعد مرة يولد العام في الجليد والموت

ولا يجدينا التواري خلف نوافذ العاصفة

قرب الموقد

بينما الجليد المدّي الرقيق يتآكل

فما دمنا أحياء نحن نعيش لنشمّ دخان الضحايا

أما الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ارتبطت بعلاقة زوجية صعبة مع الشاعر البريطاني تيد هيوز، فقد رأت في نهايات الأعوام المناسبات النموذجية لتجديد العقد مع مشقات العيش وآلامه. وهي إذ تشبّه ثقل السنين بالمكابس، كما بحوافر الخيول وزئير النمور، تبدو وكأنها ترهص بانتحارها اللاحق الذي لم يتأخر كثيراً حدوثه، فتعلن في قصيدتها «السنون»:

الأبدية التي تملُّني لم أُردها يوماً

ما أحبه هو المكبس في حركته

روحي تموت قبله

وحوافر الخيول شبيهة بالخضِّ القاسي الذي لا يرحم

أهو نمِرٌ هذا العام، هذا الزئير على الباب؟

وإذ يمهد الشاعر الروسي فاليري بريوسف لقصيدته «على أبواب العام 1905 الجديد»، بالقول: «في المهد الحديدي والرعب يولد العام الجديد»، يتضح أن الرعب المشار إليه هو ذلك الناجم عن غرق الأرض في الكراهية والعنف الدموي. كما يبدو واضحاً أن القصيدة مكتوبة بتأثير من الحرب الضروس التي قامت بين روسيا واليابان عشية ذلك العام بالذات. وفي ذلك يقول الشاعر: «مضى عام بتمامه كمنام دموي، أو كابوس خانق أصم، وعلى الغيم بريق كأنه حمم بركان. اشرأب العام الجديد مارداً عنيفاً، يمسك في كفه الصارمة ميزان خفايا الأقدار».

روبرت لويل

بالانتقال إلى الشعر العربي، لا يرى نزار قباني أن في نهايات الأعوام ما يوجب الغرق في التشاؤم والرؤى القاتمة، أو طرح الأسئلة المؤرقة المتعلقة بأحوال النفس والعالم. فهو لم يكن يجد الوقت لمثل تلك المكابدات، بخاصة في ذروة شبابه، حين كان عشقه للنساء يعفيه من أي مهمة مينافيزيقية بعيدة الغور. وإذا كان له أن يجري، كغيره من المشتغلين بالشعر والفن، جردة حساب سريعة مع العام الذي انصرم، فهي جردة تتعلق بمستحقات الحب وأكلافه. لذلك فهو في مجموعته «هكذا أكتب تاريخ النساء» يخاطب المرأة التي يعشقها بالقول: «اثنا عشر شهراً وأنا أشتغل كدودة الحرير، مرة بخيط ورديّ، ومرة بخيط برتقالي. حيناً بأسلاك الذهب، وحيناً بأسلاك الفضة، لأفاجئك بأغنية، تضعينها على كتفيك كشال الكشمير، ليلة رأس السنة».

أما الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، فلا ترى في انقضاء العام، ما يوجب الحداد عليه أو استرجاع محطاته وأطيافه، بل هي تشيح بوجهها عنه لتلتفت إلى ما يمكن أن يحمله العام الذي يليه من هدايا الحب ووعود الخصب والتجدد، فتقول في قصيدتها «صلاة إلى العام الجديد»:

ما الذي تحمله من أجلنا، ماذا لديكْ؟

أعطِنا حباً فبالحب كنوز الخير فينا تتفجرْ

أعطِنا حباً فنبني العالم المنهار فينا من جديدْ

ونعيدْ

فرحة الخصب لدنيانا الجديبة

وإذا كانت طوقان تستخدم في قصيدتها ذات النبرة التموزية ضمير المتكلم الجمعي، فإن الأمر مرتبط بأمرين اثنين، يتصل أولهما بانتمائها إلى فلسطين، التي يواجه أهلها أشكالاً عاتية من العسف والاضطهاد ومصادرة الأرض، ما يدفعها إلى ربط أمنياتها بقضايا الوطن وشجونه، أما الثاني فيتمثل في كون الشاعرة التي عانت كثيراً من وطأة التقاليد المحافظة، وصولاً إلى فشلها المتكرر في الحب، قد اتخذت من أمنيات شعبها الرازح تحت وطأة الاضطهاد والتشرد، ذريعتها الملائمة لإعلان تعطشها الشخصي إلى الحب والحرية والتجدد.

وقد تكون قصيدة الشاعر السوداني محمد عبد الباري «ليلة رأس السنة»، هي أفضل ما أختتم به هذه المقالة، ليس فقط لأنها تكشف عن الجانب الأصيل والمشرق من تجارب الشعراء العرب الشبان، بل لأن صاحبها يجانب الاستسلام لأفخاخ العزلة الكابوسية من جهة، ولصخب الجموع الهذياني من جهة أخرى، ليجعل من المناسبة فرصةً ثمينةً لاستنطاق الصمت، واللقاء الخلاق مع الذات، فيكتب قائلاً:

سقطتْ أوراق التقويمِ فعلّقْ تقويم العام الآتي

المسرح دائرةٌ

والوقت هو الفاصل بين البدء وبين البدءِ

فأوقفْ ساعتك العمياء وفكّر في الأمر قليلاً..

واتركني أكملُ هذي الليلة وحدي

لأفتش عن ذاتي