لم تكن بدايات الفكر اليوناني محكومة بالقوانين المنطقية، ولم تكن بالطبع فلسفة خالصة. فالفكر اليوناني كان فكرا أسطوريا، عموده الفقري هو الملحمة الشعرية. لكن الأسطورة تراجعت عن مواقفها القديمة كمركز للحياة الفكرية في اليونان، حيث قامت الفلسفة بالاستيلاء على معظم ميادينها، لكنها بقيت حاضرة، ولم يجر القضاء عليها مطلقا. فالأسطورة، والمنطق، والديانة، والفلسفة، أمور مترابطة تقدم، في بعض الأحيان، كمزيج مختلط، وكلما تقدمنا تاريخيا، نجد الفكر الفلسفي أكثر تحديدا واستقلالا، من دون أن يعني ذلك أنه، في مراحل الفلسفة اليونانية المشرقة، كان هذا الاستقلال تاما ونهائيا.
ظهرت في إيونيا حركة فكرية علمية الطابع، هدفها تفسير الظواهر الطبيعية لأول مرة، بمنأى عن الأساطير والخرافات. ولقد مثل الفلسفة الإيونية أو مدرسة ميلينوس، الفلاسفة: طاليس (624 - 546 ق.م)، وإنكسمندريس (610 - 545 ق.م)، وإنكسيمانس (588 - 525 ق.م). وكان موضوع بحث فلاسفة إيونيا، الوقوف على مبدأ واحد يكون وراء الفوضى والعماء، ويكون ثابتا وراء التغير يقدم طاليس فكرة أن الماء أصل العالم، ومبدأ مفسر للتغير، والتعدد، والكثرة، أن الكل واحد. وهذا ما جعله أول فيلسوف يوناني في نظر مؤرخي الفلسفة. ويعتبر إنكسمندريس، الفيلسوف الثاني للمدرسة الملطية. اعتقد في وجود عدد لانهائي من العوالم، وأنها جاءت جميعا من شيء ما وتفنى في الشيء نفسه، سمى هذا المبدأ الأبيرون. والأخير ليس عنصرا واحدا، لكنه مزيج من العناصر الطبيعية المختلطة، التي وحدها يمكن أن تفسر مجيء الموجودات إلى الوجود وفنائها. ربما يقترب أرسطو من فكر إنكسمندريس، عندما يصف الأبيرون في كتابه «الطبيعة»، بأنه ذلك الجوهر الكامن بين العناصر الأربعة. فالأكيد أن الفيلسوف لم يقصد بالأبيرون عنصرا محددا، ولكن كان يتحدث عن المبدأ والجوهر وراء كل العناصر. لأن من الأبيرون تجيء جميع الموجودات، ولا بد أنه من طبيعة مختلفة تحوي جميع العناصر وتفوقها. فجميع الموجودات لها نهاية محددة تفنى عندها. ولأنها تفنى في الأبيرون، لا بد أن يكون الأبيرون بلا نهاية، أو «لانهائي». ويعتبر تصور إنكسمندريس للكون كخلية مستقلة ومنظمة ذاتيا. ويمكن تلخيص أهم ما جاء به للخروج من التفكير الأسطوري في التالي: أصبح الكون محكوما ذاتيا بقانون عام، وليس بواسطة إله أو أي قوة أسطورية.
وجاءت آراء إنكسيمانس، كرد فعل وامتداد لآراء إنكسمندريس. وقد تابع البحث في علوم الفلك والرياضيات، واهتم بالتفرقة بين الكواكب والنجوم الثابتة، وبيان أوجه الاختلاف بينها. اعتقد في أن الأرض قرص مسطح. وذهب إلى أن القمر معتم، وأنه يستمد ضوءه من الشمس. ولم يتفق على وضع طاليس للماء كمبدأ أول. وذهب إلى أن الماء ليس إلا صورة من صور الهواء المضغوط عند التكثف. فذهب إلى أن الهواء هو المبدأ الأول للوجود.
وتعتبر الفيثاغورثية، اتجاها عاما وديانة، إلى جانب كونها فلسفة أسسها فيثاغورث سنة 580 ق.م، حين كون مجموعة من الرياضيين كانوا يعمن دون العدد ويعيشون كالرهبان. ويعتبر من أهم المؤثرين على الفلسفة الأفلاطونية، تميزت الفيثاغورثية بالغموض منذ ظهورها، وأعطت قيمة كبرى للعدد، حيث طابقت بين الأعداد والأشياء، واشتهرت بإنشاء علم اللاهوت الحسابي.
كان الانضمام إلى التعاليم الفيثاغورثية، يتطلب، فضلا عن تطهير الجسم من شهواته، العقل بدراسة العلوم المختلفة، وخاصة الرياضيات والموسيقى. وكان ينتظر من الطالب الجديد، أن يلتزم «الصمت الفيثاغورثي»، مدة خمس سنوات. ولعل المقصود بالصمت الفيثاغورثي، هو تقبل الأوامر من دون سؤال أو مناقشة، قبل أن يعترف به عضوا كاملا في الجماعة، وقبل أن يسمح له بأن يرى فيثاغورث، أي أن يدرس على يديه.
الفلسفة الفيثاغورثية، ومن قبلها الفلسفة الملطية، وقعت على ضرورة وجود واحد يتخلل الكون، ويكون مفسرا له، سببا في نظامه. فقالت بالعدد. فرغم تفهم هيراقليطس (576 - 480 ق.م)، لمفهوم الوحدة والنظام في الفلسفة الفيثاغورثية، فقد كان ساخرا منها ورافضا لها.
يمكننا القول، بأن مبدأ الوحدة والنظام، متمثلا في العدد مع الفلسفة الفيثاغورثية، قد استبدل من خلال الصراع عند هيراقليطس. إنه أول من قال في تاريخ الفلسفة، بالصراع والتغير. والواقع وفقا لهذا الفيلسوف، هو سلسلة من المتناقضات في صراع دائم. ويرى هيراقليطس، أن التناقض نافع، وأن أفضل أنواع الهارمونية، ينتج عن المتناقضات: «كل شيء يولد من الصراع». ففلسفة هيراقليطس ترى في التناقض والصراع طريقا وحيدا إلى الهارمونية. بل إنه ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما رأى أن تصورنا لتناقض طرفين ما أو صراعهما، هو تصور مغلوط. فكل من الطرفين يحمل داخله شيئا من نقيضه، والصراع الظاهر لنا، ما هو إلا وحدة للمتناقضات. فـ«أنت تعيش موتك، وتموت حياتك»: فالحياة والموت، هما مرادفان للمعنى نفسه. الإنسان يعيش في كل لحظة موته ويقترب نحوه. وكل دقيقة تمر تموت في الحقيقة. نحن نعيش موتنا، من الخطأ أن نتصور أن الموت والحياة هما شيئان مختلفان، في الحقيقة، هما وجهان لعملة واحدة.
خصص نيتشه خمس فقرات من كتابه «الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي»، ليحدثنا عن قصة بارمينيدس (544 - 450 ق.م)، وبحثه عن الحقيقة في الوجود. موضحا علاقة بارمينيدس بهيراقليطس، وعلاقة بارمينيدس بأكسانوفان، باعتبارهما ينتميان إلى المدرسة الإيلية: مدرسة الوحدة والثبات. يحدد بارمينيدس نوعين من الصفات في الوجود: النور الذي يمثل الصفة الإيجابية، وتندرج تحته الصفات التالية: الخفة، النار، الحرارة، الرقة، المذكر، الفعل. والنوع الثاني من الصفات، هو الظلام الذي يمثل صفة سلبية، وتندرج تحت هذه الصفة، مجموعة من الصفات التابعة وهي: الأرض، الثقل، البارد، السميك، الأنوثة، الانفعالية. وبعد تأمل عميق لهذه الصفات، سمى الصفات الإيجابية «الوجود» والصفات السلبية «اللاوجود». وبهذا، فالعالم مقسم إلى الوجود واللاوجود. وعلى هذا الأساس، اعتبر أن الوجود موجود واللاوجود غير موجود. فثبات ووحدة الوجود، لا نصل إليها بالمشاهدة الحسية حسب بارمينيدس، بل إدراك الوحدة يتم بالتحليلات العقلية. وبهذا ميز بين العقل والحس، وابتعد عن تضاريس الوجود الحسي، حيث أسهم في ظهور الأنطولوجيا كعلم يبحث في الوجود عما هو موجود، بمعنى دراسة الوجود في كليته. لقد كتب هولدرلين، الشاعر الألماني، مسرحية شعرية سماها «أنباذوقليس» (490 - 435 ق.م)، مجد فيها الإنسان باعتباره كائنا مقدسا وإلهيا. وفكرة أنباذوقليس الأساسية في الكون، أنه يعود إلى مواد أربع، وهذا ما يسمى «الأستويخيون» أو «الأسطقسات» في اللغة العربية. وهذه العناصر هي: الماء، الهواء، النار، والتراب. والعنصر الجديد الذي أضافه أنباذوقليس، هو التراب، أما بقية العناصر الأخرى، فقد قال بها كل من طاليس، وإنكسيمانس، وهيراقليطس. وإلى جانب هذه العناصر، هناك قوتان: المحبة التي تعمل على وصل العناصر، والكراهية التي تقوم بفصلها. وهكذا فالصراع والتعاقب هو قانون القوتين، ما يولد دورات كونية غير متناهية على شكل عود أبدي للمماثل والمشابه. ومجرى الطبيعة حسب أنباذوقليس، ليس خاضعا لنظام الغائية بل للمصادفة والضرورة.
ينتمي ديمقريطس (460 - 370 ق.م) إلى المدرسة الذرية. فهو القائل بأن الذرات المادية، أو «الجزء الذي لا يتجزأ»، هي أصل السكون والفساد، أي العالم الكائن. وهي في حالة حركة دائمة. وحركة الذرات هذه ليست موجهة إلى غائية ما. فشكل وحجم وضع الذرات، هو الذي يحدد صفات الأشياء. كما أن حالة الموجودات ناجمة عن تصادم الذرات، ونسبة المسافة الموجودة بينها. فالذرات أجسام لا يمكن أن تنحل. في البدء كانت الذرات متحركة في الخلاء، أي أن الحركة أزلية وأبدية. فلا شيء من لا شيء، ولا شيء يعود إلى اللاشيء.
إذن، ما يطبع التجربة الإغريقية في لحظة الحكماء، هو التفكير في الوجود في كليته، أو لنقل لغز الوجود. إنهم يشكلون ومضات مضيئة للفكر البشري في مختلف حقبه التاريخية، وحاجة الإنسانية إليهم واستلهامهم، هو التفكير بهم ومن خلالهم، وذلك من أجل الانفصال عنهم، قصد الاقتداء بهم فيما نواجهه، ونفهم هذا الذي يحدث في عصرنا، وليس تكرار ما قالوه واستنساخه.
5:54 دقيقة
بروفايل: فلاسفة اليونان الأوائل ولغز الوجود
https://aawsat.com/home/article/867271/%D8%A8%D8%B1%D9%88%D9%81%D8%A7%D9%8A%D9%84-%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%A7%D8%A6%D9%84-%D9%88%D9%84%D8%BA%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF
بروفايل: فلاسفة اليونان الأوائل ولغز الوجود
اجتهدوا لتخليص الفكر من سيطرة الأسطورة واستولوا على ميادينها
- الدار البيضاء: د. حسن الحريري
- الدار البيضاء: د. حسن الحريري
بروفايل: فلاسفة اليونان الأوائل ولغز الوجود
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة