بروفايل: فلاسفة اليونان الأوائل ولغز الوجود

اجتهدوا لتخليص الفكر من سيطرة الأسطورة واستولوا على ميادينها

بروفايل: فلاسفة اليونان الأوائل ولغز الوجود
TT

بروفايل: فلاسفة اليونان الأوائل ولغز الوجود

بروفايل: فلاسفة اليونان الأوائل ولغز الوجود

لم تكن بدايات الفكر اليوناني محكومة بالقوانين المنطقية، ولم تكن بالطبع فلسفة خالصة. فالفكر اليوناني كان فكرا أسطوريا، عموده الفقري هو الملحمة الشعرية. لكن الأسطورة تراجعت عن مواقفها القديمة كمركز للحياة الفكرية في اليونان، حيث قامت الفلسفة بالاستيلاء على معظم ميادينها، لكنها بقيت حاضرة، ولم يجر القضاء عليها مطلقا. فالأسطورة، والمنطق، والديانة، والفلسفة، أمور مترابطة تقدم، في بعض الأحيان، كمزيج مختلط، وكلما تقدمنا تاريخيا، نجد الفكر الفلسفي أكثر تحديدا واستقلالا، من دون أن يعني ذلك أنه، في مراحل الفلسفة اليونانية المشرقة، كان هذا الاستقلال تاما ونهائيا.
ظهرت في إيونيا حركة فكرية علمية الطابع، هدفها تفسير الظواهر الطبيعية لأول مرة، بمنأى عن الأساطير والخرافات. ولقد مثل الفلسفة الإيونية أو مدرسة ميلينوس، الفلاسفة: طاليس (624 - 546 ق.م)، وإنكسمندريس (610 - 545 ق.م)، وإنكسيمانس (588 - 525 ق.م). وكان موضوع بحث فلاسفة إيونيا، الوقوف على مبدأ واحد يكون وراء الفوضى والعماء، ويكون ثابتا وراء التغير يقدم طاليس فكرة أن الماء أصل العالم، ومبدأ مفسر للتغير، والتعدد، والكثرة، أن الكل واحد. وهذا ما جعله أول فيلسوف يوناني في نظر مؤرخي الفلسفة. ويعتبر إنكسمندريس، الفيلسوف الثاني للمدرسة الملطية. اعتقد في وجود عدد لانهائي من العوالم، وأنها جاءت جميعا من شيء ما وتفنى في الشيء نفسه، سمى هذا المبدأ الأبيرون. والأخير ليس عنصرا واحدا، لكنه مزيج من العناصر الطبيعية المختلطة، التي وحدها يمكن أن تفسر مجيء الموجودات إلى الوجود وفنائها. ربما يقترب أرسطو من فكر إنكسمندريس، عندما يصف الأبيرون في كتابه «الطبيعة»، بأنه ذلك الجوهر الكامن بين العناصر الأربعة. فالأكيد أن الفيلسوف لم يقصد بالأبيرون عنصرا محددا، ولكن كان يتحدث عن المبدأ والجوهر وراء كل العناصر. لأن من الأبيرون تجيء جميع الموجودات، ولا بد أنه من طبيعة مختلفة تحوي جميع العناصر وتفوقها. فجميع الموجودات لها نهاية محددة تفنى عندها. ولأنها تفنى في الأبيرون، لا بد أن يكون الأبيرون بلا نهاية، أو «لانهائي». ويعتبر تصور إنكسمندريس للكون كخلية مستقلة ومنظمة ذاتيا. ويمكن تلخيص أهم ما جاء به للخروج من التفكير الأسطوري في التالي: أصبح الكون محكوما ذاتيا بقانون عام، وليس بواسطة إله أو أي قوة أسطورية.
وجاءت آراء إنكسيمانس، كرد فعل وامتداد لآراء إنكسمندريس. وقد تابع البحث في علوم الفلك والرياضيات، واهتم بالتفرقة بين الكواكب والنجوم الثابتة، وبيان أوجه الاختلاف بينها. اعتقد في أن الأرض قرص مسطح. وذهب إلى أن القمر معتم، وأنه يستمد ضوءه من الشمس. ولم يتفق على وضع طاليس للماء كمبدأ أول. وذهب إلى أن الماء ليس إلا صورة من صور الهواء المضغوط عند التكثف. فذهب إلى أن الهواء هو المبدأ الأول للوجود.
وتعتبر الفيثاغورثية، اتجاها عاما وديانة، إلى جانب كونها فلسفة أسسها فيثاغورث سنة 580 ق.م، حين كون مجموعة من الرياضيين كانوا يعمن دون العدد ويعيشون كالرهبان. ويعتبر من أهم المؤثرين على الفلسفة الأفلاطونية، تميزت الفيثاغورثية بالغموض منذ ظهورها، وأعطت قيمة كبرى للعدد، حيث طابقت بين الأعداد والأشياء، واشتهرت بإنشاء علم اللاهوت الحسابي.
كان الانضمام إلى التعاليم الفيثاغورثية، يتطلب، فضلا عن تطهير الجسم من شهواته، العقل بدراسة العلوم المختلفة، وخاصة الرياضيات والموسيقى. وكان ينتظر من الطالب الجديد، أن يلتزم «الصمت الفيثاغورثي»، مدة خمس سنوات. ولعل المقصود بالصمت الفيثاغورثي، هو تقبل الأوامر من دون سؤال أو مناقشة، قبل أن يعترف به عضوا كاملا في الجماعة، وقبل أن يسمح له بأن يرى فيثاغورث، أي أن يدرس على يديه.
الفلسفة الفيثاغورثية، ومن قبلها الفلسفة الملطية، وقعت على ضرورة وجود واحد يتخلل الكون، ويكون مفسرا له، سببا في نظامه. فقالت بالعدد. فرغم تفهم هيراقليطس (576 - 480 ق.م)، لمفهوم الوحدة والنظام في الفلسفة الفيثاغورثية، فقد كان ساخرا منها ورافضا لها.
يمكننا القول، بأن مبدأ الوحدة والنظام، متمثلا في العدد مع الفلسفة الفيثاغورثية، قد استبدل من خلال الصراع عند هيراقليطس. إنه أول من قال في تاريخ الفلسفة، بالصراع والتغير. والواقع وفقا لهذا الفيلسوف، هو سلسلة من المتناقضات في صراع دائم. ويرى هيراقليطس، أن التناقض نافع، وأن أفضل أنواع الهارمونية، ينتج عن المتناقضات: «كل شيء يولد من الصراع». ففلسفة هيراقليطس ترى في التناقض والصراع طريقا وحيدا إلى الهارمونية. بل إنه ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما رأى أن تصورنا لتناقض طرفين ما أو صراعهما، هو تصور مغلوط. فكل من الطرفين يحمل داخله شيئا من نقيضه، والصراع الظاهر لنا، ما هو إلا وحدة للمتناقضات. فـ«أنت تعيش موتك، وتموت حياتك»: فالحياة والموت، هما مرادفان للمعنى نفسه. الإنسان يعيش في كل لحظة موته ويقترب نحوه. وكل دقيقة تمر تموت في الحقيقة. نحن نعيش موتنا، من الخطأ أن نتصور أن الموت والحياة هما شيئان مختلفان، في الحقيقة، هما وجهان لعملة واحدة.
خصص نيتشه خمس فقرات من كتابه «الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي»، ليحدثنا عن قصة بارمينيدس (544 - 450 ق.م)، وبحثه عن الحقيقة في الوجود. موضحا علاقة بارمينيدس بهيراقليطس، وعلاقة بارمينيدس بأكسانوفان، باعتبارهما ينتميان إلى المدرسة الإيلية: مدرسة الوحدة والثبات. يحدد بارمينيدس نوعين من الصفات في الوجود: النور الذي يمثل الصفة الإيجابية، وتندرج تحته الصفات التالية: الخفة، النار، الحرارة، الرقة، المذكر، الفعل. والنوع الثاني من الصفات، هو الظلام الذي يمثل صفة سلبية، وتندرج تحت هذه الصفة، مجموعة من الصفات التابعة وهي: الأرض، الثقل، البارد، السميك، الأنوثة، الانفعالية. وبعد تأمل عميق لهذه الصفات، سمى الصفات الإيجابية «الوجود» والصفات السلبية «اللاوجود». وبهذا، فالعالم مقسم إلى الوجود واللاوجود. وعلى هذا الأساس، اعتبر أن الوجود موجود واللاوجود غير موجود. فثبات ووحدة الوجود، لا نصل إليها بالمشاهدة الحسية حسب بارمينيدس، بل إدراك الوحدة يتم بالتحليلات العقلية. وبهذا ميز بين العقل والحس، وابتعد عن تضاريس الوجود الحسي، حيث أسهم في ظهور الأنطولوجيا كعلم يبحث في الوجود عما هو موجود، بمعنى دراسة الوجود في كليته. لقد كتب هولدرلين، الشاعر الألماني، مسرحية شعرية سماها «أنباذوقليس» (490 - 435 ق.م)، مجد فيها الإنسان باعتباره كائنا مقدسا وإلهيا. وفكرة أنباذوقليس الأساسية في الكون، أنه يعود إلى مواد أربع، وهذا ما يسمى «الأستويخيون» أو «الأسطقسات» في اللغة العربية. وهذه العناصر هي: الماء، الهواء، النار، والتراب. والعنصر الجديد الذي أضافه أنباذوقليس، هو التراب، أما بقية العناصر الأخرى، فقد قال بها كل من طاليس، وإنكسيمانس، وهيراقليطس. وإلى جانب هذه العناصر، هناك قوتان: المحبة التي تعمل على وصل العناصر، والكراهية التي تقوم بفصلها. وهكذا فالصراع والتعاقب هو قانون القوتين، ما يولد دورات كونية غير متناهية على شكل عود أبدي للمماثل والمشابه. ومجرى الطبيعة حسب أنباذوقليس، ليس خاضعا لنظام الغائية بل للمصادفة والضرورة.
ينتمي ديمقريطس (460 - 370 ق.م) إلى المدرسة الذرية. فهو القائل بأن الذرات المادية، أو «الجزء الذي لا يتجزأ»، هي أصل السكون والفساد، أي العالم الكائن. وهي في حالة حركة دائمة. وحركة الذرات هذه ليست موجهة إلى غائية ما. فشكل وحجم وضع الذرات، هو الذي يحدد صفات الأشياء. كما أن حالة الموجودات ناجمة عن تصادم الذرات، ونسبة المسافة الموجودة بينها. فالذرات أجسام لا يمكن أن تنحل. في البدء كانت الذرات متحركة في الخلاء، أي أن الحركة أزلية وأبدية. فلا شيء من لا شيء، ولا شيء يعود إلى اللاشيء.
إذن، ما يطبع التجربة الإغريقية في لحظة الحكماء، هو التفكير في الوجود في كليته، أو لنقل لغز الوجود. إنهم يشكلون ومضات مضيئة للفكر البشري في مختلف حقبه التاريخية، وحاجة الإنسانية إليهم واستلهامهم، هو التفكير بهم ومن خلالهم، وذلك من أجل الانفصال عنهم، قصد الاقتداء بهم فيما نواجهه، ونفهم هذا الذي يحدث في عصرنا، وليس تكرار ما قالوه واستنساخه.



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.