كيف نخلق تقليداً علمياً إسلامياً معاصراً؟

يمنى طريف الخولي تبشر بنموذج إسلامي يسمح بتوطين العلم في ثقافتنا

كيف نخلق تقليداً علمياً إسلامياً معاصراً؟
TT

كيف نخلق تقليداً علمياً إسلامياً معاصراً؟

كيف نخلق تقليداً علمياً إسلامياً معاصراً؟

صدر أخيراً، عن المؤسسة العربية للفكر والإبداع ببيروت، كتاب جديد للدكتورة يمنى طريف الخولي، بعنوان رئيسي: «نحو منهجية علمية إسلامية»، وعنوان فرعي: «توطين العلم في ثقافتنا». والكتاب جاء تتويجاً لمسار الباحثة في مجال «الابستمولوجيا»، مستجيباً هذه المرة، لهموم عالمنا العربي - الإسلامي. فالخولي عملت لسنوات، كأستاذة لفلسفة العلوم بالقاهرة، وكباحثة زائرة في جامعات عربية ودولية، وحصلت على الكثير من الجوائز، ولها رصيد يتجاوز العشرين كتاباً ما بين التأليف والترجمة، ويكفي ذكر عملها عن الفيلسوف الكبير كارل بوبر: «منطق العلم ومنهج العلم»، وترجمة كتابه: «أسطورة الإطار».
تندرج جهود طريف الخولي ضمن مباحث فلسفة العلوم. وقد أشبعت نهمها منها انطلاقاً من بحوث رصينة، حيث تعاملت ولوقت طويل، مع أعمدة فلاسفة العلم في القرن العشرين، أمثال: كارل بوبر وتوماس كون، اللذين شكلا تياراً نظرياً، تحرك عكس النزعة الوضعية، التي لا ترى في العلم إلا مناهجه وطرق اشتغاله من الداخل وآلياتها، ضاربة عرض الحائط الإطار الاجتماعي الذي تجري فيه العملية العلمية. وهذا ما أصبح مرفوضاً. فللعلم تاريخيته وطابعه الاجتماعي. وهو يمارس في إطار حضاري مخصوص. بمعنى آخر، يعد العلم ليس فقط تقنيات معزولة عن السياق المعرفي العام والاجتماعي الخاص، بل هو ينتج معجونا وممزوجا بالثقافة السائدة والمكونة من الاعتقاد والسياسة والأخلاق ومختلف القيم. فيمنى الخولي ستقتنع بضرورة التخلي عن الفكرة الوضعية التي ولى عهدها في الغرب، والتي أعاد إنتاجها كبار الفلاسفة العرب من أمثال زكي نجيب محمود، والتي تحكم على العلم ومنهجيته من خلال ذاته فقط، وكونه بلا وطن أو هوية، إلى وجوب الحكم عليه انطلاقاً من البعد الحضاري والقيمي، خاصة مع ظهور «مفهوم البراديم» الذي نحته توماس كون، في كتابه الذائع «بنية الثورات العلمية». وهو المفهوم الذي زلزل أركان المباحث الفلسفية في العلوم الكلاسيكية، وأبرز أن العلم لا ينفصل أبدا عن شروط إنتاجه السوسيولوجية. هذا المفهوم الذي تعول عليه الخولي كثيراً في كتابها الجديد الذي تترجمه: «بالنموذج الإرشادي»، على الرغم من أن هناك ترجمات أخرى للمفهوم، نراها أقوى (كالنموذج الموجه، الإبدال، المنوال وغير ذلك.
توطين العلم في الثقافة الإسلامية
لا ننكر أن هذا الزمن، الذي نعجز عن ولوجه، هو زمن علمي بامتياز. فمنذ القرن السابع عشر، والثورات العلمية تكتسح كل المجالات، وتحقق كل النجاحات، إلى درجة أصبح «العقل العلمي» طاغياً وكأنه الخيط الناظم لكل تفكير، والخلفية الواعية واللاواعية، الواضحة والمعتمة، الموجهة لرؤية الناس للعالم. إنه كالمستبد والطاغية الذي أصبح الكل يطلب وده ويسعى إلى التقرب منه. فكل البحوث من دون استثناء، تلهث وراء يافطة «علمي» خوفاً من أن لا يعتد بها، ومن ثم يجري إقصاؤها من نادي التنافس المعرفي.
إن عالمنا العربي الإسلامي، وعلى الرغم من كل المجهودات المبذولة فيه، لم يقدر على جعل العلم يمد جذوره إلى أعماق ثقافته. نعم نحن نستهلك المنجزات العلمية وربما أكثر حتى من الغرب، لكن الروح العلمية تكاد تغيب عنّا، والدليل هو عدم مساهمتنا الفعالة والمبدعة في العلم العالمي بإنجازات تذكر. فما السبب في ذلك؟ ولماذا هذا العجز في الانخراط في العلم العالمي بقوة؟ هذا هو الهم الذي حملته يمنى الخولي، واضطرها إلى تأليف كتاب تبرز فيه بعض المعوقات التي تحول دون تغلغل العلم إلى ثنايا ثقافتنا.
تنطلق يمنى الخولي بداية، من ضرورة الاعتراف بتواضع الإسهام في التقدم العلمي من قبل العالم الإسلامي المعاصر. نعم لدينا المجتهدون والمبدعون، وبعض الجامعات الرائدة والعريقة وذات الموقع في التصنيفات العالمية، وكذلك بعض المؤسسات. لكن كل هذه الجهود مشتتة. فنحن مازلنا في مرحلة النقل والاستهلاك (مشتقة من الهلاك)، ولم نحقق بعد، الذات الحضارية مثلما فعلت اليابان ولحقت بها، أو سبقتها الصين، وانضمت إليهما ثقافات أخرى لم تسهم في الحداثة ولكنها استوعبت المنجز العلمي، وهي تقدم اليوم مساهمات في المنجز العالمي المعاصر.
ترى يمنى الخولي، أن الدخول إلى عالم الإضافة والإبداع في العلم والبحث العلمي، لن يتم إلا إذا جرى التفكير في الطرق الكفيلة بتوطين العلم، وجعله جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا وليس غريبا عنا. بمعنى آخر، تريد الخولي أن تقول، إن على المثقفين والمتخصصين التفكير في السبل التي يجب أن نسلكها لجعل الروح العلمية تتغلغل إلى مخ عظام العربي- المسلم. أي علينا بذل الجهد لخلق تقاليد إسلامية تمهد لمجتمع العلم. وهنا تستشهد يمنى الخولي بفيلسوف العلم العربي الشهير رشدي راشد، الذي قال إن «المجتمع العلمي يكون موجودا عندما توجد تقاليد وطنية في البحث العلمي، تمهد لوجود هذا المجتمع العلمي، وتقدم له الخصائص التي تميزه. وإذا انعدمت التقاليد الوطنية في البحوث، لا يبقى سوى كمية من المعلمين وتجمع من التقنيين». وهذا بالضبط ما تريد الخولي القيام به في كتابها الجديد، أي وضع خريطة طريق تسمح، وبعزم، بخلق نموذج إرشادي يمتح أصوله من الثقافة الإسلامية، يمكنه أن يعطي الانطلاقة نحو التقليد العلمي المنشود. فهي قررت عدم العودة إلى الماضي بحثاً عن أسباب التخلف، أو البحث عن تلك النقط المضيئة لكي نحتمي بها. بل قررت على العكس من ذلك، النظر إلى المستقبل، أي البحث عن القوى التي يمكن الاستناد إليها لخلق الحماسة وتوليد الحركة في العقل المسلم. فما هي ملامح هذا «النموذج الإرشادي الإسلامي» الذي تبشر به يمنى الخولي؟
ملامح النموذج العلمي الإسلامي
تعترف يمنى بداية، بأن عملها في اقتحام «العقدة المنهجية» التي تتخبط فيها ثقافتنا، جاءت كتوليف لمجهودات السابقين. وتقصد بالأساس، عمل أو حلم مصطفى عبد الرزاق في تحقيق الذات الحضارية، الذي سيسير في دربه علي سامي النشار. وهو العمل الذي سيفتر ويتحول إلى نقيضه، حين تهيمن الأطروحة الوضعية المنطقية مع زكي نجيب محمود، الذي شد انتباه الباحثين إلى المعاصرة، وزاد من حدتها العمل التنويري القاطع والحاد الذي أنجزه فؤاد زكريا وآخرون. فهذا الموقف الذي يتحرك ما بين الأصالة والمعاصرة، بين الأخذ من الذات ومن الآخر، هو ما شد انتباه الخولي، حيث عملت على التركيب والتوليف المتناغم، عبر المزاوجة بين المنهجية ذات البعد المشترك والمنهجية ذات البعد الخاص. أو بعبارة أخرى، عملت على خلق جدل بين ما هو كوني وما هو خصوصي. وهنا تعلن استفادتها من المعهد العالمي للفكر الإسلامي في فرجينيا منذ 1977.
إن أهم ما استفادت منه يمنى الخولي من الابستمولوجيا المعاصرة، هو أن العلم لم يعد مجرد إجراءات تجريبية عقلية ورياضية، أو مجرد آليات يجري تعلمها. بل هو يحتاج، قبل كل شيء، إلى قوة دافعة تؤخذ من الثقافة السائدة. فالبعد العقدي والنسيج العاطفي والمنظومة القيمية، تولّد في النفوس، الطاقة اللازمة، وتخلق فيها الحماسة الضرورية لانبثاق العلم. باختصار، لكي يتطور العلم يحتاج إلى المشترك الإنساني العام، أي الحصيلة المعرفية الكونية. لكنه يحتاج أيضاً، إلى أن يضخ كل ذلك في إطار الخصوصية الثقافية والواقع الاجتماعي. لهذا ولكي ينطلق العلم عندنا، لا بد من إقحام المنجز العلمي المعاصر في التربة الإسلامية بما يتلاءم ومبادئها وأسسها، وإلا سيكون الأمر كصرخة في واد. بكلمة واحدة، تؤكد الخولي على أن الانطلاق في العلم، يجب أن يكون مربوط الصلة بالماضي. إذ لا ينبغي البدء من دون جذور. وتجسير الهوة بين المشترك الكوني وبين المخزون الثقافي والحضاري، يغدو مطلبا ملحا، وإلا لن نتحرك قيد أنملة في جعل العلم يتشكل كتقليد يسري في كيان الثقافة العربية الإسلامية.
وتبعا لما جرى تحديده أعلاه، يكون المسلم بحسب يمنى الخولي، مطالبا بالاشتغال وفق إطار منهجي إسلامي عام، إن شاء أن لا يحس بالغرابة تجاه العلم، ويمكن تحديد ملامحه كالآتي:
أولاً: الانطلاق من نواة التوحيد. والتوحيد هنا، ليس مجرد مبدأ ميتافيزيقي وحسب، يوفر إمكانية النظام. بل هو أيضاً، مبدأ قيمي، يضفي على البحث العلمي أخلاقيات ومعايير يفتقدها العلم الغربي. فعلاقة المسلم بالعالم، لا ينبغي أن تسير في منحى المنهجية الغربية نفسها، ذات القراءة الوحيدة لكتاب الطبيعة. بل يجب أن تتجاوزها إلى نظرة تكاملية تستحضر قراءة الكتاب المنزل. وهذا الدمج بين القراءتين أي قراءة الكتاب المنظور (الطبيعة) والكتاب المسطور (الوحي)، هو ما سيضفي الخصوصية على العلم الإسلامي المرتقب.
ثانياً: إذا ينبغي على المنهجية الإسلامية الانطلاق من نواة صلبة هي التوحيد، تضمن النظام والأبعاد القيمية، فإنه ينبغي أن تضاف إليها موجهات ومقاصد، هي: مقصد الاستخلاف، أي أداء الأمانة وتحمل المسؤولية في الأرض، ومقصد العمران، أي الاضطلاع بمهام البناء وأعمار الأرض، ومقصد التزكية، أي التطهير وترقية النفس وصون قيمة الحياة.
إذن ترى يمنى الخولي، أن إقحام العلم وتوطينه وإبعاده عن أن يكون غريبا عن ثقافتنا، لن يتحقق إلا إذا تلاءم ومرجعية المسلمين. بعبارة أخرى، على العقل المسلم أن يسدد العلوم الطبيعية، ويخرجها من النزعة الآلية الجافة، كما هي في المنهجية الغربية، نحو إضفاء صبغة الغائية والقيم والمقاصد عليها، ما سيولد لديه الإحساس بالتميز، وكذلك الحافز، والحماسة نحو الاشتغال بما يناسب ميوله وثقافته المتغلغلة في جوفه.
نخلص إلى أن الخولي، تشتغل ضمن السؤال نفسه الطاعن في السن: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ والجواب عندها، يكمن في غياب العلم. لكن الإشكالية الأهم المتفرعة عن السؤال الأول: لماذا لم نفلح في تبيئة العلم وتوطينه، كي يسري في عروق ثقافتنا، ويصبح تقليداً عاماً يسمح بالإبداع؟ الجواب عندها، هو أن الأمر جرى بمعزل عن مراعاة سياقنا الحضاري العقدي والعاطفي والقيمي. فظل العلم عندنا مشتتاً وتقنياً يردده بعض المعلمين فقط، فأضحى غير مستساغ، بل غريباً عنا. فهل نبدأ في وضع مناهج تدمج الكوني بالخصوصي ولو على سبيل التجريب؟



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.