هايدغر والفكر العربي في مؤلف لمشير عون

لهما من الغنى والحمولة التأويلية ما يصعّب الإحاطة بهما

هايدغر والفكر العربي في مؤلف لمشير عون
TT

هايدغر والفكر العربي في مؤلف لمشير عون

هايدغر والفكر العربي في مؤلف لمشير عون

صدرت قبل نحو سنة ونصف، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ترجمة لكتاب مثير في عنوانه وموضوعه، هو كتاب «هايدغر والفكر العربي»، (190 صفحة)، لمؤلفه مشير باسيل عون، أستاذ تاريخ الفلسفة الألمانية وفلسفة الدين والهيرمينوطيقا، في الجامعة اللبنانية ببيروت.
في هذا العمل الصادر باللغة الفرنسية، بعنوان: «Heidegger et la pensée arabe»، وهو من ترجمة إيلي أنيس أبو نجم، يحاول مشير عون أن يأخذنا إلى نوع من التأمل العميق والحوار المتعدد الأبعاد بين فكرين؛ هما: الفكر العربي، والفكر الهايدغري. وهذه عملية صعبة ودقيقة بشهادة عون نفسه، نظرا إلى أنه ليس من السهل مقاربة فكرين لهما من الغنى والحمولة التأويلية، ما يجعل من الصعب الإحاطة بهما إحاطة تامة.
* ما الذي يمكن للفكر الهايدغري أن يقدمه للفكر العربي؟
الغاية الكبرى من هذا العمل في نظر مشير عون، هي ما قد يتيحه الفكر الهايدغري للفكر العربي، في مجال التفكر في الكون، نظرا لحمولته الإشكالية الكبرى، ما سيساعده كي يقف على إمكاناته المحتملة وتصويبها، ومواجهة حقيقته وخصوصيته. وبالتالي، فهايدغر سيمكن الفكر العربي من بلوغ الاختبار الخاص بالثقافة العربية في عمق مسعاها التاريخي الخصوصي، انطلاقا من حيوية نقدية استثنائية يتسم بها هذا الفكر، ما قد يساعد على تخليص الذات العربية من انحرافاتها، عن طريق مساءلتها في ضوء الكون. لكن هذا لا يعني تقبل هذا الفكر كما هو، بقدر ما أن هذا الانفتاح يتوجب أن يكون على شكل مساءلة له ووعي بتوتراته الداخلية، بخاصة أن مارتن هايدغر، لم يثره أي اهتمام بالفكر العربي، وكذلك بالنسبة للفكر العربي، فما اقتبسه من أعمال هذا الفيلسوف كان جزئيا متقطعا، على العكس من بعض التيارات الفلسفية، التي كانت العناية بها أوضح وأبلغ أثرا، كالاشتراكية والوجودية والشخصانية، من دون نسيان ما تميز به الفكران معا من تعقيد بسبب حمولتهما التأويلية الكبيرة، بحيث يغدو عسيرا أكثر فأكثر، أن نحيط بحدودهما المتبدلة واستخراج جوهرهما بأمانة.
* في المقارنة الشكلية والبنيوية بين الفكرين
يتميز الفكر العربي بكونه في العمق فكرا لاهوتيا يطبع المجتمع العربي في مختلف أبعاده الروحية والزمانية والمجتمعية، محكوما بهاجس الأصالة والمعاصرة، من دون أن يورط نفسه في محاولة تفكيكية عميقة. أما الفكر الهايدغري، فهو في الأساس، فكر أنطولوجي يحركه السعي إلى كشف حقيقة الكون، ويتمحور حول علاقة الاختلاف والمواجهة التي تربط بين الكون والكائن، بموجب الإقبال الخاص بالوجود الأصلي غير الميتافيزيقي، وهو الوجود الذي يمتنع هايدغر عن تسميته. وإذا كان هايدغر يأبى الانخراط في خانة العقلانية، لأن رهان الأنطولوجيا الأساسي يستبعد استبعادا بينًا التوسط المشبوه للتحقق العقلاني، فالفكر العربي ينتسب انتسابا لا يمكن إنكاره، إلى نظرية عامة في المعرفة، ويطمح إلى إرساء حكمة أخلاقية قادرة على ترشيد الفعل البشري، بما فيه الفعل العقلاني الذي ينبذه هايدغر، نظرا لتحوله إلى أداة لحجب الكون. إذا كان الفكران معا يستعدان للنهوض بتحول عميق إلى حالة جديدة تتسم بالإصلاح والتفتح، فالاهتمامات المشتركة بين الفكرين في الحقيقة قليلة التطابق.
يرى مشير عون، أن كلا من الفكر العربي والفكر الهايدغري يشتركان في نظرتهما للغرب، فقد شكل الغرب بالنسبة لهما معا، نقطة جذب ومصدر ريبة وحذر. وفي الوقت الذي يقف فيه الفكر العربي في اتجاهه التقليدي عدوانيا تجاه هذا الفكر، وفي اتجاهه الحداثي اصطفائيا انتقائيا في قبوله له، فإن هايدغر يحاول من خلال دراسته للغرب، العمل على استيلاد حقيقته الخاصة، وهي الحقيقة التي ولدها التيهان الميتافيزيقي، وفاقمت خطورتها الذاتية العائدة إلى العقلانية الاحتسابية والتسلطية. هذه الحقيقة لا تتحقق إلا من خلال العودة إلى الأصول، حيث فجر التفتح الأول للكون، وهي اللحظة القبل سقراطية، حيث الاختبار التأسيسي لكل تأمل فلسفي. أداة ذلك هرمينوطيقا تأسيسية، تؤول الفكر من خلال الوقوف على اللسان ودلالاته. فقد آثر الفكر الهايدغري موضوع اللسان ودوره في إرساء هوية الإنسان والأمة. وهو في ذلك، يقارب الفكر العربي الذي تماهى هو الآخر باللسان العربي. آخر نقطة يشترك فيها الفكران معا هي نظرتهما للأمة. فقد اعتبر هايدغر الأمة بمثابة الوطن الذي يولد فيه الكائن البشري ويتفتح كل تفكر فلسفي يتناول هويته. وهو في ذلك، يشبه الفكر العربي الذي ينظر إلى الأمة على أساس أنها مستقر، أي مشروع عربي وجوهر معنى الوجود التاريخي والإسهام الحضاري.
* الإسهام الهايدغري الممكن
يحاول مارتن هايدغر التأسيس لأنثروبولوجيا جديدة تخلص الأنثروبولوجيا الغربية من أناها التفكرية، وتسلط ذاتيتها وهيجان عقلانيتها، بغية العودة إلى الوطن الأم العائد إلى حقيقة الكون التي نتناولها بالتفكر، واعتبار الإنسان راعي الكون في لغزيته ككائن وجودي وزماني وتاريخي. هكذا، فإذا كان الفكر العربي يبحث عن هوية مميزة له، فهو مدعو، كما يرى مشير عون، بطريقة فريدة، إلى إعادة دمج المفاهيم الأساسية العائدة إلى العالم والزمان والتاريخ في تصوره للإنسان. تنشأ الإضافة الثانية التي يدعى الفكر العربي الحالي إلى القيام بها، في سياق المقاربة الهايدغرية للمدينة البشرية، حيث دعا إلى الانتقال من سياسة الهيمنة إلى التوفيق. فقد رفض هايدغر المؤسسات الدستورية الحديثة، كما رفض كذلك، اعتبار السياسة مجرد إدارة قطاعات، وإنما هي في المقابل، الاضطلاع بإقبال حقيقة الكائنات في الوجود التاريخي للشعب. وبالتالي، فإذا كانت للسياسة مكانة مهمة في الوعي العربي، فإن لها مصلحة في احتضان الاستجواب الهايدغري ليصير حافزا نقديا على التجديد، حيث يسلك دروب التأسيس الأنطولوجي، عن طريق التجذير للفعل السياسي، انطلاقا من المدينة الإغريقية، حيث تعيش الجماعة البشرية اختبارها الخاص بالكون. وبالتالي، لا يجب على الفكر العربي إخضاع الكائنات إخضاعا تاما للشأن السياسي أو التقني، أو ممارسة أي شكل من أشكال الإقصاء المنتظم للجماعة التي يتكون منها شعب من الشعوب، وإنما إرجاع هذا البعد الأنطولوجي إلى الفكر السياسي العربي، وهو البعد المغيب، حيث يغدو الشعب صانع قدره ومالك ما يدعى إليه. وهذا يعني أن ما هو سياسي عند هايدغر يحوي طاقة تصحيحية وعلاجا قادرا على مقاومة الانحرافات الناجمة عن الاستبداد السياسي الذي ينتشر في العالم العربي.
* الأنثروبولوجيا الهايدغرية
ليس القصد من المواجهة إلغاء أحد الطرفين، وإنما مساعدة القارئ على أن يستخرج بنفسه سمات التباعد، دون هيمنة أي طرف على الآخر، حيث يكون بإمكان الفكرين الإفادة كليهما من الآخر.
اجتهد هايدغر لصوغ مقاربة راديكالية لمعنى الكون، مقاربة تلغي الميتافيزيقا التي عملت، تاريخيا، على نسيان الكون وحجبته إلى الأماكن الخلفية، ما انعكس على الإنسان الذي تناسى بنسيان الكون كينونته. وبالتالي، فمشروع هايدغر هو إرجاع الكون إلى الحضور كما كان مع الإغريق قديما. فأصبح تاريخ الأنثروبولوجيا الغربية بالنسبة لهايدغر، هو تاريخ نسيان الكون. وبالتالي، فإن غرض هذه الأنثروبولوجيا، هو تخليص الإنسان من هذا النسيان، وإعادة الكائن إلى عمق الوجود. وذلك لن يتأتي إلا من خلال نقد النزعة الإنسانية التي أصبحت عبارة عن ذاتية، نصبت العقل سلطانا وحجبت باللغة، العلاقة الفعلية بالكون، وسقطت في الشرك الذي قضى بتحويل الإحساسات إلى موضوعات، واستولت على مجمل الواقع. فماهية الإنسان عليها أن تستعيد نفسها، وتبلغ خلاصها في دنو من الكون، وعليه يبلغ الموجود الإنساني هذا الخلاص بالتحرر من انهدام الانتماء إلى الوطن الذي يدوم فيه ضلاله. غير أن قدر الإنسان يقوم عليه اكتشاف حقيقة الكون، وعلى سلوك الدرب الذي أفضى إلى هذا الاكتشاف، على اعتبار أنه الراعي الحقيقي له. في مقابل هذا التصور، نجد الإنسان العربي مكسوا بالتصور القرآني له، ككائن يتفرع كيانه من مشيئة متعالية، من دون أن يتوفر على قوام مستقل بذاته. وهو التصور ينتسب إلى التراث الديني التوحيدي الخاص بالإسلام. والحال أن النقد الهايدغري يستهدف الأساس النهائي لهذا التراث. وبالتالي، فالأنثروبولوجيا العربية تدرك أن هذا النقد يطالها، ما ينتج عن ذلك أن الأعمال الهايدغرية، إمكانات تستدعي الفكر الميتافيزيقي العربي بصورة غير مباشرة.
* القصد الأخير
عملية كهذه ومشروع ضخم بهذه الحساسية والأهمية، سيبقى بالتأكيد، مفتوحا على المستقبل، مستقبل يستطيع فيه الفكر العربي الانفتاح على الفكر الهايدغري والإفادة منه، على الرغم من غرابة منهجه، حيث يعمل من خلاله على إعادة معاينة ذاته ووضعه، وفي الوقت نفسه، هو امتحان للفكر الهايدغري في ضوء فكر آخر مغاير له. فالتلاقي بين الفكرين، سيرسم الطريق نحو تلاق بين حضارتين ورؤيتين وتصورين للإنسان، ويساهم في إعادة تشكيل الفكرين معا كل في ضوء الآخر.



أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.