من التاريخ: صناعة الأبطال في غاليبولي

الجنرال إيان هاملتون
الجنرال إيان هاملتون
TT

من التاريخ: صناعة الأبطال في غاليبولي

الجنرال إيان هاملتون
الجنرال إيان هاملتون

أذكر جيدًا يوم شاهدت صناعة النجم ميل غيبسون من خلال فيلمه الشهير الذي يجسد معركة غاليبولي، الذي لعب فيه دور الضابط الأسترالي الذي شارك في هذه المعركة الكبيرة ضمن قوات «الأنزاك Anzac» (اختصار كلمات الفيلق الأسترالي - النيوزيلندي) التي دربت في مصر في 1915 تمهيدًا لمشاركتها في الجهد العسكري لبريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى ضد الدولة العثمانية وذلك بعد قرابة سبعة عقود من الحدث الحقيقي. ولكن في هذه المعركة الشهيرة سطع نجم الضابط التركي اللامع مصطفى كمال «أتاتورك» أيضًا - كما تابعنا في الأسابيع الماضية - ومن المفارقات أن هذه المعركة أسفرت أيضًا عن خسوف نجم السياسي العبقري البريطاني ونستون تشرشل صاحب فكرة هذه الحملة الفاشلة وقراره الطوعي بالابتعاد عن السياسة لحين تولى المسؤولية مرة أخرى رئيسا لوزراء بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية. وكانت هذه، فيما يخص تشرشل، فرصة قلما منحها التاريخ لقائد سياسي فشل فشلاً ذريعًا في معركة ليصحح خطأه بعد ذلك بنجاح أكبر عملية إنزال برمائي في التاريخ الحديث على شاطئ النورماندي في فرنسا عام 1944 لدحر ألمانيا النازية.
وحقًا، عاد تشرشل بعد 29 سنة ليدخل التاريخ من أوسع أبوابه هاضمًا أخطاءه في معركة غاليبولي. وفي المقابل بنى «أتاتورك»، بعكس الزعيم البريطاني، مستقبله العسكري على نجاحه في تلك المعركة. وكان قبلُ ملحقًا عسكريًا لبلاده في صوفيا (عاصمة بلغاريا) إبان الحرب العالمية الأولى وكانت مشتاقًا لقيادة عسكرية ليشارك في الدفاع عن بلاده. ومن خلال اتصالاته مع قيادته استطاع أخيرًا الحصول على هذه القيادة، إذ جرى تعيينه قائدًا للفرقة التاسعة عشرة الملحقة بقيادة الجيش التركي في شبه جزيرة غاليبولي، لكنه كان تحت قيادة اللواء الألماني أوتو ليمان فون ساندرز، الذي كانت قد عينته القيادة التركية قائدًا عامًا للجيش التركي في هذه المنطقة.
«أتاتورك» بطبيعته كان رافضًا للسياسة الألمانية وتوجهاتها رغم كون ألمانيا حليف بلاده في الحرب العالمية الأولى، وهو ما أثر سلبيًا على علاقته مع قائده الجديد. ولكن مع ذلك أبلى بلاءً حسنًا في تنظيم صفوف قواته ما جعله محل ثقة القائد الألماني، خصوصا أنه كان على إدراك كامل بالطبيعة الطوبوغرافية لشبه الجزيرة - المطلة على مضيق الدردنيل - إبان مشاركته في الحرب العثمانية البلغارية. وهذا ما وضع «أتاتورك» في موقف أفضل من الحلفاء الذين كانوا يجهزون للإنزال وفقًا لخرائط قديمة تعود إلى أيام حرب القرم عام 1854، الذين كان هدفهم الاستراتيجي من هذه الحملة البرمائية لتأمين السيطرة على مضيق الدردنيل ثم مضيق البوسفور، وهو ما جعلهم يتعجلون العملية بغير دراسة كافية، لا سيما تشرشل الذي رفض كل الخيارات العسكرية الأخرى.
وكما توقع «أتاتورك» تم الإنزال في خمس مناطق محددة، إضافة إلى إنزال آخر لقوات «الأنزاك» شمالاً، وبدأت هذه المعركة العسكرية يوم 25 أبريل (نيسان) 1915. كان فون ساندرز مقتنعًا بأن الحرب على الشواطئ ستفقده القدرة على إحكام دفاعاته، فقرر الإبقاء على دفاعات بسيطة متقدمة في الشواطئ لإبطاء حركة العدو بينما نشر قوته الأساسية في المرتفعات الملاصقة للشواطئ، إلا أن الفرنسيين قاموا بحركة خداع من خلال مناورة جعلت القائد الألماني يتحرك صوب الشمال الشرقي اعتقادًا منه أن الحلفاء سينزلون بقوة في شمال شرقي شبه الجزيرة وهو ما أخرجه من بؤرة مسرح العمليات الحقيقي وترك القادة الميدانيين أسيادًا للموقف.
واقع الأمر أن الحلفاء ارتكبوا كثيرا من الأخطاء؛ فهم لم يتوقعوا المقاومة التركية الشرسة التي واجهتهم على الإطلاق. ثم إن الإنزال حصل في مناطق صعبة للغاية لم تسمح لهم بسرعة التحرك، إضافة إلى وجود حالة من الفوضى ضربت القوات الحليفة بعد الإنزال عندما تعطلت حركتها إثر المقاومة التركية الباسلة، وهو ما جعلها تفقد وقتًا ثمينًا قبل محاولة الاستيلاء على المرتفعات. هذا كان كافيًا لمنح الأتراك الفرصة لإحكام الدفاعات بعدما عرفوا أماكن الاختراقات المتوقعة، وهكذا تمتعوا بميزة الدفاع من الجبال المرتفعة أمام قوة هجومية بطيئة الحركة أسفلها.
أما على الجبهة، حيث كان «أتاتورك»، فالأمر لم يكن بالصورة نفسها، وبخاصة أنه توقع مكان نزول الحلفاء وهو ما جعله يراهن على خطوتهم التالية. ومن ثم، مع توقعه مكان حدوث المعركة بشكل صحيح، حرك القائد التركي قواته بكل سرعة لملاقاة «الأنزاك»، إلا أنه عندما وصل إلى مواقعه الدفاعية أدرك أنه تأخر بعض الشيء عندما رأى قواته الأمامية منهكة وعاجزة عن الاستمرار. وفي حالة انسحاب، تحرك هو بمفرده بعيدًا عن مركز الفرقة لملاقاة فلول الدفاعات المتقدمة المنسحبة بكل سرعة تحت ذريعة نفاد الذخيرة. هنا كان «أتاتورك» في مرمى نيران العدو لكنه لم يأبه، بل هدّد كل من ينسحب وطلب من جنوده أن يضعوا الحراب على البنادق ويقاتلوا من دون ذخيرة لوقف تقدم «الأنزاك». وعلى الأثر، أخذ يحرك دفاعاته لصد الهجوم، وكانت خطوة «أتاتورك» موفقة للغاية علمًا بأنه دفع باحتياطياته كلها دون استئذان فون ساندرز، ولو لم يفعل هذا لكانت الجبهة التركية قد اُختُرقت من الشمال الغربي ولكان الحلفاء قد زحفوا على الدفاعات التركية في المناطق الخمس الأخرى، ولكن فطنة «أتاتورك» وشجاعته حالتا دون ذلك.
وفعلاً استطاع القائد التركي وقف تقدم «الأنزاك» بفضل هجوم مضاد أعادهم مرة أخرى إلى الشواطئ، حيث كانوا قد أنزلوا، ولكن بثمن باهظ من الضحايا. ومع ذلك أدت هذه الخطوة إلى وقف تقدم العدو وحماية الجبهة التركية من هزيمة محققة، وما لبث الفريقان أن دخلا في حرب خنادق على النحو السائد في الجبهة الفرنسية بين ألمانيا وفرنسا. ولكن الحلفاء قرروا الدفع بدعم عسكري جديد قوامه عشرون ألفًا وبدأت الجولة الثانية في أغسطس (آب) من العام نفسه. ومجددًا تعمد «أتاتورك» مواجهة الهجوم الغربي بمقاومة شديدة أنهكته وجعلته يتأخر في إعادة التمركز مرة أخرى وهو ما استغله القائد التركي الشجاع وقاد هجومًا انتحاريًا ضد هذه القوات ودحرها في منطقة شانوك بايير. وكان لهذا الإنجاز أثره الكبير في إقناع الحلفاء - ولا سيما بريطانيا - بأن حملتهم في غاليبولي فشلت بعدما فقدوا نحو 46 ألف قتيل.
وكان المنتصر الأكبر في هذه المعركة مصطفى كمال «أتاتورك»، الذي لم يكن من المستغرب أن ينال إعجاب الأعداء قبل الحلفاء. ومنذ هذه اللحظة بدأت «صناعة نجوميته»، في حين أصر تشرشل على تحميل القائد البريطاني الجنرال إيان هاملتون المسؤولية في فشل الحملة بدلاً من سوء تخطيطه، وقال عنه معاتبًا إنه «جاء وشاهد وانسحب»، في تهكم صريح وتحوير لكلمات يوليوس قيصر عندما قال: «جئت وشاهدت وغزوت»، ولكن الساسة كثيرًا ما يعلقون فشل فكرهم على آخرين وهذه سمة ليست نادرة.
لقد كانت معركة غاليبولي علامة فارقة في حياة «أتاتورك»، غير أنه لم يتذكرها على أنها معركة عسكرية فحسب، بل أدرك بمرور الوقت أهميتها بالنسبة لتركيا كلها ولسياسته الخارجية الهادفة للسلام والاستقرار وليس الحرب والفوقية وافتعال الخلافات. وهكذا، قال في خطبته الشهيرة في رثاء جنود أعدائه السابقين كلمات... منها: «أيها الأبطال الذين أريقت دماؤهم وفقدوا أرواحهم ارقدوا في سلام... اليوم لا اختلاف بين من نسميهم (جوني) أو (محمد) حيث يرقدون جنبًا إلى جنب هنا في وطننا... أيتها الأمهات الثكالى اللائي أرسلن أبناءهن إلى الحرب... امسحن دموعكن فأولادكن في أحضاننا وهم في سلام... إنهم بعدما فقدوا أرواحهم في هذه الأرض أصبحوا الآن أولادنا نحن أيضًا».
هكذا تكون العبقرية السياسية الممزوجة بالانتصار العسكري.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.