من التاريخ: صناعة الأبطال في غاليبولي

الجنرال إيان هاملتون
الجنرال إيان هاملتون
TT

من التاريخ: صناعة الأبطال في غاليبولي

الجنرال إيان هاملتون
الجنرال إيان هاملتون

أذكر جيدًا يوم شاهدت صناعة النجم ميل غيبسون من خلال فيلمه الشهير الذي يجسد معركة غاليبولي، الذي لعب فيه دور الضابط الأسترالي الذي شارك في هذه المعركة الكبيرة ضمن قوات «الأنزاك Anzac» (اختصار كلمات الفيلق الأسترالي - النيوزيلندي) التي دربت في مصر في 1915 تمهيدًا لمشاركتها في الجهد العسكري لبريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى ضد الدولة العثمانية وذلك بعد قرابة سبعة عقود من الحدث الحقيقي. ولكن في هذه المعركة الشهيرة سطع نجم الضابط التركي اللامع مصطفى كمال «أتاتورك» أيضًا - كما تابعنا في الأسابيع الماضية - ومن المفارقات أن هذه المعركة أسفرت أيضًا عن خسوف نجم السياسي العبقري البريطاني ونستون تشرشل صاحب فكرة هذه الحملة الفاشلة وقراره الطوعي بالابتعاد عن السياسة لحين تولى المسؤولية مرة أخرى رئيسا لوزراء بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية. وكانت هذه، فيما يخص تشرشل، فرصة قلما منحها التاريخ لقائد سياسي فشل فشلاً ذريعًا في معركة ليصحح خطأه بعد ذلك بنجاح أكبر عملية إنزال برمائي في التاريخ الحديث على شاطئ النورماندي في فرنسا عام 1944 لدحر ألمانيا النازية.
وحقًا، عاد تشرشل بعد 29 سنة ليدخل التاريخ من أوسع أبوابه هاضمًا أخطاءه في معركة غاليبولي. وفي المقابل بنى «أتاتورك»، بعكس الزعيم البريطاني، مستقبله العسكري على نجاحه في تلك المعركة. وكان قبلُ ملحقًا عسكريًا لبلاده في صوفيا (عاصمة بلغاريا) إبان الحرب العالمية الأولى وكانت مشتاقًا لقيادة عسكرية ليشارك في الدفاع عن بلاده. ومن خلال اتصالاته مع قيادته استطاع أخيرًا الحصول على هذه القيادة، إذ جرى تعيينه قائدًا للفرقة التاسعة عشرة الملحقة بقيادة الجيش التركي في شبه جزيرة غاليبولي، لكنه كان تحت قيادة اللواء الألماني أوتو ليمان فون ساندرز، الذي كانت قد عينته القيادة التركية قائدًا عامًا للجيش التركي في هذه المنطقة.
«أتاتورك» بطبيعته كان رافضًا للسياسة الألمانية وتوجهاتها رغم كون ألمانيا حليف بلاده في الحرب العالمية الأولى، وهو ما أثر سلبيًا على علاقته مع قائده الجديد. ولكن مع ذلك أبلى بلاءً حسنًا في تنظيم صفوف قواته ما جعله محل ثقة القائد الألماني، خصوصا أنه كان على إدراك كامل بالطبيعة الطوبوغرافية لشبه الجزيرة - المطلة على مضيق الدردنيل - إبان مشاركته في الحرب العثمانية البلغارية. وهذا ما وضع «أتاتورك» في موقف أفضل من الحلفاء الذين كانوا يجهزون للإنزال وفقًا لخرائط قديمة تعود إلى أيام حرب القرم عام 1854، الذين كان هدفهم الاستراتيجي من هذه الحملة البرمائية لتأمين السيطرة على مضيق الدردنيل ثم مضيق البوسفور، وهو ما جعلهم يتعجلون العملية بغير دراسة كافية، لا سيما تشرشل الذي رفض كل الخيارات العسكرية الأخرى.
وكما توقع «أتاتورك» تم الإنزال في خمس مناطق محددة، إضافة إلى إنزال آخر لقوات «الأنزاك» شمالاً، وبدأت هذه المعركة العسكرية يوم 25 أبريل (نيسان) 1915. كان فون ساندرز مقتنعًا بأن الحرب على الشواطئ ستفقده القدرة على إحكام دفاعاته، فقرر الإبقاء على دفاعات بسيطة متقدمة في الشواطئ لإبطاء حركة العدو بينما نشر قوته الأساسية في المرتفعات الملاصقة للشواطئ، إلا أن الفرنسيين قاموا بحركة خداع من خلال مناورة جعلت القائد الألماني يتحرك صوب الشمال الشرقي اعتقادًا منه أن الحلفاء سينزلون بقوة في شمال شرقي شبه الجزيرة وهو ما أخرجه من بؤرة مسرح العمليات الحقيقي وترك القادة الميدانيين أسيادًا للموقف.
واقع الأمر أن الحلفاء ارتكبوا كثيرا من الأخطاء؛ فهم لم يتوقعوا المقاومة التركية الشرسة التي واجهتهم على الإطلاق. ثم إن الإنزال حصل في مناطق صعبة للغاية لم تسمح لهم بسرعة التحرك، إضافة إلى وجود حالة من الفوضى ضربت القوات الحليفة بعد الإنزال عندما تعطلت حركتها إثر المقاومة التركية الباسلة، وهو ما جعلها تفقد وقتًا ثمينًا قبل محاولة الاستيلاء على المرتفعات. هذا كان كافيًا لمنح الأتراك الفرصة لإحكام الدفاعات بعدما عرفوا أماكن الاختراقات المتوقعة، وهكذا تمتعوا بميزة الدفاع من الجبال المرتفعة أمام قوة هجومية بطيئة الحركة أسفلها.
أما على الجبهة، حيث كان «أتاتورك»، فالأمر لم يكن بالصورة نفسها، وبخاصة أنه توقع مكان نزول الحلفاء وهو ما جعله يراهن على خطوتهم التالية. ومن ثم، مع توقعه مكان حدوث المعركة بشكل صحيح، حرك القائد التركي قواته بكل سرعة لملاقاة «الأنزاك»، إلا أنه عندما وصل إلى مواقعه الدفاعية أدرك أنه تأخر بعض الشيء عندما رأى قواته الأمامية منهكة وعاجزة عن الاستمرار. وفي حالة انسحاب، تحرك هو بمفرده بعيدًا عن مركز الفرقة لملاقاة فلول الدفاعات المتقدمة المنسحبة بكل سرعة تحت ذريعة نفاد الذخيرة. هنا كان «أتاتورك» في مرمى نيران العدو لكنه لم يأبه، بل هدّد كل من ينسحب وطلب من جنوده أن يضعوا الحراب على البنادق ويقاتلوا من دون ذخيرة لوقف تقدم «الأنزاك». وعلى الأثر، أخذ يحرك دفاعاته لصد الهجوم، وكانت خطوة «أتاتورك» موفقة للغاية علمًا بأنه دفع باحتياطياته كلها دون استئذان فون ساندرز، ولو لم يفعل هذا لكانت الجبهة التركية قد اُختُرقت من الشمال الغربي ولكان الحلفاء قد زحفوا على الدفاعات التركية في المناطق الخمس الأخرى، ولكن فطنة «أتاتورك» وشجاعته حالتا دون ذلك.
وفعلاً استطاع القائد التركي وقف تقدم «الأنزاك» بفضل هجوم مضاد أعادهم مرة أخرى إلى الشواطئ، حيث كانوا قد أنزلوا، ولكن بثمن باهظ من الضحايا. ومع ذلك أدت هذه الخطوة إلى وقف تقدم العدو وحماية الجبهة التركية من هزيمة محققة، وما لبث الفريقان أن دخلا في حرب خنادق على النحو السائد في الجبهة الفرنسية بين ألمانيا وفرنسا. ولكن الحلفاء قرروا الدفع بدعم عسكري جديد قوامه عشرون ألفًا وبدأت الجولة الثانية في أغسطس (آب) من العام نفسه. ومجددًا تعمد «أتاتورك» مواجهة الهجوم الغربي بمقاومة شديدة أنهكته وجعلته يتأخر في إعادة التمركز مرة أخرى وهو ما استغله القائد التركي الشجاع وقاد هجومًا انتحاريًا ضد هذه القوات ودحرها في منطقة شانوك بايير. وكان لهذا الإنجاز أثره الكبير في إقناع الحلفاء - ولا سيما بريطانيا - بأن حملتهم في غاليبولي فشلت بعدما فقدوا نحو 46 ألف قتيل.
وكان المنتصر الأكبر في هذه المعركة مصطفى كمال «أتاتورك»، الذي لم يكن من المستغرب أن ينال إعجاب الأعداء قبل الحلفاء. ومنذ هذه اللحظة بدأت «صناعة نجوميته»، في حين أصر تشرشل على تحميل القائد البريطاني الجنرال إيان هاملتون المسؤولية في فشل الحملة بدلاً من سوء تخطيطه، وقال عنه معاتبًا إنه «جاء وشاهد وانسحب»، في تهكم صريح وتحوير لكلمات يوليوس قيصر عندما قال: «جئت وشاهدت وغزوت»، ولكن الساسة كثيرًا ما يعلقون فشل فكرهم على آخرين وهذه سمة ليست نادرة.
لقد كانت معركة غاليبولي علامة فارقة في حياة «أتاتورك»، غير أنه لم يتذكرها على أنها معركة عسكرية فحسب، بل أدرك بمرور الوقت أهميتها بالنسبة لتركيا كلها ولسياسته الخارجية الهادفة للسلام والاستقرار وليس الحرب والفوقية وافتعال الخلافات. وهكذا، قال في خطبته الشهيرة في رثاء جنود أعدائه السابقين كلمات... منها: «أيها الأبطال الذين أريقت دماؤهم وفقدوا أرواحهم ارقدوا في سلام... اليوم لا اختلاف بين من نسميهم (جوني) أو (محمد) حيث يرقدون جنبًا إلى جنب هنا في وطننا... أيتها الأمهات الثكالى اللائي أرسلن أبناءهن إلى الحرب... امسحن دموعكن فأولادكن في أحضاننا وهم في سلام... إنهم بعدما فقدوا أرواحهم في هذه الأرض أصبحوا الآن أولادنا نحن أيضًا».
هكذا تكون العبقرية السياسية الممزوجة بالانتصار العسكري.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.