هل تنكر ابن ميمون فعلاً لليهودية واعتنق الإسلام؟

العقلاني الذي ظل مهمشًا رغم اهتمام بعض المؤسسات الأكاديمية

هل تنكر ابن ميمون فعلاً لليهودية واعتنق الإسلام؟
TT

هل تنكر ابن ميمون فعلاً لليهودية واعتنق الإسلام؟

هل تنكر ابن ميمون فعلاً لليهودية واعتنق الإسلام؟

هو الرئيس أبو عمران بن موسى بن ميمون بن عبد الله القرطبي الأندلسي 1135 - 1205 ميلادية (530 - 603 ه). ولد في قرطبة وتوفي في القاهرة. اسمه العبري، هو موشيه بن ميمون والذي يكتب اختصارا، بـ«رامبام» أي الحاخام موسى بن ميمون. وفي اللاتينية «مايمويندز». ويطلق عليه أيضا، اسم المعلم، أو «النسر العظيم».
بعد غزو الموحدين للأندلس واحتلالهم لقرطبة سنة 1148 رحلت عائلته من قرطبة إلى فاس، ثم إلى فلسطين واستقر به الوضع في مصر، حيث شغل مكانة مرموقة كممثل للطائفة اليهودية، وأصبح طبيبا خاصا لصلاح الدين. ولا نعرف من هي زوجته ولا من تكون، على الرغم من انتمائها إلى مصر. كما لم تعرف زوجة أبيه الذي كان قاضيا في الأندلس. أما والده، فكان من رجالات القصر كعالم شريعة وقاض.
كتب عنه القفطي في كتابه «إخبار العلماء بأخبار الحكماء»، فقال إن «ابن ميمون اعتنق الإسلام علانية، وإنه عاش مثل المسلمين؛ فكان يرتل القرآن الكريم ويقيم الصلوات الإسلامية، حتى استتبت له الأمور. ثم ترك الأندلس مع عائلته، مرتحلاً إلى مصر التي كشف فيها هويته اليهودية». غير أن هذا الخبر مشكوك في صحته، لأن فترة استقراره بفاس، لا تتجاوز خمس سنوات، وكتب فيها «رسالة عمن يُكرهون على تغيير عقيدتهم»، ردا على الحاخامات بشأن أن الشهادة أفضل من تغيير العقيدة، إلى جانب رسالته الشهيرة إلى يهود اليمن المضطهدين، الذين رفضوا تغيير دينهم. ومما كان شائعا، آنذاك، نداء اليهود بمسايرة واقع الإكراه الديني، عن طريق التمسك سرًا بالعقيدة، والاستمرار في الصلوات، والتمسك بالأوامر والنواهي. ولقد عين رئيسا للطائفة اليهودية أيام صلاح الدين، منذ 1191 التي مكنته من تقلد منصب قاضي قضاة اليهود، والذي مكنه من التواصل مع اليهود في مختلف البلدان، كاليمن وفرنسا وهولندا وإسبانيا، حيث ترك أحكاما شرعية وقرارات وفتاوى غير هينة، لا يزال أثرها جليا في التقاليد اليهودية وفي تراثهم المكتوب والشفوي، لما أظهرته من قدرت على تنظيم الشأن الأخلاقي والسياسي لمعضلة الاضطهاد الديني والعرقي. فرسائله في قضايا الإكراه والإلزام على التعايش مع أديان مختلفة، تصدح بنبرة عقلية لا لبس فيها، وما تحمله من قيم إنسانية كونية، لا تنتصر للتعصب أو الإقصاء، بل تنادي بالتسامح وتعلي من شأن العيش المشترك.
ترك ابن ميمون خزانة أعمال دينية وفلسفية جديرة بالعناية، بالنظر إلى ما تحمله من بوادر عقلانية، على الرغم من اعتراض البعض على تصنيفها ضمن مجال الفلسفة، حيث ذهب ليو شتراوس إلى اعتبار كتاب «دلالة الحائرين» (1180) كتابا غير فلسفي، غير أنه من أهم الأعمال التي وضعت أسس فكر يهودي عقلاني متنور، وعدَّ في نظر بعض المؤرخين، أعمق كتاب حدد فيه ابن ميمون أسس فهم فلسفي للعناية الإلهية والكمال والسعادة، إلى جانب كتاب «المعرفة» الذي وضع فيه أسس الإيمان في الديانة اليهودية، كتاب «تثنية التوراة: قوانين القمر» 1166 مقال في صناعة المنطق (تتبع فيه نهج الفارابي)، «تفسير المشنا»، كتبه بالآرامية في فاس 1161 ونشره في مصر عام 1167. وهو بمثابة موسوعة في الشريعة اليهودية. تمكن صموئيل بن تيبون - قبل وفاة ابن ميمون 1204 - الذي ينحدر من مدينة ليون الفرنسية، من ترجمة الكتاب من العربية إلى العبرية، وجرى تداوله كثيرا في شمال إسبانيا وإيطاليا، ولقي معارضة شديدة وقوية، وجرت إدانة ابن تيبون، وأحرقت ترجمته في باريس وفي أماكن عدة، من قبل حاخامات اليهود الذين تخوفوا من أفكار ابن ميمون. كما ترك كثيرا من الرسائل، منها رسالة إلى يهود اليمن 1172. رسالة في التنجيم، رسالة البعث، وهي رد على انتقادات لرؤاه فيما بعد الموت والعالم الآخر 1191، إلى جانب 10 مقالات في الطب والمنهج العلمي، وعلاقة الطب بالفلسفة، ترجمت كلها إلى العربية والعبرية واللاتينية، وله تصنيف خاص للتلمود اليهودي، حيث كرس جهده لإعادة بناء العقيدة والشريعة اليهودية على أسس جديدة، ولذلك اعتبر أحد فقهاء الديانة اليهودية، نظرا لمحاولته التوفيق بين التعاليم اليهودية والمعارف الدنيوية. وعلى الرغم من اتسام بعض هذه الرسائل بطابع فوق طبيعي، بالنظر إلى هيمنة ميتافيزيقا أرسطو على زمانه، فما جاء به المعلم الثاني، كان بالغا في أثره على ابن ميمون، قبل أن يستكمل ابن رشد مشروعه النقدي تجاه ما ورثه القدماء عن الأفلاطونية الجديدة.
جرى تحريم أعماله في القرن الثالث عشر، وتمكن كثير من حاخامات اليهود من إقناع محاكم التفتيش بحرق أجزاء من كتابه «دلالة الحائرين»، الذي أثر في الفيلسوف باروخ سبينوزا، الذي اعتبره البعض الوريث الحقيقي لفلسفة ابن ميمون خاصة في التفسير الطبيعي.
تزامن مخطط «دلالة الحائرين»، مع موت أخيه الذي آلمه كثيرا، وسبب له محنة، كبيرة إلى جانب انشغاله بتداوي النبلاء، بحيث لا يجد وقتا فارغا لاستكمال أبحاثه في الفلسفة، خاصة مع أرسطو الذي يقدره كثيرًا، وأعماله التي تمثل جذور وأسس جل الأعمال في العلوم، لكنها لا تفهم إلا بواسطة شروح «الإسكندر أفروديسيس»، و«ثيماستيوس»، و«ابن رشد».
اشتهر ابن ميمون بنباهته وكفاءته العلمية والدينية. وكرس معظم وقته للعمل كطبيب، لا يجد الوقت الكافي للمطالعة والكتابة، حيث يقول في رسالته إلى أخيه: «أخبرك أني حظيت في الطب بشهرة واسعة في أوساط العظماء، مثل كبير القضاة والأمير. أما بالنسبة للعامة، فينظرون إلي بوصفي شخصا بعيد المنال. ويضطرني هذا الأمر إلى إضاعة طوال اليوم في القاهرة لزيارة المرضى من النبلاء. وعند عودتي إلى الفسطاط، أقضي ما تبقى من اليوم والليل في دراسة الكتب الطبية التي هي ضرورية لي. وأنت تعلم مدى صعوبة هذا العلم لكل إنسان دقيق ذي ضمير حي، ولكل من لا يرغب في إقرار شيء لا يستطيع البرهنة عليه ودون معرفة ما أشير إليه وكيفية شرحه. وأسفر هذا الوضع، عن أنه لم يعد لدي وقت كاف لدراستها، وهذا الأمر يزعجني. ولم أجد بعد الوقت اللازم لقراءة أعمال أرسطو» (twersky 1972).
وإلى جانب مساهماته في مجال الدين والفلسفة والتأويل العقلاني للتقاليد والطقوس اليهودية، فهو طبيب وعالم فلك، تتلمذ على يد ابن باجة وابن رشد، وكان الفارابي ملهمه الثاني بعد أرسطو، من جهة إيمانه بأن العالم تحكمه قوانين طبيعية، يمكن معرفتها من خلال البحث العلمي والتجريب. لهذا تعاطى الطب كثيرا في صفوف نبلاء مصر أيام صلاح الدين، حيث لا يجد الوقت الكافي للكتابة والقراءة، وفي الوقت نفسه، يتبنى العقلانية في بعض تجلياتها، وسارع إلى شجب الخرافة والتفكير الغيبي، معتبرا أن فهم العالم يجب أن يرتكز على العلم الطبيعي.
يبقى أن جهد ابن ميمون الفلسفي والديني والعلمي يحتاج إلى اهتمام الباحثين لاستشراف علاقته بابن رشد وسبينوزا والفارابي وأرسطو. ففي الوقت الذي نال فيه هؤلاء ما استحقوه من عناية، يبقى فيلسوفنا العقلاني مهمشا، على الرغم من المحاولات المتواضعة التي تقوم بها بعض المؤسسات الأكاديمية في هذا المضمار.



أسماء معيكل: انحياز الأديب للسياسي يفقده شرط الحرية

أسماء المعيكل وروايتها تل الورد
أسماء المعيكل وروايتها تل الورد
TT

أسماء معيكل: انحياز الأديب للسياسي يفقده شرط الحرية

أسماء المعيكل وروايتها تل الورد
أسماء المعيكل وروايتها تل الورد

تعرف الأكاديمية والناقدة والروائية السورية، الدكتورة أسماء معيكل بدراساتها النقدية، وخاصة اهتمامها بقضايا النسوية والدراسات السردية والثقافية، وهي حائزة على الدكتوراه من جامعة عين شمس، وعملت أستاذة نقد حديث وباحثة في النقد الأدبي والدراسات الثقافية والنسوية.

ومن مؤلفاتها في «النقد»: «الأصالة والتغريب في الرواية العربية - حيدر حيدر نموذجاً»، و«الأفق المفتوح، نظرية التوصيل في الخطاب الروائي المعاصر»، و«في تلقي الإبداع والنقد»، و«سيرة العنقاء: من مركزية الذكورة المعاصرة».

وبالإضافة لروايتها الأولى: «خواطر امرأة لا تعرف العشق»، وروايتها الأخيرة «ليالي الخذلان»، قدمّت أسماء معيكل مشروعاً روائياً يتكون من ثلاث روايات عن المأساة السورية: «تلّ الورد»، و«عماتي الثلاث»، و«الجحش السوري».

هنا حوار معها:

> كتبتِ ثلاث روايات عن المأساة السورية: «تلّ الورد»، و«عماتي الثلاث» و«الجحش السوري»، كيف ترين دور الأدب والرواية خصوصاً في مثل هذه القضايا؟

- الأدب عموماً، والرواية على وجه الخصوص، ليسا ترفاً يتسلى به الكاتب، وليس خافياً على أحد مكانة الرواية في تعبيرها عن قضايا مجتمعاتها في مختلف أرجاء العالم، وما قمتُ به في رواياتي يتنزّل بين التمثيل السردي والتخييل السردي، في روايتيّ «تل الورد» و«عماتي الثلاث»، قمت بإعادة تمثيل سردي لما جرى في بلادي (سوريا) على امتداد حقبة زمنية طويلة، فـ«عماتي الثلاث» التي كتبتها ونُشرت بعد «تل الورد»، تسبقها زمنياً بأحداثها ووقائعها، حيث عُدتُ بعجلة الزمن إلى الوراء، إلى زمن «السفر برلك» في ظل الإمبراطورية العثمانية، وامتدت الرواية إلى العصر الحديث والحرب المدمرة في سوريا، وفي «تل الورد» عائلة المعراوي هي امتداد لعائلة الشيخ عبد الهادي في «عماتي الثلاث»، وفيها أعدت تمثيل ما جرى في بلادي منذ لحظة بدء المظاهرات السلمية، مروراً بتسليحها بعد القمع الوحشي الذي تعامل به النظام الديكتاتوري مع المظاهرات السلمية، وانتهاء بتحول سوريا إلى ساحة صراع بين قوى كبرى بعد التدخلات الخارجية فيها.

أمّا روايتي «الجحش السوري» فهي رواية ساخرة تعتمد على السخرية القائمة على المفارقة، على طريقة «دون كيخوته»، ولا تخلو من حس مأساوي يذكر بالملاحم الإغريقية القديمة، وقد اعتمدت فيها على التخييل السردي للتعبير عن حال بلادي في ظل الصراع المأساوي الذي عصف بها من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، وقد لجأت في تخييل أحداثها إلى لعبة سردية معروفة في روايات المسخ والتحولات، متخذة من تحول بطل الرواية إلى (جحش) ذريعةً سردية؛ للغوص في عمق ما يجري، والكشف عما آل إليه الحال بشفافية وموضوعية، عبر عين الجحش التي تشبه عين الكاميرا التي ترصد ما يجري بعيداً عن الأدلجة.

> هل يمكن للأديب أن يرى الحدث بمعزل عن ضوضاء الآيديولوجيات والاستقطاب السياسي؟ إلى من ينحاز الأديب في مثل هذه المواجهات؟

- من المفترض أن يتسلح الأديب بوعي عميق يجعله في منأى عن الوقوع في فخ الآيديولوجيات، والصراعات السياسية، وحالما يستجيب بطريقة ما إلى تلك المواجهات وينحاز إلى إحداها يصير بوقاً لها، العلاقة بين الثقافي والسياسي شائكة، فالسلطة السياسية من المفترض أن تكون في خدمة السلطة الثقافية، وفي حال حدوث العكس وتحول السلطة الثقافية إلى خادمة للسلطة السياسية، فسمة الثقافية تتلاشى، وتصير ناطقة باسم السلطة السياسية وترويج تطلعاتها وتسويغ أفعالها، وهنا يكون مقتل الأدب والأديب الذي ينبغي أن يتمتع بالحرية التي تمكّنه من الكشف عن الحقيقة، لا تلميع السلطة، وانحياز الأديب للسياسي يفقده شرط الحرية الذي هو شرط الإبداع، وقد وقع أدباء كثر في هذا المقتل فكانت أعمالهم أشبه بخطابات ومنشورات سياسية مؤدلجة، لا تغني ولا تسمن من جوع. إن ذلك لا يعني في حال من الأحوال أن يكون الأديب حيادياً جامداً لا رأي له فيما يجري من أحداث وصراعات في مجتمعه ومحيطه، بل ينبغي أن تكون له رؤية واضحة ينطلق منها في التعبير عن القضايا والظواهر التي يعالجها في أعماله، وهو منحاز بطبيعة الحال إلى تلك الرؤية، لكن انحيازه يكون للإنسان، والقيم الكبرى التي تلتقي حولها الإنسانية جمعاء، قيم الحق والخير والجمال، في مواجهة الظلم والشر والقبح.

> الروايات الثلاث كُتِبَتْ قبيل سقوط النظام، هل جاء التغيير كما حلم به الأدباء؟

- كتبت رواياتي الثلاث، سالفة الذكر، ونشرتها قبل سقوط النظام بمدة تتراوح بين خمس سنوات، حينها وعلى الرغم من انسداد الأفق، كانت هناك فسحة من الأمل بتغيير قد يحدث عاجلاً أو آجلاً، وظهر ذلك بشكل جليّ في روايتي «الجحش السوري». إن التغيير الذي حدث في سوريا وسقوط النظام، جاء في لحظة حلمية ما كان لأحد أن يتوقعها، أو يحلم بها على نحو ما حدث، ولا سيما في ظل إعادة تأهيل النظام البائد في السنتين الأخيرتين قبل سقوطه، وتصدّره المشهد بوصفه المنتصر على الإرهاب، وحينما فرَّ (...) في جنح الظلام على ذلك النحو الذي شهدناه، كان الحدث أكبر من أحلام الأدباء، وتوقعات المحلّلين السياسيين والعسكريين، كانت لحظة أذهلت العالم، لدرجة بقي الناس فيها لأكثر من شهر غير متيقنين مما حدث، ولديهم توجس من عودته، وأن يكون ما جرى مجرد حلم يستفيقون منه على كابوس نظام الأسد الجاثم على صدورهم منذ عقود.

الخوف من الخراب

> في «تل الورد» ختمتِ الرواية بفصلٍ حمل عنوان «حبطراش»، وهو مصطلح معروف في اللهجة الشامية، يرمز لمستوى عال من الخراب الذي لا يمكن إصلاحه... هل فعلاً ترين أن الخراب السوري لا يمكن إصلاحه؟

- لم يكن بإمكاني تقديم تفاؤل زائف في تلك الفترة، فقد شهدت تدمير بلادي بعد أن تحولت إلى ساحة صراع لقوى كبرى، وتصفية حسابات بين جماعات متقاتلة، عادت بعجلة الزمن إلى الوراء، وتكشّفت تلك المرحلة عن عنف لا مثيل له، ولذا فإن الخراب الذي ألحقته الحرب بسوريا كان هائلاً لدرجة يتعذّر فيها إصلاحه، وكما أسلفت في الإجابة السابقة، فإن التحدي ليس في إعادة إعمار البيوت ومدّ شبكات الكهرباء والمياه والطرق وغيرها من الخدمات، بل في إعادة بناء الإنسان الذي صار «حبطراشاً»، ومع ذلك لا أريد أن أكون متشائمة، وسأظل أحلم بإمكانية التغيير، فبعد سقوط النظام البائد لا شيء مستحيلاً، لكن يحتاج الأمر إلى سعي حثيث، وهمم عالية، وجهود كبيرة، وتكاتف أطياف الشعب كله لإعادة بناء سوريا الحرة، سوريا دولة المواطنة التي تكفل العيش الكريم وتحقّق العدالة الإنسانية لكل مواطنيها بمختلف أطيافهم وانتماءاتهم الدينية، والمذهبية، والإثنية، والعرقية، والجندرية.

التحرر من الانفعالية

> كيف تجاوزتِ سرد المأساة الشخصية إلى سرد جماعي في «تلّ الورد»؟

- يتنزّل عمل الكاتب هنا تحديداً، أعني في تجاوز ما هو شخصي وتحويله إلى عمل يمسّ الجميع، وواقع الحال أن لكل إنسان حكايته ومأساته التي عاشها ويمكنه أن يحكيها، لكن ذلك لا يخلق منها رواية لها شروطها بوصفها عملاً فنياً، وليست نسخاً لحكايات يعيشها الإنسان.

الثقافة الذكورية أسهمت في خلق إناث حالمات وذكور نرجسيين

شهدتُ بدايات الأحداث في سوريا بنفسي في ربيع 2011، منذ أن بدأت المظاهرات السلمية، كنتُ وسط الأحداث، وأنا أتنقل يومياً بين مدينتي حلب وإدلب لأداء مهامي الأكاديمية والإدارية في جامعة حلب التي لها فرع في إدلب، فأرقب ما يجري، ودرجت على تسجيل بعض اليوميات، وحينما ابتعدت عن بلادي، صارت فكرة كتابة رواية تعيد تمثيل أحوال بلادي أكثر إلحاحاً، غير أنني لم أستطع الشروع في الكتابة، وأنا في حالة انفعال شديد، كنتُ أدرك بوعي الكاتب أنها ستحول دون رؤية واضحة وموضوعية لما يجري، فلذتُ بالصمت، لم أكن أرغب في كتابة رواية تسجيلية أو وثائقية عن الأحداث في بلادي. اللحظة التي شرعت فيها بالكتابة كانت حينما أصبحت قادرة على الفصل بين انفعالاتي بما يجري، وبين ما أريد الحديث عنه في روايتي، وهذا ما حال دون تحولها إلى سرد شخصي، فـ«تل الورد» ملحمة عبّرت عن المأساة السورية بمختلف مستوياتها، بل امتدت إلى خارج سوريا إلى بلدان عاشت تجارب مشابهة، ولعل أي قارئ يقرأ الرواية سيجد جانباً من مأساته فيها.

قهر المرأة

> ظهر اهتمامك بقضايا المرأة عبر شخصياتك النسوية في رواياتك السابقة، وفي روايتك الأخيرة «ليالي الخذلان» خصصتِها بمساحة أكبر، كشفتِ عن القهر الذي يطال المرأة، ونضالها ضد العنف العاطفي والنفسي والجسدي، كيف عالجت هذه الرواية تجربة القهر والاغتصاب والمقاومة عند المرأة؟- عملت نقدياً في كتابي «سيرة العنقاء... من مركزية الذكورة إلى ما بعد مركزية الأنوثة» على تفكيك المركزية الاجتماعية المتمثلة في هيمنة الذكورة، والثقافة الذكورية التي أقصت المرأة وهمّشتها، وحلّلت معظم قضايا النسوية التي أعاد تمثيلها السرد النسوي، ووجدت أن هناك بعض القضايا التي أغفلها ذلك السرد، أو قاربها على نحو سطحي، لذا أردت الوقوف عند بعض تلك القضايا ضمن مشروع روائي، بدأته بروايتي الأولى «خواطر امرأة لا تعرف العشق»، ثم توقفت عنه؛ لانشغالي برواياتي عن سوريا وحال بلادي الذي فرض نفسه بقوة، وبعد تفرّغي من رواياتي عن سوريا، عدت إلى مشروعي برواية «ليالي الخذلان» التي انطلقت فيها من تأثير الثقافة الذكورية على المرأة والرجل، وكيف أسهمت تلك الثقافة في خلق إناث حالمات وذكور نرجسيين، وحينما يلتقي النرجسي بالحالمة، فلا بد من أن تتعرض المرأة لمختلف أنواع القهر؛ لأن النرجسي المتمركز حول ذاته عاجز عن الشعور بمتطلبات شريكه أو التعاطف معه، ما يؤدي إلى الخذلان الذي لم تنج منه امرأة أياً كان شأنها، وتقصّدت في روايتي أن يكون أبطالها من المثقفين.