الأصولية الأوروبية... ما ورائيات المشهد الحاضر

تعقيدات تاريخية دوغماتية وهواجس سياسية

مظاهرات في هونغ كونغ ضد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بمنع مواطني 7 دول من دخول أراضي الولايات المتحدة (إ.ب.أ)
مظاهرات في هونغ كونغ ضد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بمنع مواطني 7 دول من دخول أراضي الولايات المتحدة (إ.ب.أ)
TT

الأصولية الأوروبية... ما ورائيات المشهد الحاضر

مظاهرات في هونغ كونغ ضد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بمنع مواطني 7 دول من دخول أراضي الولايات المتحدة (إ.ب.أ)
مظاهرات في هونغ كونغ ضد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بمنع مواطني 7 دول من دخول أراضي الولايات المتحدة (إ.ب.أ)

هل باتت أوروبا على موعد مع قدر مقدور في زمن منظور يتصل بتصاعد موجة الأصولية اليمينية هناك على نحو خاص؟ وهل أسباب نشوء وارتقاء تلك الموجة منبت الصلة بالماضي الروحي والثقافي والفكري لأوروبا القرون الوسطى؟ أم أن جزءًا كبيرًا من المشهد الحالي له علاقة جذرية بالماضي، عطفًا على مستجدات ونوازل أذكت استحضار ما كان بما فيه من صور مشوهة وقراءات مغلوطة وخصوصًا في ظل حالة الديماغوجية التي يعيشها العالم في حاضرات أيامنا؟
أسئلة كثيرة أضحت تفرض ذاتها على ساحة النقاش لا سيما في ضوء تقرير منظمة العفو الدولية الصادر نهار الثلاثاء 17 يناير (كانون الثاني) الماضي، الذي قالت فيه إن مجموعة كبيرة من القوانين الجديدة لمكافحة الإرهاب في أنحاء أوروبا تنطوي على تمييز ضد المسلمين واللاجئين، مما يتسبب في نشر الخوف والشعور بالغربة. تشير جوليا هول، خبيرة مكافحة الإرهاب في «العفو الدولية»، التي كتبت التقرير، إلى أنه «في أنحاء النطاق الإقليمي للاتحاد الأوروبي نرى مساواة المسلمين والأجانب بالإرهابيين. هذه النظرة النمطية تؤثر بصورة غير متناسبة على تلك المجتمعات، بما يؤدي لدرجة عالية من الخوف والشعور بالغربة».
هنا ينبغي التساؤل بموضوعية: «هل كانت الهجمات التي أعلن تنظيم داعش المسؤولية عن أغلبها هي السبب المباشر في هذه الأعراض التي هي نتاج لمرض هو (الإسلاموفوبيا)؟ أم أن المشهد سابق لـ(داعش)، ومتقدم على موجة المهاجرين الأخيرة التي لجأت إلى أوروبا، ولا سيما بعد أحداث وسنوات (الربيع العربي) المختلف على صدق تسميته حتى الساعة؟».
* استنهاض الماضي القديم
يبدو أن الجواب يذهب في طريقين؛ التاريخي من جهة والآني من جهة ثانية. أما عن الأول بنوع خاص، فإننا نرى أنه كانت هناك رغبة قوية لدى جماعات اليمين الأوروبي في استنهاض الماضي القديم بين أوروبا القرون الوسطى والنظرة إلى الإسلام. وإليك على سبيل المثال ما فعله هاينز كريستيان شتراخه، زعيم حزب الحرية اليميني المتطرف في النمسا، أمام حشد من عدة آلاف من المناصرين له في مدينة سالزبورغ. إذ أعلن أنه «حان الوقت للتصدي لظاهرة أسلمة أوروبا»... ومضيفًا أن «حظر الرموز الدينية الإسلامية في القارة العجوز بات أمرًا ضروريًا، فضلاً عن التصدي لموجات الهجرة التي جلبت للنمسا بمفردها 600 ألف مسلم».
نبرة شتراخه وأقرانه من أصحاب الزعامات الأوروبية المتطرفة تعيد الحديث عما يسمى «الإسلام الفاشي»، وهو في زعم أصحابه الإسلام الذي يكره النساء ويعادي الليبرالية وقيم الحرية. وعند هؤلاء أنه إذا كانت حجة أوروبا هي التراجع الديموغرافي ونقص اليد العاملة، فإن أوروبا الشرقية هي المعين أو المخزون البشري الذي يمكن الاستفادة منه بدلاً من فتح غرب القارة لموجات الهجرة التي تجلب آلاف المسلمين للبلاد، بحسب أنصار زعيم حزب الحرية النمساوي.
يضيق المسطح المتاح للكتابة عن السردية الأصولية الأوروبية ومواقفها تجاه الإسلام والمسلمين. غير أن الأمر يكاد يتحول إلى كارثة حقيقية إذا قدّر لأمثال شتراخه هذا في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا الوصول إلى مقاعد الحكم. وهو ما دعا صحيفة «ديلي ستار» البريطانية أخيرًا لنشر تقرير مثير يحذر من انزلاق أوروبا إلى حروب دينية خلال الأعوام المقبلة، رفضًا لتحول أوروبا إلى قارة مسلمة. وتؤكد الصحيفة أن جذور الأزمة قائمة قبل عام 2015 عندما لجأ إلى ألمانيا وحدها نحو مليون لاجئ، جلهم عن المسلمين.
تصاعد الأصوات الأصولية الأوروبية استحوذ أيضًا على اهتمام الأميركيين، رغم ما لديهم في الوقت الحاضر من قلاقل واضطرابات عرقية وفكرية، «الإسلاموفوبيا» في المنتصف، بل القلب منها. إذ تحدث «معهد واشنطن للدراسات الاستراتيجية» عن حروب أوروبية وشيكة على غرار الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر الميلادي وحتى القرن الثالث عشر ضد الشرق الإسلامي.
ويدهش المرء من أن الأصوليات الأوروبية المعاصرة تستجلب من معين سوء الفهم والرؤى السلبية لتلك الفترة زادًا، ونحن في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أو تجاوزناه قليلاً. والأكثر مدعاة للدهشة هو أن الأسباب تبقى دائمًا وأبدًا، كما كانت، مزيجًا من السياسة والاقتصاد، والنزعات الشخصية، قبل أن تكون الأديان مثارًا للخلافات أو المنازعات.
المؤلفة الهندية - الأميركية ديبا كومار، أستاذة الدراسات الإعلامية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز الأميركية، تحدثنا في كتابها المعروف «فوبيا الإسلام والسياسة الإمبريالية» عن الصورة السائدة للإسلام والمسلمين في الغرب، وبوجه خاص في القرون الوسطى، وكيف استطاعت النخب الحاكمة في أوروبا على مر التاريخ تخليق صور معينة لـ«العدو الإسلامي» تعزيزًا لمطامحها السياسية، إذ صُور الإسلام على أنه «تهديد خطير يجب القضاء عليه». وبدأ الأمر ينسحب على الجار الأوروبي الأكبر (بلاد الأندلس)، عبر إخلائها من الدخلاء العرب والمسلمين، كما يرى الغارقون في اليمين الأوروبي في الماضي والحاضر. ولقد اقتضى الأمر تعبئة الجيوش لاستعادة «الأرض المقدسة» (فلسطين)، كما استلزم الأمر نشر أنواع من الصور الشيطانية والسلبية تمامًا للإسلام، وأضابير التاريخ مليئة بتلك السجالات. يرى أن الباحث المحقق والمدقق لتلك الفترة، كما الحال اليوم، يخلص إلى أن تاريخ «الإسلام والغرب» - كما يسمى عادة - ليس قصة نزاع ديني، بل هو بالأحرى، قصة نزاع ولد من رحم تنافسات سياسية وأجندات إمبريالية متنافسة أيضًا.
* هنتينغتون على حق؟
إننا نرى اليوم في أوروبا رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لنفس الصيحات التي حفظتها دفاتر التاريخ عن رغبة المسلمين في احتلال أوروبا وأسلمتها. ولهذا تتحول الصراعات النسبية إلى مطلقة، والمثير والغريب، وما يقودنا للقول إن صامويل هنتينغتون ربما كان على صواب، وجود أصوات غير مسيحية في النطاق الأوراسي تدعم الصيحات الأصولية الأوروبية.
فخلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي رأينا بنحاس غولد شميت، كبير حاخامات موسكو، يحذر الأوروبيين «من وجود الإسلام الراديكالي - حسب وصفه - على أراضيهم»، وذريعته التي ينطلق منها هي أن تلك الراديكالية تهدد الوجود اليهودي القائم على الأراضي الأوروبية.
ولم يتوقف المشهد عند غولد شميت، الذي يمكن للمرء أن يتفهمه في سياق العداء العقائدي - السياسي، بل امتد إلى واحد من غير الإبراهيميين بالمرة، ونعني به الزعيم البوذي الدالاي لاما، الذي انتقد الحكومة الألمانية الصيف الماضي لاستقبالها المهاجرين العرب والمسلمين قائلاً: «ألمانيا لا يمكن أن تتحول إلى بلد عربي».
ويحاجج الأصوليون من الأوروبيين مستخدمين الحجة التقليدية القديمة؛ احتلال العرب والمسلمين القارة، وتحويل سكانها مرة واحدة وإلى الأبد إلى الإسلام، أي إشكالية «أسلمة» القارة العجوز كما يردد غلاة اليمين المتطرف، غير أن أصواتًا أوروبية عقلانية ترى أن المشهد على هذا النحو، أي «أسلمة أوروبا» أكذوبة تتعمد الزعم أن جميع المسلمين أصوليون ومتطرفون.
وهنا يحدثنا البروفسور ميكائيل بلومه، الباحث الألماني المتخصص في العلوم الدينية والكاتب والمدون، عن حال أوروبا اليوم، وهو الذي تولى مسؤولية إدارة مشروع الحصة الخاصة باللاجئين في ولاية بادن فورتمبرغ (جنوب ألمانيا)، وشملت ألفًا ومائة امرأة وطفل. ويقول بلومه إن الحديث عن وجود إحصاءات تفيد بما سيكون عليه عدد المسلمين بعد عام 2050 أو عام 2070 هو مجرد هراء، وإن الأرقام سيكون لها معنى فقط عند اعتبار أن جميع المتأثرين ثقافيًا بالمسيحية «مسيحيون»، أو فقط اعتبار المسلمين المنتظمين في جمعيات إسلامية مسلمين.
رأي آخر صاحبه الكاتب والبروفسور بول هيدجز، الأستاذ المشارك في دراسات العلاقات بين الأديان في برنامج المجتمعات التعددية بجامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة، وفيه يورد أن عدد المسلمين في أوروبا في ازدياد الآن أكثر من أي وقت في التاريخ، وهو يرجع بدرجة ما إلى موجات جديدة من الهجرة، وهو يواكب تراجع الانتماء المسيحي في كثير من الدول الأوروبية الغربية، لذلك فإن توقع زيادة أعداد المسلمين النشطين عن عدد المسيحيين النشطين خلال القرن الـ21 في دول مثل بريطانيا وفرنسا ليس مستبعدًا، ولكن ليس من المؤكد أن يحل الإسلام محل الثقافة العلمانية السائدة أو التراث المسيحي لأوروبا.
وهناك فرضية تقول إن القيم الإسلامية تتناقض مع قيم أوروبا المسيحية. لكنها أيضًا تفتقر إلى المصداقية، إذ يدل تاريخ الفكر على أن الأفكار الرئيسية للفلسفة اليونانية والعلوم التي عززت الفكر المسيحي قرونًا كثيرة، كما دعمت عصر النهضة، وطورت العلم الحديث، إنما وصلت إلى أوروبا من خلال المجتمعات الإسلامية، والتقدم الذي أحرزه العلماء والمفكرون العرب والمسلمون.
* فوقية حضارية
هل للأصولية الأوروبية التي نراها اليوم وجه آخر إذن؟
إنه الوجه الثاني للفوقية الحضارية ذات الجذور والنزعة العنصرية، الكائنة تحت الجلد الأوروبي منذ بضع مئات من السنين. فقبل فترة ليست بعيدة قال رئيس وزراء أستراليا السابق توني أبوت: «على الغرب إعلان تفوقه على الإسلام». وجاءه رد الفعل من قلب أوروبا عبر صوت خيرت فيلدرز الرمز الهولندي والأوروبي الأكثر تعصبًا، الذي قال: «لو كان القرار في يدي لأغلقت الحدود في وجه الغزو الإسلامي».
وفي أكتوبر الماضي، صرح الرئيس التشيكي ميلوش زيمان مثيرًا مخاوف الأوروبيين: «سنخضع للشريعة الإسلامية»... فيما ذهبت مارين لوبان زعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي أبعد لتقول: «صلاة المسلمين في الشوارع احتلال شبيه بالاحتلال النازي لفرنسا». ولم تكن الولايات المتحدة لتتأخر - والحديث عنها في حاجة إلى قراءة مستقلة - ويكفي هنا أن نشير إلى قول بن كارسون، المرشح الجمهوري السابق للرئاسة الأميركية والوزير الحالي (الأفريقي الأصل) في إدارة دونالد ترمب، حيث قال: «منع الإرهابيين من اللاجئين السوريين من دخول أميركا أقرب إلى التعامل مع كلب مصاب بداء الكلب».
إنها إذن صحوة بشكل أو بآخر لما هو كامن في الذات الغربية أو - لكي نتفادى التعميم - لدى كثرة كبيرة من العوام والنخبة، وإن وجدت أصوات رافضة لتحذير الكراهية على هذا النحو، وهذا مآله قراءة أخرى.
* عوامل أخرى
على أنه بالطبع لا يمكننا إنكار وجود عوامل ثانوية أخرى أذكت نيران الأصولية الأوروبية المعاصرة، وفي المقدمة منها الأوضاع الاقتصادية المرتبكة التي أصابت أوروبا منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2007. وكان انعكاسها مولدًا لنزعات قومية وشعبوية، فالبريطانيون لا يريدون على سبيل المثال دفع فاتورة اليونانيين وإخفاقاتهم، والألمان سئموا من دعم الإسبان والإيطاليين والبرتغاليين، والفرنسيون بدورهم غاضبون من الكل.
لقد ولدت الشعبوية والقومية الحديثة من رحم الأزمات المالية، وإن شئت الدقة فقل إن تلك الأزمة دفعت مارد الأصولية والفوقية إلى الاستيقاظ، وصب الجميع جام غضبه على الاتحاد الأوروبي الآخذ في التفكك. ووجد الكل في إشكالية المهاجرين والمسلمين وظاهرة «الإسلاموفوبيا» الإسقاط الملائم للكبت التاريخي والعنصري، إن جاز التعبير.
لا يبدو المشهد الأوروبي الأصولي مطمئنًا بحال من الأحوال. وأغلب الظن أنه مرشح لمزيد من الأصوليات، وخصوصًا أن هناك عدة انتخابات حاسمة في أوروبا، أقربها انتخابات فرنسا في مايو (أيار) المقبل، ستحدثنا ولا شك عن الحال والمآل الأصولي الأوروبي، الذي يجد دعمًا وسندًا له في تجليات ما يجري داخل الولايات المتحدة.
في منتصف يناير الماضي رفضت المحكمة الدستورية العليا في ألمانيا ملتمسًا تقدم به مجلس الولايات لحظر الحزب القومي الألماني، الغطاء السياسي للنازيين الجدد، معللة ذلك بأنه رغم عقيدة الحزب النازية فإنه لا يشكل تهديدًا للديمقراطية في البلاد.
الحكم يدعو منطوقه للتأمل في أحوال أوروبا... إذ يشير إلى أن نيات الحزب مخالفة للدستور، لكنه لا يملك القدرة على الإطاحة بالديمقراطية في البلاد. ورأت المحكمة أن عقيدة الحزب ومفهومه للأمة الألمانية لا يحتم الإنسان، وعنصري التوجه وقريب من الآيديولوجية النازية، لكن ومع ذلك «لا تكفي» هذه الأسباب لحظره.
في مقابلة له مع صحيفة «إل باييس» (El Pais) اليومية الإسبانية، أشار بابا الفاتيكان فرانسيس الأول إلى كارثة الأصولية المحدقة بأوروبا، وإلى أنها يمكن أن تؤدي بها إلى النازية من جديد... قال البابا: «الأزمات تثير الخوف... في رأيي المثال الأكثر وضوحًا على الشعبوية بالمعنى الأوروبي للكلمة هو ألمانيا في عام 1933. فبعد أزمة عام 1930 انكسرت ألمانيا وكانت تحتاج إلى البحث عن هويتها. وهنا ظهرت الحاجة إلى زعيم، شخص قادر على استعادة شخصيتها، وكان هناك شاب يدعى أدولف هتلر يقول: (أنا أستطيع... أنا أستطيع)... لقد اختار الألمان هتلر، لم يغتصب السلطة بل صوت له شعبه، ثم دمر شعبه... وهذا هو الخطر، في أوقات الأزمات يفتقر إلى الحكمة».
هل ينبغي على الأوروبيين البحث في أصول إشكالاتهم الحاضرة عوضًا عن صب جام غضبهم على الإسلام والمسلمين، مما يعود بالعالم إلى عصور المجابهات والمواجهات الدينية؟
اللحظة حاسمة، والحاجة إلى مرفأ أمان هو طلب جميع شعوب الأرض. وما يعطينا الأمل في أن الغد ربما سيكون أفضل وجود أصوات أوروبية تدعو لإقامة الجسور عوضًا عن الجدران، ودعوات قلبية للوئام الإنساني وليس للخصام الشيطاني، وللاتفاق عوضًا عن الافتراق، وللحديث بقية إن شاء الله.



«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».