قصائد هيفاء الجبري... أفواه لا تنتهي

تقصي منابع الشعرية في صور للخفوت والخفر الأنثوي

غلاف «تداعى له سائر القلب»  -  غلاف «البحر حجتي الأخيرة»
غلاف «تداعى له سائر القلب» - غلاف «البحر حجتي الأخيرة»
TT

قصائد هيفاء الجبري... أفواه لا تنتهي

غلاف «تداعى له سائر القلب»  -  غلاف «البحر حجتي الأخيرة»
غلاف «تداعى له سائر القلب» - غلاف «البحر حجتي الأخيرة»

في البدء كانت قصيدة «دمشق» التي عرفتني بالشاعرة السعودية هيفاء الجبري. فاجأتني القصيدة بمطلع آسر:
منه دمشق ومني زهرة سقطت
فليس بعد دمشق ما أقدمه
أصبحت عاشقة في النهر صامتة
والصمت من بردى لا ينتهي فمه
«والصمت من بردى لا ينتهي فمه»، أود أن أنطلق من هذه العبارة في محاولتي استكناه التجربة الشعرية لدى هيفاء، وأحسبني بذلك أحاول استكناه الشعر نفسه، فالشعر جسد إن أمسكت بأحد أطرافه تداعت بقية الأطراف بالإبانة أو الإيحاء. رأيت في تلك العبارة معبرًا إلى اللحظة التي يعلو بها الكلام ليصير شعرًا، اللحظة التي طالما فتنت بها وحاولت التفرس في ملامحها. وأود أن أتكئ في مقاربتي للحظة العبور تلك على ما سبق أن اقترحته قبل سنوات، في بدايات انشغالي بدراسة الأدب. أقصد التفكير بالبدائل، أن نسأل: ماذا كان يمكن للشاعر أو الكاتب أن يقول بدلاً مما قال؟ علنا نتبين من الاستبدال خروجًا إلى الشعرية أو الأدبية. ماذا لو قالت هيفاء الجبري: والصمت من بردى لا ينتهي مداه، أو لا ينتهي رنينه، أو لا ينتهي، ثم انتهت؟ لو فعلت ذلك لتركت لنا عبارة، أو مجازًا، لكن العبارة أو المجاز سيكونان مما اعتدنا، مما هو مكرر ومستهلك، مجاز لا نتجاوزه إلى دهشة، إلى شعر. تقترب بنا القصيدة من جوهر الشعر حين ترفض الشاعرة ذلك المجاز التقليدي، المجاز المتوقع، المألوف الذي يقتنع به كثير من ناظمي الكلام لا مبدعي الشعر. إنه اختيارها الفم لصمت بردى، ثم قولها إنه فم لا ينتهي. الشاعر الإنجليزي و. هـ. أودن، رأى الشعر من زاوية مشابهة حين قال إنه، أي الشعر «يبقى طريقة في الحدوث، فمًا». والفم هنا هو الاحتمال، مصدر لما يمكن أن يحدث، لما ينتظر حدوثه، لون من الصمت الناطق أو الصمت الذي يوشك على النطق لننشغل نحن باحتمالات القول.
يحضر الصمت إلى قصائد هيفاء الجبري في مجموعتيها: «تداعى له سائر القلب» (نادي الرياض الأدبي، 2015) و«البحر حجتي الأخيرة» (الانتشار العربي، 2016)، جزءًا من منظومة دلالية وجمالية تتصل بالأنوثة وخصوصيتها من ناحية، وبالحالة الشعرية وسماتها من ناحية أخرى. وبدا لي أن من الصعب استيعاب أحد هذين من دون الآخر، فكل منهما يستمد حضوره من الآخر. في مجموعة «تداعى له سائر القلب» تطالعنا قصيدة بعنوان «الحب والصمت والصحراء» مؤكدة هيمنة الصمت على الشاعرة:
«يقف الصمت في ردائي ويمشي
في حذائي ويحتسي من إنائي».
لكن تلك الهيمنة لا تلبث أن تتراخى حين تعلن الشاعرة ثورتها على الصمت في قصيدة بعنوان «... يا أيها الصمت»، والثلاث نقاط التي تسبق العنوان إشارة واضحة لمحذوف. تقول القصيدة:
الصمت أشهر مجنون نطبقه
متى سنخرج هذا الجن من فيه!
يرى الحزين ولا يمضي لسلوته
يا أيها الصمت كم حزنًا ستعطيه!
نحن الخطاب الذي يمشي على ورق
وكل شبر من الأوراق يخفيه
محرّمون على ما دون أحرفنا
نجوز لكن بإنسان نغطيه!
المفارقة الساخرة التي تلاحق الإعلان عن الصمت، هي بطبيعة الحال تناقض الصمت مع الإعلان عنه، أي أن النطق أو البوح به يعلن انتفاءه. لكن الإعلان يظل مع ذلك مؤشرًا على ما لم يقل، مثل نقاط الحذف، لا بد منها لنعرف أن ثمة محذوفًا. تلك المفارقة تلتقطها الشاعرة في صورتين جاءتا في البيتين الأخيرين هما أجمل ما في القصيدة. فها نحن نشاهد خطابًا يتحرك على الورق لكي ندرك سريعًا أن ذلك التحرك لا يعني الوضوح وإنما الخفاء، فكل شبر من الأوراق يخفيه. لا بد من الغطاء لكي يكون القول، مثلما أنه لا بد من القول لكي يكون الغطاء أو الخفاء، أو لكي نعرف عن وقوعهما. إنه فم الصمت الذي لا بد أن يفتح لكي ندرك أنه صامت.
حتى العلاقة بالشعر يتضح أنها مؤطرة هي الأخرى بمفارقات الصمت وجمالياته. في قصيدة بعنوان «شعر المبكى» تتحدث الشاعرة عما يعنيه الشعر لها، لنكتشف أن ذلك الذي يعنيه ملتف هو الآخر بسرية البوح وخفر اللغة:
أخذ الشعر من حياتي كثيرًا
ليته يمنح الذي أعطاه
وأنا في سطوح ذكراه أثوي
كنت قد عشت حرة لولاه
شر إحساسي العظيم يغني
وأنا أنسخ الذي غناه
...
كل حب يذاع في الناس يمسي
ضائقًا دون سره معناه
وأنا الشعر جل ما كنت أهوى
يعظم الحب حينما لا نراه
في قصيدة كهذه تجترح الشاعرة جماليات يمكن أن تسمى جماليات الصمت أو جماليات السرية أو الحميمية أو غير ذلك، لكن سمتها هي تقصي منابع الشعرية في صور للخفوت والخفر الأنثوي. صور نلمح في خلفيتها محافظة المجتمع وسلطته على تفرد الأنوثة وسعيها للاستقلال والاختلاف، لكي تتواءم مع ذلك المحيط الصلب من التنصت والمنع.
قصيدة أكثر إثراء، وإن نسجت على نفس المنوال، هي «لا تمسوهن بحزن». هنا نحن مرة أخرى في حضرة الأنوثة وعالمها الحميم وصمت أسرارها:
«هل ترى أجمل الوجوه المرايا
حين يغشى الظلام وجه الزوايا»
كثيرون في ظني سيخطئون في «أجمل» فيرفعونها على أساس أنها صفة لفاعل هو الوجوه، وقد أدركت الشاعرة ذلك فحرصت على تشكيل الكلمة لكي يتضح أنها لمفعول. ذلك أننا لم نعتد أن المرايا هي التي ترى الوجوه وإنما العكس.
لكن العكس يحدث لأن ذلك العكس هو البديل الشعري لما هو مألوف، ولأن أجمل الوجوه مختبئة بحيث يتعذر على المرايا أن تلمحها لا سيما حين يحل الظلام، بل حين يغطي وجه الزوايا، فالوجوه ليست للجميلات فقط وإنما لزوايا غرفهن أيضًا. ويتواصل اجتراح الشعرية مما ليس مألوفًا في البيت التالي:
«في صدور الحسان أسوار ليل
والمصابيح مطفآت النوايا».
أسوار الليل تحل محل القلائد على الصدور، بينما المصابيح التي كان يمكن أن تضيء تلك الأسوار مطفأة، والمطفأ فيها ليس الضوء، وإنما النوايا التي في الصدور. فهاته الحسان يقبعن في زوايا حجراتهن مثل تلك الفتاة التي لم تعد تتوقع من الفجر شيئًا. ولنلاحظ مرة أخرى أن النوايا ليست في الصدور وإنما في المصابيح، فهو المجاز المقلوب الذي يمنح النوايا للمصابيح لكي نرى إنسانية المصابيح وتوحدها مع الحسان في نهاية المطاف.
تمزج القصيدة حزن الصبايا وخيباتهن بجمالهن المطفأ بليل الوحدة، ولكن الجمال إذ ترد صوره فإنه لا يتكشف بما ترسخ في الذاكرة الشعرية، وإنما بصور مركبة تضطر المتلقي للتمهل ولو لبعض الوقت:
«حائط الورد ما تلاهن حتى
صار من ضيق ما تنفسن نايا»
نحن إزاء شعر يتعذر تلقيه بسرعة وسهولة. نحتاج إلى ربط الورد بالحائط ثم بالحسان ثم بأثر الحسان على حائط الورد. صور تتأبى على الدلالة المحددة أو المثبتة إلى متعارف عليه. حائط الورد قيد وجمال في الآن نفسه. هو حائط يقيد الحسان وإن كان من الورد. هو الذي يتلوهن أو الذي يصدرن عنه، وهو إذ يفعل يتأثر بمعاناتهن، بضيق أنفاسهن، لكنه الضيق الجميل، الضيق الأقرب إلى ضيق الناي بمحدودية فتحاته وضيقها وجمال ما يصدر عنها من موسيقى رغم ذلك الضيق. وتؤذن تلك الصورة الفاتنة بسلسلة من الصور التي تنشد فيها الشاعرة جمال الحسان وأوجه حزنهن في عالم لا يتوقف عن ظلمهن. الأبيات التي تحمل تلك الصور تبدأ بـ«إن» التوكيدية ولكن البعيدة عن تقريريتها المعتادة:
إنهن اللاتي تكسرن باللوم
وناولن منه جرح البقايا
إنهن الخيال من حيث يجري
في ذهول على ضفاف الحكايا
إنهن المقدمات لصمت الليل
كيما يظللن فيه خبايا
هذا التتالي من اللوم والذهول ثم الصمت، هو قدر الحسان المنسيات والمتروكات للدمع في مفارقة ساخرة تنهي القصيدة. فليس من شيء لدى الليل الذي تخبأن فيه وأدرك ما يعتمل في سرهن سوى الدمع هدية يقتسمنها:
عرف الليل كنههن فأهداهن
دمعًا ليقتسمن الهدايا
وبعد، فإن تجربة هيفاء الجبري تجربة غنية على حداثتها الزمنية، تجربة جديرة بتوقف القارئ بل وإطالة الوقوف أمام قيمتها الشعرية التي تضيف لمشهد ينتظر أمثالها.



«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.