جدل العلاقة بين الحالة الفكرية و«الصحوة» الأصولية

قراءة من تجارب الماضي والحاضر

عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)
عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)
TT

جدل العلاقة بين الحالة الفكرية و«الصحوة» الأصولية

عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)
عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)

يظل ضروريًا في اللحظة الإقليمية والعالمية الراهنة، التي لا تبرز إلا التطرف وسخونة وحسم التشدد شرقا وغربا، دور المثقف الإنساني والمعرفي كمصدر للمعنى والقيم. يظل ضروريا ينبغي العودة إليه، دورا ورسالة بشكل كبير، ليس فقط لتنوير العالم ولا لتغييره بل للمحافظة على بقاء قيمه الإنسانية ومواجهة الأصوليات الصاعدة الجديدة بعد فشل الآيديولوجيات. رغم كثرة المؤسسات والمنابر الصانعة للوعي والمعلومة، تعاني الحالة الفكرية العربية، بتشكلاتها المختلفة، الأكاديمية والإبداعية والنظرية، حالة من السيولة والتشظي لا يخفيها ضعف الاتصال والتفاعل والتأثير العام، أو ينبه إليها غياب استراتيجيات السياسات الثقافية الناظمة والمنظمة لها.
كان ولا يزال إلحاح البعض، من آن لآخر، على ضرورة إنتاج مشروع فكري عربي وإسلامي، لمواجهة أفكار التطرف وحركاته، ضروريا وشرعيا إلى حد كبير، من أجل ضبط السيولة ومواجهة التحديات ونظم لحن للخروج من الأزمات العالقة والمستمرة.
وتزداد شرعية هذا الطرح في واقعنا الراهن، خاصة أمام تحدي «الصحوة» الأصولية، عند استكشاف العلاقة بين الحالة الثقافية ودور المثقف من جهة، وانتشار أفكار التطرف من جهة أخرى.
وهنا يمكن تحديد أربع قواعد تضبط هذه العلاقة بين حالة الوعي العام أو وجود مشروع فكري من عدمه، وبين صعود أو تراجع أفكار التطرف، هي كما يلي:
أولا: متى تتراجع الأصوليات؟
ثبت تراجع الحركات الأصولية والمتطرفة في فترات صعود مشاريع قوية بديلة، سواء في ذلك مشروع النهضة والإصلاح في نهايات القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، فقد تراجعت القوى التقليدية والماضوية بدرجة كبيرة أمام جهود مدرسة الإصلاحية الإسلامية التي مثلها السيد جمال الدين الأفغاني (توفي سنة 1897 ميلادية) والإمام محمد عبده (توفي سنة 1905 ميلادية) وعبد الرحمن الكواكبي (توفي سنة 1902) وغيرهم وهي مدرسة واسعة، كما ضمت في صفوفها اتجاهات متعددة ومختلفة، ضمت «عقلانيين» و«حريين» أمثال أديب إسحاق، و«داروينيين» كالدكتور شبلي الشميّل، كما ضمت أمثال الليبرالي لطفي السيد وولي الدين يكن وعلي الغاياتي ومصطفى وعلي عبد الرازق وقاسم أمين... كما ضمت رفيق العظم وأحمد حافظ عوض، ولم يكن السيد محمد رشيد رضا وريثها الوحيد أو الأبرز خاصة في مرحلة تحوله - بعد سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924 - داعية وممهدا لتنظيمات استعادة هذه الخلافة، رغم أنه كان ينتقدها قبل ذلك، ويسفه أستاذه الإمام محمد عبده رحمهما الله.
ولقد تعرض محمد عبده لمحاولات اغتيال وتصفية أحيانا، وهوجم أستاذه جمال الدين الأفغاني الذي ألف أحد التقليديين من الأزهر رسالة ضده بعنوان «تحذير الأمم من كلب العجم» وحمل عليه الحملات كلها معاصره ومجايله المقرب من العثمانيين أبو الهدى الصيادي حينها، كذلك تعرض الكواكبي وعلي عبد الرازق وغيرهما لمثل ذلك، ولكن على الرغم من ذلك برزت أفكار هؤلاء بل ما دعوا له من أفكار حداثية، كحقوق المرأة والدستورية والمواطنة، والاستقلال عن الترك، ومؤسسات تحديثية كالبرلمان والجامعة والصحافة وتنشيط الترجمة وإعادة اكتشاف التراث وإحياء تاريخيته. (كان محمد عبده أول من أوصى ودعا لنشر مقدمة ابن خلدون الشهيرة في الأزهر، كما دعا وشجع على إحياء كثير من كتب التراث المهملة خلف المتون، وأشرف بنفسه على إصدار بعضها). بل وتمكنوا من أمثال الشيخ عليش وبعده محمد شاكر وغيرهما من التقليديين عن سدة المشهد بشكل واضح حينها.
وهكذا، لم تكن فقط لحظة الأنوار الغربية التي استطاعت أن تخرج أوروبا من العصور الوسطى للتاريخ الحديث وعصور الحداثة. بل على طريقتها وطريقها، استلهمت وأسست جهود الاستنارة العربية - كما كانت تسمى قبل ستينات القرن الماضي - في مصر وسائر الحواضر العربية، آثارا مهمة في مختلف المجالات، وهدمت كثيرًا من العوائق الثقافية والتقليدية في الوعي والفكر الاجتماعي والثقافي.
ثانيا: أهمية السياسات الثقافية البديلة.
تراجعت الأصولية، أفكارا ومشروعا وتنظيمات، حين وجد مشروع بديل، يمتلك سياسات ثقافية تمكن لمقولاته. وهو ما حدث في لحظات معينة كالبورقيبية في تونس، وعلى نقيضها حدث كذلك مع أطروحات الناصرية في مصر، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه، في الخمسينات أو الستينات من القرن الماضي.
وليس مهما أن نذكّر بانحسار جماعة الإخوان المسلمين في مصر في عهد عبد الناصر الذي لم يتردد في إصدار قرار بإعدام سيد قطب سنة 1966 ميلادية رغم رجاءات كثير من الدول والنخب في المنطقة. ولم يتأثر نظامه بهذا القرار ولا شرعيته داخليا رغم ذلك، وهو ما قد يصح تفسيره بوجود مشروع شامل. وهذا المشروع وإن اختلفنا معه علينا أن نقر بأنه أجاد توظيف وسائطه الفكرية والإعلامية والفنية - من أم كلثوم إلى عبد الحليم حافظ إلى صلاح جاهين وغيرهم كثيرون - ووضع سياسة ثقافية سطرها وزيره المثقف الراحل الدكتور ثروت عكاشة في كتاب أصدره في ستينات القرن الماضي بعنوان «السياسة الثقافية في مصر» وظف فيه فنونا كالمسرح والسينما. وكذلك أنشأ هيئات كالثقافة الجماهيرية وقصور الثقافة ونشط فيه مجال النشر الرسمي المعبر، وأنشأ إعلاما مرئيا ومسموعا استطاع أن يكون خادما جيدا لهذا المشروع كذلك.
إن هذا الاهتمام والوعي بأهمية السياسات الثقافية وأهمية الطرح النخبوي للجماهير توعية وحشدا ضد المقولات الانغلاقية، أو بديلا عنها، يملآن الأبنية المعنوية لها، ولا يجعلها مباحة ومستباحة لمقولات التطرف وتصوراته.
ثالثا: تمدد الأصوليات وسط السيولة والأزمات
إن الأصولية والتطرف، العنيف بالخصوص، المؤمن والمعتقد في تصورات الصراع والنفي والصدام بالمختلف، مشروع يتمدد في حالات السيولة والفراغ بغياب مشاريع موازية عقلانية وإصلاحية تقيد من انطلاقته وتكشف زيف ولا تاريخية مقولاته... مشاريع تطلقها النخب وتتمدد وسط القواعد والجماهير كذلك، وتتفاعل معها. ثم إن أزمات المشاريع البديلة تجعل الأصوليات تطرح نفسها حلا شعاراتيا وكليا بديلا لها ينغرس عاطفيا في رحم «الهوية» الدينية والثقافية وينطلق خيالا أسطوريا طموحا نحو أستاذية العالم والهيمنة عليه، ضدا على قوانين التاريخ زمانا ومكانا.
قاعدة أخرى، تؤكدها لنا السنوات القليلة الماضية، هي أن الأصوليات تنتج أصوليات مضادة، فينتج الإرهاب «الإسلاموفوبيا»، وينتج الآخر المتشدد يمينا متشددا. ووفق هذه القاعدة أنتجت النصرة الإيرانية، في لونها وسلوكها الطائفي المناصر لنظام بشار الأسد في سوريا، وميليشياتها الراديكالية التابعة والموالية لها وللولي الفقيه الحاكم في إيران، جماعات ونصرات مضادة كجبهة النصرة التي انقسمت فيما بعد للنصرة و«داعش» و«خلافته» المزعومة... وهكذا جرت عسكرة ثورة كانت أكثر ثورات العرب رشدا ولا عنفية حين انطلقت من براءة أطفال درعا في مارس (آذار) 2011 ولم تتهور للمطالبة بإسقاط النظام قولا واحدا، بل دعت لحواره وإصلاحه الذي يظل يتعالى على الاستجابة له مركزا على القمع والانتهاك اغتصابا لبراءتها.
ثم إن الأصوليات - بطابعها الاحتجاجي أيضا - تصعد وتنمو مع الأزمات والإكراهات الاقتصادية والاجتماعية وتعثر التنمية وتوظف هذه المسائل في معارضها للأنظمة، وطرحا لنفسها بديلا ونقيضا يكفر بالأنظمة ويحاربها.
رابعا: قدرة التنظيمات على توظيف التواصليات:
تبدو المواقع التواصلية تكريسا لفردية مفرطة في الفضاء العام، وتنتج قراءات ومعرفة عشوائية غير منظمة في الغالب، إلا لمن ضبطها لأغراض ومتابعات معينة، إخبارية أو متخصصة دون سواها، لكنها في العموم كذلك، وكانت هذه الفردية أحد حوامل الشعبوية والفكر اليميني المتشدد الصاعد في الغرب، كما أنها خانت سريعا الوعد بها والذي حملته وبشرت به في الانتفاضات العربية سنة 2011، حين كان لـ«تويتر» و«فيسبوك» بالخصوص دور مهم في فعالياتها ودعواتها المدنية، لكن سريعا ما قفزت عليهما التنظيمات الأصولية ورموزها وصارت هي المسيطرة على هذا العالم ما بعد الحديث دون القوى الحديثة غير المنظمة.
بينما تمتلك الأصوليات وجماعات التطرف العنيف شعارات مشحونة وصلبة وجذابة دائما، كما تملك إصرار عناصرها وتنظيماتها على نشر أفكارها وتبرير ممارساتها الخارجة والبشعة، في ظل الهجمات المضادة لها. وكان أيمن الظواهري يفاخر في كتابه «التبرئة» بأن «القاعدة» نجحت قبل عام 2011 في السيطرة على الإنترنت، عكس ما توقع من الأخيرة، وكانت «القاعدة» تمتلك حتى عام 2005 ما يقرب من خمسة آلاف موقع ومدونة.
من هنا، ظل تأثير استخدام التنظيمات الأصولية والآيديولوجية للمواقع التواصلية أكبر بكثير عن تأثير معارضيهم وخصومهم من التيارات المعتدلة والمدنية بشكل واضح؛ إذ استخدمتها «القاعدة» واستخدمها «داعش» - وأخواتهما من جماعات التطرف - منبرا دائما لنشر أفكارها وتأكيد حضورها، ومساحات دائمة للتوسع والتجنيد والتمدد والاتصال بشكل واضح، وجاءت الصحوة ضد نشاط هذه التنظيمات متأخرة قليلا خلال العام الماضي.
وحسبنا أن نذكر أن معدل عمر المقاتلين الأجانب في «داعش» - الذين تم تجنيدهم عبر المواقع التواصلية، عامي 2014 و2015 كان في المتوسط 24 سنة فقط، وجندوا عبر مواقع كـ«فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» وغيرها. وكانت حسابات التنظيم خلال فترة صحوته بعد سيطرته على الموصل ثم إعلان «خلافته» المزعومة عام 2014 تصدر بخمس لغات، في وقت واحد، ويجري تداولها عبر آلاف الحسابات الحقيقية والوهمية.
هذا بينما تبدو خطوط المواجهة والمكافحة للفكر المتطرف في الفضاء الإلكتروني أو غيره مشتتة، تبحث عن نظم مستمر مفقود بين كثير من مؤسساتها، ولا تتراكم خبراتها، بشكل واضح، وتبحث عن استراتيجيات ومواثيق فاعلة لتجديد الخطاب أو الوعي الديني، أو تحديد الفكر العربي والإسلامي بعموم، وتبدو صورة الجزر المنعزلة الكثيرة والمنفصلة حتى في أوساط النخبة المفكرة هي المسيطرة على المشهد بشكل كبير.
ومن الدقة استحضار أن المواقع التواصلية ليست تواصلية أو اتصالية تماما، بل هي تكرر أو تؤكد وسائط الواقع القائمة، وأحيانا تضعفها بل تبقى غايتها الأخيرة هي ترجمتها في العالم الحقيقي ليس أكثر، وكثير منها لا يغادر عالمه الافتراضي وجمهوره الذي لا يتفاعل معها دائما، وإن تفاعل يتفاعل معها بشكل مؤقت غير منظوم وغير مؤمن ملتزم بأطروحاتها.
ختاما، من الضروري مراجعة حالة الوعي العام، وعمليات صناعة الأفكار وتاريخها وإعادة الاعتبار بالخصوص للسياسات الثقافية الضرورية في مواجهة الصحوات الأصولية، وهو ما يستدعي بشكل أساسي إعادة الاعتبار للمثقف نفسه كمركز ومصدر للأفكار والتصورات بموازاة الداعية التنظيمي المحرض، وإن بدت عودة جديدة لقضية قديمة هي العلاقة بين التجديد والتقليد، أو معركة «العمائم والطرابيش» أواخر العقد الثاني من القرن العشرين في مصر.
إن تثمين دور المثقف من جديد ضرورة، لأن ثمة عبئا ومسؤولية كبيرة وثقيلة تقع على كاهله، في هذا السياق من التشظي المعلوماتي والتشتت المعرفي، الذي تستفيد منه تنظيمات وأفكار الأصولية الصلبة، بينما تتكرس سيولة القيم والتوجهات احتجاجا واستقطابا ينكر قيمة المعرفة فضلا عن التغيير أو التطوير، ولكن يظل العبء الأكبر على المؤسسات الواعية في تدوير هذه النخب والاستثمار فيها والتشبيك الناظم فيما بينها، وتجسير الفجوات بين النخب الحقيقية والجماهير.



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».