مجلة «نيويوركر» العجوز تسابق الزمن نحو الإنترنت

أعرق المجلات الأميركية التحليلية التي جمعت بين السياسة والأدب والفن

غلاف أوباما وميشيل
غلاف أوباما وميشيل
TT

مجلة «نيويوركر» العجوز تسابق الزمن نحو الإنترنت

غلاف أوباما وميشيل
غلاف أوباما وميشيل

في عام 1925، تأسست مجلة «نيويوركر»، وصارت واحدة من أعرق المجلات الأميركية التحليلية التي جمعت بين السياسة والأدب والفن، مع قليل من الفكاهة. لم تتنازل، خلال كل هذه الأعوام، عن غلافها وعليه رسم كاريكاتير. وعن رسوم كاريكاتيرية كثيرة بالداخل. وعن «رواية قصيرة». وعن «قصيدة العدد». لا تستهدف المجلة القراء الشباب بقدر ما تستهدف الذين أكبر منهم سنا. (يبلغ متوسط عمر القارئ 45 عاما). وتستهدف خاصة ميسوري الحال. (يبلغ متوسط دخل القارئ 9.000 دولار في الشهر). وتتوزع، رغم اسمها، في مدن أميركية أخرى.
قبل عامين، تنافس على جائزة أحسن الأفلام الوثائقية في مهرجان أوسكار (في هوليوود، لأحسن أفلام العام) فيلم «مجلة شبه جادة جدا»، عن «نيويوركر».
يظهر في الفيلم عدد من رسومات الغلاف المشهورة. مثل واحد في عام 2008، فيه الرئيس الجديد باراك أوباما «الباكستاني» (يرتدي سروالا وقميصا)، وربما يحمل مصحفا. ومعه زوجته ميشيل في صورة «أنجيلا ديفيز» (ثائرة زنجية خلال سنوات مظاهرات الحقوق المدنية للزنوج، بشعر أفريقي كثيف، وتحمل بندقية كلاشنكوف). في الرسم الكاريكاتيري، يقف الاثنان داخل المكتب البيضاوي (المكتب الرئاسي). وتظهر على الحائط صورة عملاقة ببرواز لأسامة بن لادن، مؤسس وزعيم تنظيم القاعدة. ويظهر في مدفأة النار العلم الأميركي وهو يحترق.
أثار الغلاف نقاشا حادا. في جانب، صاح أميركيون: «إسلاموفوبيا». حتى السيناتور الجمهوري جون ماكين قال إن الرسم «يشجع العنف». لكن، في الجانب الآخر، دافع عن الرسم ديفيد ريمنيك، رئيس التحرير. (كان انتقل لتوه من صحيفة «واشنطن بوست»، بعد أن اشتهر، ليس فقط بكتابة تقارير سياسية ممتازة، ولكن، أيضا، بكتابة كتب عن سياسيين. مثل كتابه عن بيل كلينتون عندما صار رئيسا عام 1992).
قال ريمنيك: «توجد في هذا الرسم مبالغات تجعل من المستحيل أن يصدقه أي شخص». وأضاف: «يستهزئ هذا الرسم من موجة الخوف والعنصرية التي صحبت فوز أوباما بالرئاسة. يستهزئ الرسم الكاريكاتيري، عادة، من الواقع السلبي ليحوله نحو الإيجابية».
ولم يتحمس للرسم الرئيس أوباما نفسه. قال: «في جانب، نعم لا بد من السخرية من الواقع السلبي، رغم أن المجلة لم توفق في سخريتها. وفي جانب، يسيء الرسم إلى المسلمين. وهذا موضوع لا يتحدث عنه الأميركيون كثيرا».
بعد 10 أعوام تقريبا من الكاريكاتير، صار «موضوع لا يتحدث عنه الأميركيون كثيرا» حديثا كل الأميركيين تقريبا: الإسلام والمسلمون. وحديث مجلة «نيويوركر». لكن، مثل مجلات ورقية أخرى، قل الإقبال عليها، وصارت مهددة بالتوقف، مثل مجلة «نيوزويك» الورقية (كانت تصدر أيضا في نيويورك).
لهذا، وعلى خطى صحيفته السابقة، «واشنطن بوست»، بدأ ريمنيك يركز على موقع الصحيفة في الإنترنت. لكن، لم يكن هذا سهلا لمجلة اشتهرت بالمهنية الصحافية، والنقاش المهذب، والقراء المتميزين.
عن هذا قال تقرير أصدره، مؤخرا، معهد بوينتر الصحافي في سنت بيترزبيرغ (ولاية فلوريدا): «لا توجد مطبوعة تراجع ما ستنشر قبل نشره مثل نيويوركر». وقال التقرير إن كل قطعة تنشر لا بد أن يقرأها 10 أشخاص: كاتبها، مستشار كاتبها (من داخل المجلة)، محرر التقارير في المجلة، مراجع اللغة، مراجع الحقائق، المسؤول الفني، مسؤول المطبعة، مراجع اللغة النهائي. وطبعا، رئيس التحرير، ونائبه.
خلال الحملة الانتخابية، واجهت المجلة مشكلة «التحرير البطيء» في متابعة «الأحداث السريعة». وذلك لأن موقعها في الإنترنت كان نسخة من الطبعة الورقية (مرة كل أسبوع).
يوما في الصباح، سمع ريمنيك المرشح الليبرتاري غاري جونسون يسال، خلال مؤتمر صحافي، «ما هي حلب؟» غضب ريمنيك من جهل الرجل. وكتب تعليقا من 1.000 كلمة، وقرر نشره في موقع المجلة في الإنترنت، بعد ساعات قليلة. ولأنه رئيس التحرير، تخطى 5 مراحل من 10 مراحل.
عن هذا قال تقرير بوينتر: «هكذا، غير ريمنيك مجلة عمرها 92 عاما لتواكب الإنترنت، من دون أن يقلل من جديتها وتميزها».
خلال الأسابيع التالية، ولملاحقة الحملة الانتخابية، زاد ريمنيك عدد الصحافيين العاملين في القسم الإلكتروني إلى 40 تقريبا. اليوم، ينشر الموقع ما بين 10 و15 موضوعا. (خاصة عن الرئيس دونالد ترمب. وخاصة عن النقاشات الدينية والعرقية التي أثارها). في الأسبوع الماضي، كان واحد من هذه المواضيع عن ما حدث قبل قرابة 10 أعوام عندما نشرت المجلة كاريكاتير الرئيس أوباما وزوجته ميشيل. وجاء في الموضوع: «كان الكاريكاتير عملا صحافيا جريئا، عن موضوع لا يتحدث عنه الناس كثيرا، بسب حساسيته. لكن، في عهد ترمب، لا يوجد شيء حساس. صار كل شيء غير عادي عاديا».
في كل الحالات، لا تريد المجلة أن تغير طبعة الإنترنت من جديتها وتميزها. وتظل ترفض مساهمات من صحافيين ومعلقين لم تطلب منهم مساهمات. وتظل ترفض نشر الأخبار اليومية، ولا حتى التعليقات اليومية. وتتشدد كثيرا في قبول قصائد أو رسوم كاريكاتيرية أو تعليقات من أشخاص لا يعملون فيها. عن هذا قال جالي كوب، صحافي في المجلة: «يقرأ كثير من الناس مجلتنا لأنها مكتوبة بلغة رصينة، وتخاطب المثقفين، وتتحاشى التعليقات اليومية العابرة. ظلت تفعل ذلك منذ أن تأسست، والآن، في عصر الإنترنت، تريد أن تواصل ذلك». وأضاف: «لسنا (تايم) الإخبارية، ولسنا (بيبول) للمشاهير، ولسنا دورية أكاديمية. نحن مجلة ثقافية راقية».
في عام 2012، عندما وضعت المجلة طبعتها الورقية في الإنترنت، تابعها 4 ملايين شخص تقريبا كل شهر. في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، تابعها 30 مليون شخص تقريبا. وتظل الطبعة الورقية، رغم انخفاض الإقبال عليها، ناجحة: 75.000 نسخة اشتراك في ذلك الشهر. مؤخرا، دخلت المجلة مجال الإذاعة، وأسست «إذاعة نيويوركر»، التي، مثل المجلة، تقدم مقابلات مع عمالقة في ميادين الفكر والفن. وتندر ريمنيك: «عندما يكبر عمري ولا أقدر على الكتابة، سأقدم برنامجا في الإذاعة. عند منتصف الليل، مقابلات مع عمالقة الثقافة الأميركية».



فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
TT

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)

قد يكون من الواجب المهني الاعتراف بأن الجميع أخطأ في قراءة مجريات المعركة الانتخابية، والمؤشرات التي كانت كلها تقود إلى أن دونالد ترمب في طريقه للعودة مرة ثانية إلى البيت الأبيض. وترافق ذلك مع حالة من الإنكار لما كانت استطلاعات الرأي تُشير إليه عن هموم الناخب الأميركي، والأخطاء التي أدّت إلى قلّة التنبُّه لـ«الأماكن المخفية»، التي كان ينبغي الالتفات إليها.

لا ثقة بالإعلام الإخباري

وبمعزل عن الدوافع التي دعت جيف بيزوس، مالك صحيفة «واشنطن بوست»، إلى القول بأن «الأميركيين لا يثقون بوسائل الإعلام الإخبارية» لتبرير الامتناع عن تأييد أي من المرشحيْن، تظل «الحقيقة المؤلمة» أن وسائل الإعلام الأميركية، خصوصاً الليبرالية منها، كانت سبباً رئيسياً، ستدفع الثمن باهظاً، جراء الدور الذي لعبته في تمويه الحقائق عن الهموم التي تقضّ مضاجع الأميركيين.

صباح يوم الأربعاء، ومع إعلان الفوز الكاسح لترمب، بدا الارتباك واضحاً على تلك المؤسسات المكتوبة منها أو المرئية. ومع بدء تقاذف المسؤوليات عن أسباب خسارة الديمقراطيين، كانت وسائل الإعلام هي الضحية.

وفي بلد يتمتع بصحافة فعّالة، كان لافتاً أن تظل الأوهام قائمة حتى يوم الانتخابات، حين أصرت عناوينها الرئيسية على أن الأميركيين يعيشون في واحد من «أقوى الاقتصادات» على الإطلاق، ومعدلات الجريمة في انخفاض، وعلى أن حكام «الولايات الحمراء» يُضخّمون مشكلة المهاجرين، وأن كبرى القضايا هي المناخ والعنصرية والإجهاض وحقوق المتحولين جنسياً.

في هذا الوقت، وفي حين كان الجمهوريون يُسجلون زيادة غير مسبوقة في أعداد الناخبين، والتصويت المبكر، ويستفيدون من التحوّلات الديموغرافية التي تشير إلى انزياح مزيد من الناخبين ذوي البشرة السمراء واللاتينيين نحو تأييد ترمب والجمهوريين، أصرّت العناوين الرئيسية على أن كامالا هاريس ستفوز بموجة من النساء في الضواحي.

جيف بيزوس مالك «واشنطن بوست» (رويترز)

عجز عن فهم أسباب التصويت لترمب

من جهة ثانية، صحيفة «وول ستريت جورنال»، مع أنها محسوبة على الجمهوريين المعتدلين، وأسهمت استطلاعاتها هي الأخرى في خلق صورة خدعت كثيرين، تساءلت عمّا إذا كان الديمقراطيون الذين يشعرون بالصدمة من خسارتهم، سيُعيدون تقييم خطابهم وبرنامجهم السياسي، وكذلك الإعلام المنحاز لهم، لمعرفة لماذا صوّت الأميركيون لترمب، ولماذا غاب ذلك عنهم؟

في أي حال، رغم رهان تلك المؤسسات على أن عودة ترمب ستتيح لها تدفقاً جديداً للاشتراكات، كما جرى عام 2016، يرى البعض أن عودته الجديدة ستكون أكثر هدوءاً مما كانت عليه في إدارته الأولى، لأن بعض القراء سئِموا أو استنفدوا من التغطية الإخبارية السائدة.

وحتى مع متابعة المشاهدين لنتائج الانتخابات، يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر، ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق. وبغضّ النظر عن زيادة عدد المشاهدين في الأمد القريب، يرى هؤلاء أن على المسؤولين التنفيذيين في وسائل الإعلام الإخبارية وضع مهامهم طويلة الأجل قبل مخاوفهم التجارية قصيرة الأجل، أو المخاطرة «بتنفير» جماهيرهم لسنوات مقبلة.

وهنا يرى فرانك سيزنو، الأستاذ في جامعة «جورج واشنطن» ورئيس مكتب واشنطن السابق لشبكة «سي إن إن» أنه «من المرجح أن يكون عهد ترمب الثاني مختلفاً تماماً عمّا رأيناه من قبل. وسيحمل هذا عواقب وخيمة، وقيمة إخبارية، وينشّط وسائل الإعلام اليمينية، ويثير ذعر اليسار». ويضيف سيزنو «من الأهمية بمكان أن تفكر هذه القنوات في تقييماتها، وأن تفكر أيضاً بعمق في الخدمة العامة التي من المفترض أن تلعبها، حتى في سوق تنافسية للغاية يقودها القطاع الخاص».

صعود الإعلام الرقمي

في هذه الأثناء، يرى آخرون أن المستفيدين المحتملين الآخرين من دورة الأخبار عالية الكثافة بعد فوز ترمب، هم صانعو الـ«بودكاست» والإعلام الرقمي وغيرهم من المبدعين عبر الإنترنت، الذين اجتذبهم ترمب وكامالا هاريس خلال الفترة التي سبقت الانتخابات. وهو ما عُدَّ إشارة إلى أن القوة الزائدة للأصوات المؤثرة خارج وسائل الإعلام الرئيسية ستتواصل في أعقاب الانتخابات.

وفي هذا الإطار، قال كريس بالف، الذي يرأس شركة إعلامية تنتج بودكاست، لصحيفة «نيويورك تايمز» معلّقاً: «لقد بنى هؤلاء المبدعون جمهوراً كبيراً ومخلصاً حقّاً. ومن الواضح أن هذا هو الأمر الذي يتّجه إليه استهلاك وسائل الإعلام، ومن ثم، فإن هذا هو المكان الذي يحتاج المرشحون السياسيون إلى الذهاب إليه للوصول إلى هذا الجمهور».

والواقع، لم يخسر الديمقراطيون بصورة سيئة فحسب، بل أيضاً تحطّمت البنية الإعلامية التقليدية المتعاطفة مع آرائهم والمعادية لترمب، وهذا ما أدى إلى تنشيط وسائل الإعلام غير التقليدية، وبدأت في دفع الرجال من البيئتين الهسبانيكية (الأميركية اللاتينية) والفريقية (السوداء) بعيداً عنهم، خصوصاً، العمال منهم.

يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق

تهميش الإعلام التقليدي

لقد كانت الإحصاءات تشير إلى أن ما يقرب من 50 مليون شخص، قد أصغوا إلى «بودكاست» جو روغان مع ترمب، حين قدم تقييماً أكثر دقة لمواقفه ولمخاوف البلاد من المقالات والتحليلات التي حفلت بها وسائل الإعلام التقليدية، عن «سلطويته» و«فاشيته» لتدمير المناخ وحقوق الإجهاض والديمقراطية. ومع ذلك، لا تزال وسائل الإعلام، خصوصاً الليبرالية منها، تلزم الصمت في تقييم ما جرى، رغم أن توجّه الناخبين نحو الوسائل الجديدة عُدّ تهميشاً لها من قِبَل الناخبين، لمصلحة مذيعين ومؤثّرين يثقون بهم. وبالمناسبة، فإن روغان، الذي يُعد من أكبر المؤثّرين، ويتابعه ملايين الأميركيين، وصفته «سي إن إن» عام 2020 بأنه «يميل إلى الليبرالية»، وكان من أشد المؤيدين للسيناتور اليساري بيرني ساندرز، وقد خسره الديمقراطيون في الانتخابات الأخيرة عند إعلانه دعمه لترمب. وبدا أن خطاب ساندرز الذي انتقد فيه حزبه جراء ابتعاده عن الطبقة العاملة التي تخلّت عنه، أقرب إلى ترمب منه إلى نُخب حزبه، كما بدا الأخير بدوره أقرب إلى ساندرز من أغنياء حزبه الجمهوري.