من التاريخ: أتاتورك ومولد الدولة التركية

ضياء غوكالب
ضياء غوكالب
TT

من التاريخ: أتاتورك ومولد الدولة التركية

ضياء غوكالب
ضياء غوكالب

انهارت الدولة العثمانية في أعقاب خسارتها الحرب العالمية الأولى أمام الحلفاء، وتعرضت أراضيها للاحتلال كما تابعنا في الأسبوع الماضي. إذ استولى الأسطول البريطاني على المضايق التركية (مضيقي البوسفور والدردنيل)، بينما احتلت اليونان غرب الأناضول بمباركة بريطانية، وتوسع الأرمن في شرق الأناضول، وفرض الحلفاء على السلطان العثماني الضعيف «اتفاقية سيفر» Sevres عام 1920، التي جرّدت الدولة العثمانية من كل ممتلكاتها الأوروبية والعربية والفارسية على حد سواء. وهكذا، لم يتبق لها إلا دويلة صغيرة في وسط الأناضول، بيد أن الصمود التركي على أيدي القائد العسكري مصطفى كمال «أتاتورك» غير مصير هذه الدولة.
تشير المصادر التاريخية المؤكدة أن «أتاتورك» (أي «أبو الأتراك») كان ابنا لموظف في الجمارك بولاية سلانيك (تيسالونيكي، في شمال شرقي اليونان اليوم) العثمانية، ولقد التحق بالجيش العثماني واستطاع أن يتدرج إلى أن أصبح قائد الجبهة الشمالية العثمانية، بعدما استطاع وقف الإنزال الغربي المعروف بحملة «غاليبولي». وبفضل هذا الإنجاز صار بطلاً قوميًا، إلا أن السلطان لم يكن على دراية بأن أعظم قواده كان يعتنق فكر حركة «تركيا الفتاة» التي كانت تريد أن تطوّر الدولة العثمانية من دون الإخلال بهويتها الأممية الإسلامية، ولكنه سرعان ما فارق هذا الفكر الذي لم يعد يروق له لاعتقاده الراسخ بأن بناء الدولة الحديثة لا يمكن أن يكون على أنقاض فكر أممي.
وبالتالي، انجذب «أتاتورك»، الذي كان قارئًا جيدًا للفكر الغربي، إلى الفكر القومي وأهمية بناء الدول على مفاهيم مرتبطة بقومية الدولة وهويتها الحقيقية. ثم إنه تأثر كثيرًا بفكر الكاتب العثماني ضياء غوكالب Ziya Gokalp وغيره ممن دعوا لبناء دولة تركية حديثة قوامها القومية التركية المبنية على التاريخ الطويل للقبائل التي استوطنت الأناضول وتبنت اللغة التركية، وميراثها اللغوي والتاريخي والثقافي الموحّد الذي يمكن على أساسه بناء مقومات دولة أكثر تجانسًا من الإمبراطورية المتفرقة المترهلة فكريًا وعسكريًا وإداريًا.
هذا التوجه القومي الصريح وضع «أتاتورك» في صدام مباشر مع حركة «تركيا الفتاة» و«جمعية الاتحاد والترقّي» التي كانت تحكم البلاد بعدما فشل السلطان العثماني في كبح جماحها. ومع تسليم السلطان بـ«اتفاقية سيفر» المهينة وتقليص الدولة إلى دويلة صغيرة في وسط الأناضول، انشق «أتاتورك» عن حكومة إسطنبول ورفض الانصياع للاتفاقية وشروطها، متخذًا من مدينة أنقرة عاصمة له. ومنها أطلق حرب تحرير «الوطن» وطرد الحلفاء واليونانيين من البلاد وإزاحة التهديد والاحتلال الأرميني لها شرقًا.
على الفور، أصدر السلطان أوامر باعتقال القائد المتمرد، غير أن جنرالات الجيش العثماني رفضوا الانصياع للأوامر وانضموا إلى «أتاتورك» في نضاله، فشكّل الرجل برلمانًا وحكومة موازيين، وبدأ رحلة تأسيس «الدولة التركية» بحرب استقلال واسعة النطاق.
ووجه «أتاتورك» جهوده الأولية لبناء جيش قوي مؤهل لمواجهة الغزاة وقوات السلطان العثماني، التي كانت قد سعت للقضاء على حكومة أنقرة، إذ جهز السلطان جيشًا عثمانيًا قويًا وحركه صوب أنقرة لتصفية الحكومة الموازية. وقدمت بريطانيا يومذاك دعمًا مباشرا حيث رأت في «حكومة أنقرة» الوليدة» ندًا قويًا لأهدافها السياسية والاستراتيجية بالنسبة لتركيا. إلا أن جيش «أتاتورك» استطاع التغلب على الجيش العثماني، كما أن حنكته السياسية جعلته يتفادى الصدام المباشر مع القوات البريطانية المسيطرة على المضايق التركية.
وبعدها، بمجرد أن تخلص من خطر حكومة السلطان، وجه «أتاتورك» جهوده نحو الجبهة الشرقية حيث هاجم القوات الأرمينية بقوة وحزم، واستطاع أن يحرر الأناضول من وجودهم، ولكن ليس قبل أن يتوغل الجيش اليوناني حتى أصبح على بعد أقل من ستين كيلومترًا من العاصمة أنقرة في مدينة سقارية. وهنا تجلّت الموهبة العسكرية لهذا القائد الفذ الذي هدّد أي متراجع من جيشه بالقتل. وهو ما مكنه من إلحاق هزيمة منكرة باليونانيين هزيمة أدت إلى انسحابهم غربا.
وكان «أتاتورك» قد تعمد ترك اليونانيين يتقدمون صوبه بكل قوة كي يطيل خطوط إمدادهم ما يسهل مهمة ضربهم. وحقًا، بمجرد هزيمتهم، تحرك «أتاتورك» بجيشه صوب الغرب لدحر فلولهم، وانقض عليهم في مدينة أفيون قره حصار خلال أغسطس (آب) 1922، وهزمهم مرة أخرى. ثم كانت المعركة الفاصلة بالقرب من مدينة إزمير التي دارت في 9 سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، وفيها حقق القائد التركي انتصاره الكبير وأجلاهم عن البلاد تمامًا. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما ساعد على هزيمة الجيش اليوناني المعتدي أن حكومة آرثر لويد جورج في بريطانيا قد سقطت، وهكذا خرج الحليف الأول للغزو اليوناني من الساحة السياسية الدولية، وهو ما أسهم في دحرهم.
بمجرد استعادة «أتاتورك» زمام الأمور في الأناضول باشرت حكومته في أنقرة سعيها لتغيير شروط «اتفاقية سيفر» المجحفة التي وقعتها حكومة السلطان. وسعت بريطانيا لإعادة التفاوض مع تركيا على أساس وفد من حكومة أنقرة ينضم إليه ممثلون من حكومة السلطان، إلا أن «أتاتورك» رفض ذلك تمامًا وأصر على أن يكون الوفد موحدًا تحت قيادة حكومته في أنقرة. وأرسل بالفعل وفدًا للتفاوض مع الحلفاء في مدينة لوزان السويسرية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1922، واستطاع الوفد بحنكة كبيرة، مستغلاً الانتصارات المتتالية للجيش التركي، فرض أمر واقع جديد على الحلفاء.
وبناء عليه، بعد أشهر من المفاوضات في عام 1923، جرى التوقيع على «اتفاقية لوزان» التي أعادت لتركيا هيبتها من جديد من خلال الاعتراف بـ«حكومة أنقرة» ممثلاً شرعيًا للدولة التركية الجديدة وإعادة منطقة تراقيا – أو تراكيا – الشرقية (في أقصى الغرب) إليها، فضلاً عن ترسيم الحدود وفقًا لرؤية «أتاتورك» بالسيطرة على هضبة الأناضول كاملة. كذلك، ألغت الاتفاقية جميع الامتيازات الممنوحة للأجانب المقيمين في السلطنة العثمانية وفقًا لقوانين بلادهم وليس للقانون العثماني. ولكن الأمر الوحيد الذي أصرّ عليه الحلفاء كان منع تركيا من تحصين مضيقي الدردنيل والبوسفور وبحر مرمرة.
وفي 29 أكتوبر (تشرين الأول) 1923 أعلن عن قيام «الدولة التركية» خلفًا للدولة العثمانية من حيث مفهوم توارث الدول في القانون الدولي. ولكن حقيقة الأمر أن «أتاتورك» كان قد سبق له اتخاذ خطوة مهمة للغاية في نوفمبر من عام 1922 من خلال برلمان أنقرة، إذ قرّر أن يفصل بين «السلطنة» من ناحية و«الحكومة» بخلع السلطان محمد السادس من إدارة الدولة واعتماد حكومة أنقرة ممثلاً شرعيًا وحيدًا للدولة العثمانية.
غير أن الخطوة الأكثر تأثيرًا على مستوى العالم الإسلامي تمثّلت بقرار البرلمان التركي في 1923 إعلان «الجمهورية التركية»، وهو ما وضع مؤسسة ومفهوم الخلافة على المحك... ولكن ليس لفترة طويلة. إذ تبع ذلك يوم 3 مارس (آذار) 1924 تصويت البرلمان التركي لصالح «إلغاء الخلافة العثمانية» بالكامل، وهو ما ترك حالة من الفراغ السياسي في مفهوم الشرعية داخل الكثير من الدول والمجتمعات الإسلامية. ولكن على الصعيد التركي كانت خطوة بالغة الأهمية للجمهورية الفتية التي كان لـ«أتاتورك» رؤية مختلفة لمسارها، فما فعله «أتاتورك» غيّر مسار التكوين السياسي والفكري للدولة التركية وفصلها عن ماضيها السياسي والثقافي من خلال تطبيق صارم لمفاهيم القومية التركية والتي شملت مسح جزء كبير من التراث الفكري العثماني.
وعلى الرغم من أن الدولة التركية تعدّ من الناحية السياسية والقانونية الوريث الشرعي للدولة العثمانية، فهي من الناحية الفعلية والآيديولوجية مثلت انقطاعًا كاملاً عن هذه الجذور.



تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

تشون دو - هوان (رويترز)
تشون دو - هوان (رويترز)
TT

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

تشون دو - هوان (رويترز)
تشون دو - هوان (رويترز)

سينغمان ري (الصورة الرئاسية الرسمية)

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

وفي سلسلة من التاريخ المظلم لقادة البلاد، عزل البرلمان الرئيسة بارك غيون - هاي، التي كانت أول امرأة تتولى منصب الرئاسة الكورية الجنوبية، ثم سُجنت في وقت لاحق من عام 2016. ولقد واجهت بارك، التي هي ابنة الديكتاتور السابق بارك تشونغ - هي، اتهامات بقبول أو طلب عشرات الملايين من الدولارات من مجموعات اقتصادية وصناعية كبرى.

وفي الحالات الأخرى، انتحر روه مو - هيون، الذي تولى الرئاسة في الفترة من 2003 إلى 2008، بصورة مأساوية في مايو (أيار) 2009 عندما قفز من منحدر صخري بينما كان قيد التحقيق بتهمة تلقي رشوة، بلغت في مجموعها 6 ملايين دولار، ذهبت إلى زوجته وأقاربه.

وعلى نحو مماثل، حُكم على الرئيس السابق لي ميونغ - باك بالسجن 15 سنة في أكتوبر (تشرين الأول) 2018 بتهمة الفساد. ومع ذلك، اختُصرت فترة سجنه عندما تلقى عفواً من الرئيس الحالي يون سوك - يول في ديسمبر (كانون الأول) عام 2022.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أدين تشون دو - هوان، الرجل العسكري القوي والسيئ السمعة، الملقّب بـ«جزار غوانغجو»، وتلميذه الرئيس نوه تاي - وو، بتهمة الخيانة لدوريهما في انقلاب عام 1979، وحُكم عليهما بالسجن لأكثر من 20 سنة، ومع ذلك، صدر عفو عنهما في وقت لاحق.

بارك غيون- هاي (رويترز)

الأحكام العرفية

باعتبار اقتصاد كوريا الجنوبية، رابع أكبر اقتصاد في آسيا، وكون البلاد «البلد الجار» المتاخم لكوريا الشمالية المسلحة نووياً، تأثرت كوريا الجنوبية بفترات تاريخية من الحكم العسكري والاضطرابات السياسية، مع انتقال الدولة إلى نظام ديمقراطي حقيقي عام 1987.

والواقع، رغم وجود المؤسسات الديمقراطية، استمرت التوترات السياسية في البلاد، بدءاً من تأسيسها بعد نيل الاستقلال عن الاستعمار الياباني عام 1948. كذلك منذ تأسيسها، شهدت كوريا الجنوبية العديد من الصدامات السياسية - الأمنية التي أُعلن خلالها فرض الأحكام العرفية، بما في ذلك حلقة محورية عام 1980 خلّفت عشرات القتلى.

وهنا يشرح الصحافي الهندي شيخار غوبتا، رئيس تحرير صحيفة «ذا برنت»، مواجهات البلاد مع الانقلابات العسكرية وملاحقات الرؤساء، بالقول: «إجمالاً، أعلنت الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية 16 مرة على الأقل. وكان أول مرسوم بالأحكام العرفية قد أصدره عام 1948 الرئيس (آنذاك) سينغمان ري، إثر مواجهة القوات الحكومية تمرداً عسكرياً بقيادة الشيوعيين. ثم فرض ري، الذي تولى الرئاسة لمدة 12 سنة، الأحكام العرفية مرة أخرى في عام 1952».

مع ذلك، كان تشون دو - هوان آخر «ديكتاتور» حكم كوريا الجنوبية. وتشون عسكري برتبة جنرال قفز إلى السلطة في انقلاب إثر اغتيال الرئيس بارك تشونغ - هي عام 1979، وكان بارك جنرالاً سابقاً أعلن أيضاً الأحكام العرفية أثناء وجوده في السلطة لقمع المعارضة حتى لا تنتقل البلاد رسمياً إلى الديمقراطية. نيودلهي: «الشرق الأوسط»