وثائق «سي آي إيه» كالاهان ارتأى دخولاً سوريًا لوقف القتال من دون أن تعترض إسرائيل

إضاءة على مداولات القوى الكبرى لضبط الوضع اللبناني في مطلع 1976

صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
TT

وثائق «سي آي إيه» كالاهان ارتأى دخولاً سوريًا لوقف القتال من دون أن تعترض إسرائيل

صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976

في حلقة اليوم من وثائق الاستخبارات الأميركية نتناول وثائق عائدة لمرحلة حاسمة من تاريخ لبنان السياسي المعاصر. هذه المرحلة هي تحديدًا مفصل «تكليف» القوى الكبرى النظام السوري في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد، خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، بالتدخل عسكريًا في لبنان، لإنهاء القتال الدائر يومذاك بين «القوات المشتركة» لما كان يُعرف بـ«الحركة الوطنية اللبنانية» وحركات المقاومة الفلسطينية المتحالفة معها من جهة، وقوات الأحزاب المسيحية اللبنانية من الجهة المقابلة.
في تلك المرحلة، تفاقم الوضع في لبنان - إبان رئاسة الرئيس الأسبق الراحل سليمان فرنجية - ورجّحت الكفة الميدانية لـ«القوات المشتركة» بمكوّنيها اللبناني والفلسطيني، ما هدّد بخروج الصراع عن نطاقه المحلي والتحول إلى أزمة إقليمية ودولية، في ظل استعانة المكوّنات المحلية اللبنانية باللاعبين الإقليميين. وتشير الوثائق البريطانية - الأميركية المتبادلة التي ننشرها اليوم إلى المداولات التي أخذت في الاعتبار عام 1976 قطع الطريق على تدخل إسرائيلي مباشر لمنع الفلسطينيين وحلفائهم اليساريين والقوميين من اللبنانيين من الغلبة العسكرية، وإلى الدور الموكل لدمشق لوقفهم. وبين أهم الوثائق برقية لوزير الخارجية البريطاني يومذاك جيمس كالاهان (رئيس الوزراء فيما بعد) عن بحثه في الأمر مع وزير الخارجية السوفياتي آندريه غروميكو (رئيس الاتحاد السوفياتي لاحقًا) والتواصل والتشاور مع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي في حينه. أيضًا من الوثائق المهمة رسالة للسفير البريطاني في بيروت السير بيتر ويكفيلد حول الوضع، وما يمكن فعله، والدور الذي يمكن للرئيس الأسد فعله لتبريد الأجواء واحتواء التفجر.
نعلم أن عددًا من العسكريين النظاميين السوريين موجودون بالفعل داخل لبنان. ويعلم الإسرائيليون أيضًا هذا الأمر، إلا أنهم لم يبدوا اعتراضهم حتى الآن.
ربما يظن السوريون أنهم نجحوا في إخفاء وجود جنودهم في صورة فلسطينيين، إلا أنهم حال إقدامهم على استخدامهم سيصبح وجودهم أمرًا معروفًا. وسيشعرون حينذاك بالقلق حيال رد الفعل الإسرائيلي.
وربما تنوي سوريا إرسال مزيد من القوات النظامية. وهنا سيكون السؤال هل سيسمح الإسرائيليون بهذا الأمر تبعًا لشروط معينة - تحديدًا أن يجري البقاء عليهم بعيدًا عن الجنوب؟
تفيد أنباء بأن (الرئيس اللبناني سليمان) فرنجية اتصل هاتفيًا بالرئيس (السوري) حافظ الأسد بالأمس، وأعرب عن غضبه وهدد باللجوء إلى إجراءات أخرى في حال إحجام سوريا عن التدخل العسكري المباشر لإنهاء الاقتتال. ويعكس هذا الأمر حدوث انتكاسات عسكرية للمسيحيين. وبالأمس تلقيت مناشدة عاجلة للحصول على مساعدة غربية من شارل مالك (عضو «جماعة الكسليك» ووزير الخارجية السابق). الواضح أن الذخائر بدأت تنفد، في الوقت الذي حانت الساعة الأخيرة للبنان. ويبدو أن (الرئيس حافظ) الأسد استجاب عبر ممارسة ضغوط على (الزعيم الفلسطيني ياسر) عرفات للمساعدة في إقرار وقف إطلاق نار والوساطة لدى (الزعيم الاشتراكي كمال) جنبلاط. و«أبو إياد» (القيادي الفلسطيني في «فتح» صلاح خلف) توجه صباحا إلى سوريا.
تشير تقديراتنا إلى أن قوات (منظمة) «الصاعقة» (الفدائية الفلسطينية التابعة لجناح سوريا في حزب البعث العربي الاشتراكي) ومنظمة التحرير الفلسطينية والقوات النظامية السورية كافية لفرض وقف إطلاق نار في حال تعاونت منظمة فتح، الأمر الذي تبدو المنظمة مستعدة للقيام به في الوقت الراهن. أما إذا كانت لدى السوريين خطط أبعد من ذلك، مثل تشكيل جبهة لجماعات الممانعة هنا، فسيكون من الواضح أنه ليس بإمكانهم التعويل كثيرًا على تعاون «فتح».
لقد كان من شأن تشجيع مصر منظمة فتح على إقصاء نفسها عن التسوية السياسية السورية زيادة تعقيد الموقف هنا. وربما أدى هذا الأمر، علاوة على الجهود العراقية القوية لتخريب محاولات التسوية، إلى إقناع السوريين بحاجتهم للدفع بمزيد من القوات النظامية للاضطلاع بالمهمة.
هل ينبغي أن تفكر حكومتنا، وربما نحن، في كبح جماح الجهود المصرية على أساس أن ما يقومون به سيخلق إما مزيدًا من الفرص أمام القوى اليسارية داخل لبنان لتعزيز موقفها وإما تدخلاً سوريًا عسكريًا أقوى؟

السير بيتر ويكفيلد
برقية من وزارة الخارجية إلى السفارات في بيروت ودمشق وتل أبيب وباريس والقاهرة وعمّان وموسكو وبعثة المملكة المتحدة لدى نيويورك
أطلعت (وزير خارجية الاتحاد السوفياتي آندريه) غروميكو باختصار على النيات السورية هذا الصباح، لمنحه فرصة لمراجعة الأمر مع موسكو. وعلق بقوله إنه نما إلى مسامعه شائعات تفيد الأمر ذاته. وقلت إنه رغم أن المعلومات المتاحة لدينا ليست مؤكدة، لكنها تعتمد على ما هو أكثر من مجرد شائعات، وأننا نشعر بضرورة التعامل معها بجدية. إننا نتفهم إمكانية وجود القليل من القوات السورية النظامية داخل لبنان بالفعل، لكن ما يثير قلقنا إمكانية أن ترسل سوريا تعزيزات كبيرة. في اعتقادنا، من الممكن أن يثير ذلك تحركًا إسرائيليًا إلى داخل الجنوب اللبناني. وسيكون من المتعذر التكهن بتداعيات مثل هذا التطور، لكنها ربما تتضمن صدامًا بين إسرائيل وسوريا، الأمر الذي قد يشعل صراعًا أوسع نطاقًا يحمل مخاطر كبرى على السلام الدولي ومصالح الأطراف الثالثة. وأكدت أننا سنعمل على استغلال نفوذنا لدى الإسرائيليين للحيلولة دون حدوث تصعيد، وعمدت إلى حث غروميكو إلى القيام بالمثل مع السوريين. كان هناك بالطبع خطر في الاتجاهين: فإذا تصدى السوريون لممارسات قوات الحركة الوطنية (اللبنانية) المتطرفة قد تفلت الأمور عن السيطرة، لكننا عمومًا ارتأينا أن هذا أفضل الشرّين، إذ سيكون أفضل من تدخل إسرائيلي حتمي ضد دخول سوري واسع.
من جانبه، قال غروميكو إنه لا يرغب في التشكيك في معلوماتي. بل إنه يود القول فحسب إن التقارير التي وصلت إليه لا يمكن التعامل معها على أنها تستحق الاعتماد عليها، وإنما تقوم على شائعات صادرة عن دوائر بعينها داخل العالم العربي، ونظرًا لأنه جرى تمريرها إليه من قبل حكومة موسكو فإنها ربما يكون قد عفا عليها الدهر. وأضاف أن الروس ما كانوا راضين عن الوضع السابق في لبنان والمنطقة المحيطة به، إلا أن الروس اتفقوا على أن الوضع محفوف بالمخاطر. وبالتالي، تعهد بأنه سيعمل على الاتصال بـ«بعض الأشخاص داخل دول عربية»، للحث على التزام سياسات معتدلة، لكن من الصعب تحديد التأثير الذي سيحققه ذلك. وأعرب عن أمله في أن نقوم من جانبنا باتخاذ خطوات لتحقيق بعض الاعتدال في الموقف.
وطلب غروميكو التعرف على وجهات نظرنا بخصوص كيف يمكن حل المشكلة، مشيرًا إلى اعتقاده أن ما بدا كشأن داخلي انتهى بتدويله بسبب التدخلات الأجنبية لصالح الجماعات اللبنانية المتناحرة. وأنا من جانبي لم أرفض هذا الرأي، إلا أنني أوضحت أن الجماعات اللبنانية ذاتها هي التي سعت إلى استدعاء دعم خارجي وجاءت النتيجة فوضوية ومربكة. في أي حال، نحن نعتقد أنه بصورة عامة، اضطلع السوريون بدور مسؤول، ونرى أنه لا تزال لديهم فرصة للتوصل إلى تسوية عبر التفاوض.
أيضًا بوجه عام، أعتقد أن رد فعل غروميكو جاء مرضيًا، وآمل أن يجده (وزير الخارجية الأميركي هنري) كيسنجر مفيدًا. ولقد اقترحت أن يتبادل الآراء مع الجانب الأميركي، وأيضا مع الفرنسيين بالنظر إلى اهتمامهم التقليدي بشؤون لبنان.
تشير أحدث التقارير الواردة من بيروت وتل أبيب إلى وجود قوات نظامية سوريا بالفعل داخل لبنان، وحسب تقديرنا فإن هذه القوات بجانب (فدائيي منظمة) «الصاعقة» ومنظمة التحرير الفلسطينية كافية لفرض وقف إطلاق نار بشرط تعاون «فتح».
ويبدو رد الفعل الإسرائيلي حيال التوجه السوري وتجاه الأميركيين مبالغا فيه بعض الشيء، وإن كان وضع الحكومة الإسرائيلية حاليًا متراجعًا للغاية إلى درجة قد تخلق لديها شعورًا بالحاجة إلى تقديم رد فعل أقوى إزاء ما يتطلبه الوضع على أرض الواقع حيال التدخل السوري الصريح.
وهنا أتساءل حول ما إذا كان من الممكن إقناع الإسرائيليين بأن تدخلاً عسكريًا أكبر من جانب سوريا في لبنان سيكون أقل خطرًا من استمرار الفوضى أو من ظهور سلطة في الجنوب حريصة على تشجيع شن الهجمات على إسرائيل، ولن تتأثر بعقوبات كتلك التي يمكن لإسرائيل فرضها على سوريا أو أي سلطة لبنانية يعاد تأسيسها؟ هل سيكون الإسرائيليون مستعدين للسماح بدخول قوات سورية إضافية إلى لبنان على أن تبقى بعيدة عن جنوبه؟
أما بالنسبة للوضع داخل لبنان فإنه يتقلب بين يوم وآخر، في وقت يعكف المبعوثون السوريون على محاولة اتخاذ الترتيبات اللازمة لإقرار وقف إطلاق نار. وأميل إلى الاعتقاد أنه في ظل هذا الوضع الشديد التعقيد والغموض، فإن المسار الأفضل أمامنا يكمن في محاولة كسب الوقت لفترة أطول عبر كبح ميل السوريين والإسرائيليين إلى اللجوء لإجراءات متطرفة.



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.