داعش ينشّط خلاياه في وادي النيل

رصد تدفق مالي لتمويل عمليات خارج «المثلث الساخن» بشبه جزيرة بسيناء

رجل أمن مصري يعاين آثار الدمار الذي خلفه تفجير طال كنيسة للأقباط الارثودوكس بالقاهرة في ديسمبر الماضي (أ ف ب)
رجل أمن مصري يعاين آثار الدمار الذي خلفه تفجير طال كنيسة للأقباط الارثودوكس بالقاهرة في ديسمبر الماضي (أ ف ب)
TT

داعش ينشّط خلاياه في وادي النيل

رجل أمن مصري يعاين آثار الدمار الذي خلفه تفجير طال كنيسة للأقباط الارثودوكس بالقاهرة في ديسمبر الماضي (أ ف ب)
رجل أمن مصري يعاين آثار الدمار الذي خلفه تفجير طال كنيسة للأقباط الارثودوكس بالقاهرة في ديسمبر الماضي (أ ف ب)

حذّر خبراء مصريون من أن تنظيم داعش الإرهابي ينشّط خلاياه في وادي النيل بمصر بعيدا عن «المثلث الساخن» في شبه جزيرة سيناء، الذي يشهد عمليات عنيفة للتنظيم ضد الجيش والشرطة منذ 3 سنوات. وتزامنت هذه التحذيرات مع صدور دراسة مصرية تحدثت عن رصد تدفق مالي كبير أخيرًا لتمويل عمليات إرهابية في مصر، وهو الأمر الذي تقول: إنه كان له عظيم الأثر في عودة التيارات التكفيرية للساحة من جديد. ويأتي هذا وسط إجراءات كبيرة تقوم بها السلطات المصرية لضبط أي عناصر لـ«داعش» في المحافظات قبل تنفيذ أي عمليات أو تجنيد أتباع جدد.
رصد مراقبون مصريون مضاعفة تنظيم داعش الإرهابي المتطرف هجماته في العاصمة المصرية القاهرة وما حولها خلال عام 2016 مقارنة بعام 2015، الذي شهد تركيزا شبه حصري على شبه جزيرة سيناء. ورأوا أن هذا يُنذر بأن التنظيم يسعى لتوسيع نطاق إرهابه بعيدًا عن سيناء، حيث يشن عمليات يومية ضد الجيش والشرطة منذ 2013.
وكالة الأنباء «حق» التابعة لـ«داعش» نشرت عناوين 5 آلاف ضابط شرطة في مصر بعيدا عن سيناء، بجانب أنواع وألوان سياراتهم، وعناوين الكثير من ممتلكاتهم، مذيلة بعبارة: «سنستفيد من هذه العناوين في القريب العاجل إن شاء الله». كذلك نشر التنظيم على نظام للرسائل الفورية المشفرة يستخدمه في الاتصال بأتباعه، صورًا وعناوين لضباط في الجيش والشرطة. ودعا عناصره إلى ملاحقتهم وقتلهم تحت عبارة «مطلوب للدولة»، وقال محللون إن «هؤلاء الضباط لا يخدمون في محافظة شمال سيناء التي ينشط فيها التنظيم والتي تتاخم إسرائيل وغزة، إنما يخدمون في أنحاء أخرى من البلاد في الوادي والدلتا».
ويذكر أن «داعش» أعلن مسؤوليته عن أكبر وأخطر عملية إرهابية خارج سيناء استهدفت الكنيسة البطرسية، الملحقة بكاتدرائية الأقباط الأرثوذكس في ضاحية العباسية بالقاهرة خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وأوقعت العملية 28 قتيلا وأحدثت دويًا دوليًا وعربيًا ومصريًا كبيرًا. ويرى المتابعون أن «استهداف الكنيسة البطرسية يؤكد مد التنظيم لعملياته إلى أنحاء أخرى من البلاد، وبخاصة العاصمة القاهرة».

العودة إلى التكفير
من ناحية ثانية، تحدثت دراسة مصرية حديثة التي أعدتها دار الإفتاء المصريةن عن أن مصر شهدت في الفترة الماضية تدفقا تمويليا للجماعات الإرهابية بصورة كبيرة، ما كان له عظيم الأثر في عودة التيارات التكفيرية إلى الساحة من جديد أشد صلابة وقوة عن ذي قبل. بل إن بعض التيارات التي كانت في وقت سابق قد أعلنت أنها نبذت العنف مثل تنظيم «الجهاد»، و«الجماعة الإسلامية» وغيرها، وأنها تفرغت للعمل الدعوي؛ استأنفت العنف، وأصبح لديها معسكراتها التي تدرب فيها أعضاءها على أعمال القتال. وعادت من جديد لغة التكفير تطغى على خطابها، سواء كان موجها لأعضائها أو كان موجها للآخر.. وبعض عناصر هذه التيارات بايعوا «داعش» ويسيرون على نهج التنظيم في القتل والعنف. ووفق الدراسة، استطاعت مصر تجفيف منابع التطرف والإرهاب في السابق من خلال القضاء على جذور رؤوس التيارات المتطرفة من ناحية. ومن ناحية أخرى من خلال المراجعات الفكرية التي تمت داخل السجون المصرية خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي، التي استمرت لمدة 15 عاما انتهت بمبادرة وقف العنف في عام 1997. وبالتالي، شهدت بداية الألفية الجديدة هدوءا نسبيا على الساحة واختفاء لغة التكفير، حتى ولو بشكل ظاهري، بجانب رغبة جماعات ما يسمى الإسلام السياسي في الانخراط في الحياة السياسية والبرلمانية. إلا أن هذا الهدوء وهذا التحول لم يلبسا أن تبخرا في عام 2013 (عقب الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين والرئيس المعزول محمد مرسي) وعاد الخطاب التكفيري أشد ضراوة ومصحوبا بالقتال والاصطدام مع الدولة من جديد، وتبنت معظم هذه العمليات «داعش مصر». من جهته، قال الخبير الأمني والاستراتيجي المصري، العميد السيد عبد المحسن: إن «عمليات (داعش) في الدلتا تعتمد على مجموعات صغيرة من العناصر تنشط في سرية تامة، وتتصل ببعضها بعضا عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) و(تويتر) لتنفيذ أي عملية إرهابية جديدة، بعد ذلك يعلن التنظيم الرئيسي- أي (داعش)- مسؤوليته عن العملية». مضيفًا أن «(داعش) يعتمد في ذلك على استراتيجية (الذئاب المنفردة) ويمارس جذب وتجنيد عناصر (الذئاب المنفردة) من خلال شبكة الإنترنت. ويجري من خلال الإنترنت التعرف إلى استراتيجيات التنظيم والأهداف التي يضعها بهدف شن هجمات إرهابية. ولفت إلى أن توافر وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت يكمل مهمة تدريب أفراد (الذئاب المنفردة) من خلال توفير الإرشادات اللازمة لصناعة القنابل اليدوية الناسفة واستخدام السلاح وغيره من التدريبات العسكرية التي تحول هؤلاء الأشخاص لمنفذين ماهرين».

نجاح «داعش»... اقتصاديًا
عودة إلى دراسة دار الإفتاء المصرية، فإنها تشير إلى أن اقتصاد «داعش» هو أحد أهم أسباب بقائه إلى الآن على الساحتين العربية والدولية، رغم الضربات الشديدة التي توجه له عبر الكثير من الأنظمة في الدول والتحالفات، لافتة إلى أن «هذا الاقتصاد أصبح جزءا من الاقتصاد العالمي». وزعمت مجلة «أعماق» الشهرية التي يصدرها التنظيم في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أن عدد العمليات الانتحارية التي قام بها عناصر من التنظيم تراوحت بين 50 و60 عملية شهريا حتى نوفمبر عام 2015؛ لكنها ارتفعت في الشهور التالية، ووصلت إلى ما بين 80 و100 عملية شهريا، بمعدل عمليتين أو ثلاث يوميا.. وهو ما يكلف التنظيم أموالا كثيرة. وحسب الدراسة، فإن «تكلفة اليوم الواحد لـ(داعش) للقيام بعمليات إرهابية على الدول، تصل إلى ما يقرب من 15 مليون دولار». وهنا، يوضح متابعون مطلعون أن «اقتصاد الإرهاب يمنح الجماعات المتطرفة الحياة والبقاء أمام الضربات المتتالية التي تُمنى بها من الدول والأنظمة»... و«هذا الاقتصاد الكبير يقدم تفسيرا لكثرة العمليات الإرهابية المتتالية التي تشهدها مصر وغيرها من الدول التي تواجه الإرهاب». كذلك، كشفت الدراسة عن أن «اقتصاد (داعش) ليس اقتصادا عشوائيا كما يظن البعض، أو قائم على الجباية وتحصيل أموال الزكاة أو الجزية من المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، بجانب تجارة الآثار والمخدرات؛ بل على العكس. فـ(داعش) مثلا يعلم جيدا أنه يحتاج إلى نفقات كبيرة جدا لكي يواصل حروبه ضد الدول التي يتواجد بها، وأن ما يجنيه من المصادر السابقة (أي الجزية والزكاة والتهريب) ليس بمقدورها وحدها أن تضمن له البقاء فترة طويلة. وبالتالي، فهو يبحث دائما عن مصادر دخل أخرى تضمن له البقاء، وتعود عليه بالأموال التي تعينه على الحرب؛ لأن تكلفة الحرب كبيرة للغاية».

غسل الأموال
وتحدثت الدراسة المصرية عن أن «التنظيمات الإرهابية التي منها (داعش) تعتمد في اقتصادها على رجال أعمال وشركات تجارية بجانب جماعات فاسدة في بعض الدول لتخفي اقتصادها المشبوه خلفهم، في عمليات غسل للأموال؛ وذلك لأمرين، أولهما: 1 - استثمار هذه الأموال وضمان زيادتها بالصورة التي تغطي كلفة الحرب. و2 - إخفاء هذا الاقتصاد من خلال تغلغله عبر شبكات كثيرة في الاقتصاد العالمي بشكل يجعل عملية الكشف عنه في غاية الصعوبة.
ومن ثم أشارت إلى أن نمو اقتصاديات الجماعات المتطرفة يعتمد على ضعف وإنهاك اقتصاد الدول التي تحارب الإرهاب؛ لأنه يعتمد بالأساس على إنهاك هذه الدول من خلال رفع فاتورة الحرب ضدها، بتلونه ومواصلة ضرباته وعملياته ضد الدول، وضرب مصادر الدخل القومي من جهة أخرى كالسياحة والبترول وما شابه ذلك من مصادر دخل أساسية للدول. ثم أوضحت أن وجهة النظر تلك تؤكد ضخامة حجم اقتصاد التنظيمات المتطرفة، وهذا ما يعطيها قبلة الحياة، أو يضمن لها سريان الدم في عروقها طيلة الوقت. ومن شأن هذا تصعيب فرص القضاء على هذه التنظيمات الإرهابية أمام الدول التي تحاربها مثل مصر وغيرها؛ لأنها ما إن تقضي على نقطة إرهابية في مكان إلا ويظهر تنظيم في مكان آخر بكامل عتاده وعدته وفي وقت قصير للغاية.

بيانات الداخلية المصرية
وبما يخص مصر بالذات، تحدثت وزارة الداخلية المصرية عن ضبط أكثر من خلية تنتمي إلى «داعش» وبحوزة أفرادها أوراق مالية ومخططات للقيام بعمليات تخريبية. ويقول بعض المحللين الأمنيين إنه مع فقدان «داعش» معاقله في سوريا والعراق وليبيا.. من المنطقي أن يتحول اهتمامه صوب مصر، أكبر الدول العربية سكانا.
ويؤكد خبراء أمنيون، أن «داعش» يحاول خلط الأوراق في مصر بالضرب في الوادي والدلتا، في محاولة لإرباك الأجهزة اﻷمنية لصعوبة تعقب عناصره، تحديدا تلك التي تعمل في إطار محافظتي القاهرة والجيزة. وبالفعل، أعلن التنظيم في هذا الصدد، وجود مجموعة عاملة في محيط القاهرة والجيزة.. وبلغ عدد العمليات التي نفذها ما يقرب من 11 عملية مسلحة في القاهرة وحدها. وهنا علّق العميد السيد عبد المحسن قائلاً إن تعمد «داعش» تشكيل خلايا له في الوادي والدلتا، جاء نتيجة التشديدات اﻷمنية في سيناء؛ لذلك هناك حاجة للتنظيم إلى تعديل استراتيجيته في اختيار اﻷهداف. مضيفًا أن عناصر «داعش سيناء» تمد الخلايا العاملة في الوادي والدلتا بالدعم المادي واللوجيستي وتدريب المقاتلين والإمداد بالسلاح والمتفجرات.
وحقًا، تشدد الأجهزة الأمنية من إجراءاتها لكل من يخرج من سيناء في اتجاه الوادي والدلتا، وقالت مصادر أمنية إن «هذه الإجراءات لمنع تسلل شباب ينضمون إلى المسلحين في سيناء أو عودة بعضهم للوادي والدلتا بعد تلقي تدريبات لتنفيذ عمليات إرهابية»، لافتة إلى أنه «يجري الكشف عن هوية أي شخص قبل أن يدخل القاهرة أو أي محافظة من سيناء». ولكن تشير المصادر إلى أنه رغم ذلك تتسلل عناصر للوادي والدلتا؛ نظرا لوجود ممرات وطرق جبلية وصحراوية، يستغلها التنظيم في الخروج والدخول إلى سيناء، بعيدا عن أعين الأجهزة المعنية التي تهتم بمكافحة الإرهاب.
ومن ثم، يركز متابعون مطلعون على «ضرورة زيادة النشاط الاستخباراتي للأجهزة الأمنية وجمع المعلومات بالتعاون مع أهالي سيناء، لرصد تحركات وخبايا التنظيم المسلح؛ وذلك من أجل إحكام السيطرة على منافذ الأموال والسلاح إليه، وتسلل عناصره من وإلى سيناء». كذلك يطالب خبراء بمراقبة تحركات كل خلايا «داعش» المحتملة في القاهرة والجيزة والقضاء عليها تماما في أقرب وقت؛ وإلا فإن موجة تفجيرات متوقعة ستشهدها الكثير من المحافظات المصرية في المستقبل القريب.

محاكمات المتهمين الدواعش
في سياق متصل، حددت هيئة القضاء العسكري المصري جلسة 14 فبراير (شباط) المقبل لأولى جلسات محاكمة 176 متهما في قضية «ولاية سيناء»، أو «داعش مصر»، أمام المحكمة العسكرية، بتهم الانضمام إلى جماعة أسست خلافا لأحكام القانون والدستور، الغرض منها تعطيل مؤسسات الدولة، ومنعها من ممارسة عملها، والتخابر مع تنظيم أجنبي يقع مقره خارج مصر.
وقالت أوراق القضية، إن «المتهمين اعتنقوا فكر (داعش) من خلال عدد من الكتب التكفيرية، على رأسها (مسائل في فكر الجهاد) لأبي عمر المهاجر، الذي يروج لأفكار الحرق والذبح، وكتاب (إدارة التوحش) لأبي بكر ناجي، الذي يوضح فيه كيفية استغلال فترة الفوضى التي من الممكن أن تحدث في بلاد الإسلام من أجل الوصول للحكم».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.