«الخروج من الصحراء»... أبعد من سيرة ذاتية

يمكن قراءة كتاب علي النعيمي بوصفه دليلاً لإدارة الشركات الكبيرة

غلاف الكتاب - حقل شيبة في الربع الخالي واحد من أكبر المشروعات في العالم
غلاف الكتاب - حقل شيبة في الربع الخالي واحد من أكبر المشروعات في العالم
TT

«الخروج من الصحراء»... أبعد من سيرة ذاتية

غلاف الكتاب - حقل شيبة في الربع الخالي واحد من أكبر المشروعات في العالم
غلاف الكتاب - حقل شيبة في الربع الخالي واحد من أكبر المشروعات في العالم

عند بحثك عن كتاب علي النعيمي في مكتبات بيع الكتب في نيويورك ولندن، فإنك لن تجده تحت تصنيف السير الذاتية. فلسبب ما، يُعرض الكتاب في قسم «التفكير الرائد». ومع قراءة كتاب «الخروج من الصحراء» تخلص إلى أن وجوده تحت هذا التصنيف تحديدا لم يأت خبط عشواء.
كتاب النعيمي الأخير هو أكثر من كونه مجرد سيرة ذاتية للمسؤول الحكومي الكبير السابق الذي شغل منصب رفيع المستوى. إنه إطلالة سريعة وموجزة على صناعة النفط السعودية منذ أيامها الأولى في عقد الثلاثينات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا، كما يعرض الكتاب ما يمكنه اعتباره النظرة المتفحصة الأولى على عمليات صناعة القرار في المملكة العربية السعودية ذات السمعة الكبيرة من الغموض والتعتيم الإعلامي.
وهذا ليس كل شيء. يمكن أيضا قراءة كتاب النعيمي بوصفه دليلا لإدارة الشركات الكبيرة على غرار شركة «أرامكو السعودية»، التي استقبلته عاملا بسيطا، ثم ارتقى من خلالها ليشغل أعلى المناصب قبل أن يُسمى وزيرا للنفط والثروة المعدنية في المملكة العربية السعودية، وهو المنصب الذي تركه بعدما يقرب من 21 عاما من الخدمة.
وما يضيف إلى زخم الكتاب الرائع، مما يعتبر من قبيل المزاح، اللاذع في بعض الأحيان، هي لقطات الرسم الحرة لشخصيات كبيرة ومؤثرة في صناعة النفط العالمية، ورؤساء مجالس الإدارات، ووزراء النفط الكبار في أكثر من عشرين دولة حول العالم. ومن المعروف، أن السير الذاتية التي يخطها كبار المسؤولين تأتي في غالب الأمر في صورة نمطية أو «صيغية» معلومة؛ إذ حيث تبدأ بذكر الوصول الأول للمسؤول إلى المنصب، ثم تورد بالتفصيل الجهود الهائلة المبذولة من جانب الكاتب، بعد توليه المنصب، في صياغة الأوضاع المثالية، التي غالبا ما تتحول إلى حالة من الفوضى المأساوية بعد رحيله! ومن المفاجآت السارة أن كتاب النعيمي هذا هو أبعد ما يكون عن اتباع خطوات هذه الصيغة العقيم.
فهو لم يحاول فقط النأي بنفسه عن ذكر أسلافه بعبارات تهضم إنجازاتهم، بل إنه يذكرهم ويشيد بخدماتهم الجليلة التي قدموها إلى المملكة. ولا يعني ذلك أنه يحاول عزلهم أو حمايتهم من الانتقادات، ولكنه يبغي العدل والإنصاف من ذكر ملاحظاته المهمة، كما كان كذلك تماما في مجالات أخرى كثيرة من حياته المهنية الطويلة.
في الفصل المخصص للمناقشات الكبرى، التي غالبا ما تكون وراء الكواليس، ومع كبار الشخصيات داخل المملكة، حول ما إذا كان ينبغي أم لا السماح للشركات النفطية الأميركية العملاقة استعادة السيطرة على موارد المملكة ولكن بطريقة جديدة، كان النعيمي، الذي عارض خططا كهذه، أمينا كل الأمانة في تنقيح وتوضيح حجج المخالفين معه في الرأي والرؤية.
ونعرف من هذا الفصل أن آليات صناعة القرار السياسي في المملكة العربية السعودية مبنية على أسس أعمق مما يعتقد، وإن من السذاجة أن نتصور بأن جيلين على الأقل من التكنوقراطيين ذوي التعليم العالي ليسوا سوى مجرد أختام على ورق.
يصر النعيمي، الذي تخرج في جامعات الأميركية عدة، على أن «فهم الولايات المتحدة الأميركية هو مهارة حيوية» لصناع القرار السياسي السعودي. ومع ذلك، فإنه يعتقد أيضا أنه من غير الحكمة وضع البيض كافة في سلة وحيدة. ولهذا السبب؛ كان في مقدمة حملة تدعو إلى تنويع شركاء المملكة من مختلف الدول الأخرى، ممثلة في الشركات الفرنسية، والهولندية، والإيطالية، والصينية، والروسية، والإسبانية، والكورية الجنوبية، واليابانية، من بين شركات أخرى.
وكان الجدل الدائر حول عودة الشركات الأميركية ليس المشهد الوحيد الذي سلط الضوء على واقع كهذا. فلقد نشب صراع آخر بشأن محاولات من جانب مجموعة «بترومين»، التي تملكها الدولة، للاستحواذ على شركة «أرامكو السعودية» التي عملت دائما لاعبا مستقلا وفق قواعد العمل في القطاع الخاص، وليس حسب اللوائح التي تمليها الدولة.
ولكن، ربما، أن الفصل الأكثر دراماتيكية يتعلق فعليا بتطوير حقل شيبة النفطي في منطقة الربع الخالي، الذي أراد البعض في الحكومة تنحيته جانبا؛ نظرا لتدني أسعار النفط في الأسواق العالمية في ذلك الوقت. وفي حين كان النعيمي ينظر إلى حقل شيبة باعتباره مصدرا من مصادر الإلهام والفخر، فإن اقتصاديين في الحكومة اعتبروا المشروع العملاق، الذي سيكلف عشرات البلايين من الدولارات مليارات الدولارات ليس إلا مجرد مضيعة للجهد والنقود.
وعلى أي حال، بقى النعيمي في كل مرحلة من مراحل حياته متشبثا بمساره، متقدمًا بتأن ولكن بثبات، تماما مثل الجمال التي رآها في طفولته في الصحراء. لقد أشاد كل من الملك فهد بن عبد العزيز والملك عبد الله بن عبد العزيز بأمانة وصدق وتصميم الصبي القادم من الصحراء. ولقد خاطبه الملك عبد الله، رحمه الله، ذات مرة قائلا: «يا علي! لا تخشَ من أي أمير! اخش الله وحده».
يوفر كتاب «الخروج من الصحراء» لمؤلفه النعيمي، نظرة متفحصة رائعة على عالم النفط، العالم الذي لا يحترم إلا حقيقة واحدة مؤكدة، ألا وهي عدم اليقين. وفي هذا السياق، يجد قادة الدول المصدرة للنفط، في أغلب الأحيان أنفسهم، في رحلة عجيبة ومرهقة من البُسُط إلى الغنى، ثم إلى البُسُط مرة أخرى. في عام 1983 كانت المملكة العربية السعودية تنتج فقط مليوني برميل من النفط يوميا. وقبل عامين من ذلك، صدرت المملكة 10.5 مليون برميل في اليوم. وفي عام 1981 تجاوزت عائدات النفط في المملكة 110 مليارات دولار. وبعد ذلك بثلاث سنوات، تراجع المبلغ المذكور وصولا إلى 26 مليار دولار فقط. على مدى عشرين عاما، حامت أسعار النفط متأرجحة بين الحد الأدنى عند 3.2 دولار للبرميل وبين الحد الأقصى عند 150 دولارا للبرميل تقريبا، وهي لعبة تأرجح مرهقة تصيب أقدر المخططين الاقتصاديين بالصداع والدوار.
وبسبب احتياطها النفطي، الذي هو بلا نهاية تقريبا، ظلت المملكة دائما معنية أكثر بالحفاظ على، إن لم يكن زيادة، حصتها في السوق بدلا من المكوث تحت رحمة التقلبات السعرية التي لا ترحم.
في عهد تولي اليماني وزارة البترول السعودية، اعتبرت المملكة العربية السعودية نفسها «المنتج المرجح» في منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)؛ مما يعني الاضطرار إلى زيادة «خفض» الإنتاج للاتساق مع تقلبات السعار العالمية. ولقد مكّن ذلك الكثير من الدول الأعضاء في المنظمة، ناهيكم عن ذكر الدول غير الأعضاء فيها، مثل روسيا والمكسيك، من اعتماد استراتيجية إنتاج انتهازية بشكل علني.
واستغرق الأمر من المملكة أكثر من عقد كامل لتعزيز بعض من تدابير التنسيق بين الدول المنتجة من داخل وخارج منظمة «أوبك»، ولكن حتى ذلك الحين من دون نجاح كبير يذكر. قطاع النفط يبقى عاملا خطرا يمكن فيه حتى لأفضل أصدقائك أن يحمل سكينا خلف ظهره لاستعمالها ضدك.
كثيرون توقعوا نهاية النفط،، ومنهم أحد أسلاف النعيمي، وهو أحمد زكي يماني، وكذلك مجلس حكماء أوروبا في نادي روما في عام 1971، لكن النفط لا يزال موجودا ومتدفقا، وأكثر من ذلك، إذا صدقنا النعيمي، فمن الأرجح أن يحتل نصيب الأسد من أسواق الطاقة العالمية لعقود مقبلة عدة على أقل تقدير.
ومن المثير للاهتمام، أنه عبر الخمسين عاما المنقضية صارت الدول المستوردة للنفط أكثر ثراء بكثير من الدول المصدرة له. وفي حالات عدة، واجهت بعض الدول المصدرة للنفط الإفلاس المالي، أو اهتزت أسسها الراسخة بسبب الثورات، والفتن الداخلية، وربما الحروب. لكن المملكة العربية السعودية، وهي من أكبر الدول الأعضاء في منظمة «أوبك»، تمكنت وحدها تقريبا من حيث المحافظة على أمنها واستقرارها في الوقت الذي تسعى حثيثا لمواصلة جهود تحديث الاقتصاد والمجتمع على حد سواء.
وحقيقة أن النعيمي قد قلل، عامدا، من حسه الفكاهي، تضيف متعة إلى متعة قراءة مذكراته، حتى لو كانت سردا لحياة شديدة التنوع والتعدد بشكل استثنائي. إنك تراه في رحلة لقتل ذئب يسعى لالتهام الحملان الصغيرة التي من المفروض أن يحميها. وتنتهي حفلة الصيد بأكل فتات من لحم الذئب، ولم يتم إخبارنا إذا كانت مطهية أم لا.
وفي مشهد من المشاهد، نرى قطب قطاع الشحن اليوناني محاولا عرض رشوة سخية على النعيمي من خلال شراء مليوني برميل من النفط بسعر منخفض؛ ظنا منه أنه يجول بأمواله في متجر «ألف ليلة وليلة» للتحف الشرقية.
وماذا لو قد قيل للنعيمي إن المملكة تستورد الرمال، أجل الرمال، وبسعر مغر للغاية من ولاية وايومينغ الأميركية. من المتصور أن ينفد النفط لدى المملكة العربية السعودية في يوم من الأيام، ولكن من غير المتصور قط أن ينفد مخزون الرمال الهائل لديها في أي يوم.
كنت أتناول الإفطار ذات يوم مع علي النعيمي في العاصمة اليابانية طوكيو، وقدموا لنا فاكهة البرسيمون، وكانت نوعا من الفاكهة لم يعرفه الوزير السعودي من قبل. ولأننا دائما ما نجد تلك الفاكهة في طهران، عرضت عليه المساعدة في محاولة تقشيرها بنفسي. فقال، متلطفا معي في الحديث، إنه يفضل أن يحاول تقشيرها بنفسه. وفي وقت وجيز، رأيته وهو يدرس الفاكهة جيدا، ويقشرها ويقطعها إلى شرائح متساوية كما لو كان خبيرا في الطهي ومنذ زمن بعيد. لقد كان من أحسن الطهاة الذين قابلتهم في حياتي.

«الخروج من الصحراء: رحلتي من البادية إلى قلب صناعة النفط العالمية»
تأليف: علي النعيمي
320 صفحة – 27 دولارًا
مطبعة دار بنغوين



المشهد الثقافي المصري: أنشطة متنوعة تحتاج للمراجعة

افتتاح مهرجان الشعر العربي في الأقصر
افتتاح مهرجان الشعر العربي في الأقصر
TT

المشهد الثقافي المصري: أنشطة متنوعة تحتاج للمراجعة

افتتاح مهرجان الشعر العربي في الأقصر
افتتاح مهرجان الشعر العربي في الأقصر

هل تحتاج الثقافة المصرية إلى مراجعة ذاتها؟.. سؤال ملح يزداد ضرورةً وأهميةً في كون الذات هنا جماعية وعليها أن تضع تصوراً للهوية الثقافية، يستدعي وعياً مغايراً في التفكير وتجدداً في الرؤية يحافظ على ثقلها، ويدفعها إلى مستقبل أفضل من خلال العلاقة الخصبة بواقعها الاجتماعي والسياسي والثقافي. من هذا المنظور يمكن أن نرصد عطاء المشهد الثقافي المصري خلال عام 2024.

بوتيرة بدت أكثر تلاحقاً وتكثيفاً راكم هذا المشهد أنشطته، وكان لافتاً اتساع رقعة هذا النشاط في عدد من المدن والأقاليم في محاولة لكسر هيمنة العاصمة، أو على الأقل إقامة علاقة بناءة وفاعلة ما بين المركر والأطراف. فالعاصمة تستحوذ على الكم الأكبر من هذه الأنشطة بحكم موقعها الرسمي، ووجود الأجهزة والمؤسسات الثقافية بها، على رأسها وزارة الثقافة التي يرى كثير من الكتاب والمثقفين أنها لا تزال بعيدة بقطاعاتها المتنوعة عن همومهم الحقيقية، وأن نشاطها ينحصر -غالباً- في الحضور الشكلي، وهو حضور نمطي لا يعنى بالحوار والمشاركة الفعالة لشتى أطياف الفعل الثقافي. يضاف إلى ذلك أن العاصمة تتمتع بالنصيب الأكبر من الملتقيات والندوات الأدبية، لكن معظمها يفتقد الدور المؤثر، ويندرج تحت سياسة ملء فراغ المشهد.

وفي المقابل وبعيداً عن هذا الإطار تواصل ندوة «منتدى المستقبل»، التي تعقد كل ثلاثاء بحزب التجمع، انفتاحها على تجارب وأشكال الكتابة الجديدة، بخاصة في الرواية والشعر والقصة القصيرة... وعلى الهامش تتناثر ندوات وأمسيات أدبية أخرى تشهدها بعض المقاهي والصالونات الخاصة، لكنها تظل أنشطة عابرة، يغلب عليها طابع المناسبة والتسلية، ولا تؤصل لقيمة أو معنى أدبي يعتد به.

سمية رمضان

من الأنشطة المهمة خارج العاصمة تأتي الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي أقامه بيت الشعر بمدينة الأقصر جنوب مصر، بالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة. استمر المهرجان أربعة من 18 إلى21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وشارك فيه نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين.

كان لافتاً حرص المهرجان على تقديم مجموعة من المواهب الشعرية الشابة من الشاعرات والشعراء وإعطائهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، كما احتفى بهم في أمسية خاصة شهدت توقيع 6 دواوين شعرية جديدة صدرت لهم، كشفت عن موهبة خاصة وهم حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير «بيت الشعر» بالأقصر الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية «بيت الشعر»، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

وشهد المهرجات جلسة نقدية موسعة تحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، شكلت مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور.

وفي القاهرة كان من أبرز الأنشطة مؤتمر قصيدة النثر المصرية في دورته الثامنة التي استضافتها مؤسسة «صحيفة الدستور». شهدت هذه الدورة على مدى ثلاثة أيام مشاركة واسعة لأسماء عديدة من مختلف المشارب والأجيال الشعرية والأدبية؛ وسط تنوع لافت في الفعاليات ما بين الجلسات النقدية والمداخلات النقاشية، والاحتفاء برموز مؤثرة في سياق مغامرة قصيدة النثر وترسيخ وجودها ودورها الإبداعي الذي يتعمق يوماً بعد آخر، فضلاً عن قراءات شعرية متنوعة لمجموعة كبيرة من الشعراء والشاعرات في تظاهرة فنية لافتة حررت المشهد الشعري المصري من الرتابة والتكرار وأكسبته حيوية مفتقدة، كما أتاحت الفرصة أمام أصوات مختلفة للتعبير عن نفسها.

وتعليقاً على حصاد تلك الدورة من المؤتمر، قال رئيسه ومنسقه الشاعر عادل جلال: «إن هدف المؤتمر الرئيسي لا يزال مستمراً في كسر مركزية وهيمنة مجموعة محددة على المشهد الشعري عموماً، وقصيدة الشعر الحر في مصر. كما أن من أهدافه كذلك إتاحة الفرصة لأصوات جديدة من الشعراء للتعبير عن أنفسهم دون وصاية، وتسليط ضوء قوي على مواهب جديدة»، لافتاً إلى أن الخروج من القاهرة والانفتاح على بقية المدن والأقاليم لا يزال هدفاً مشروعاً، لكنه يحتاج إلى دعم كبير وتمويل سخي، وهو ما لا يتوفر حتى الآن.

سعد الدين حسن

وعلى صعيد الإصدارات الجديدة، كان من أبرز حفلات التوقيع حضوراً ونقاشاً حفل توقيع كتاب «مصر يا عبلة - سنوات التكوين» بمكتبة القاهرة الكبرى، الصادر عن «دار الشروق»، وهو سيرة ذاتية يكشف فيها الفنان التشكيلي محمد عبلة عن خريطة متعددة الأبعاد والملامح للواقع المصري في فترة حرجة من السبعينيات شهدت كثيراً من التحولات المفاجئة على شتى المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، من أبرزها توغل الجماعات الإسلامية المتطرفة في نسيج الحياة، ملقيةً بظلالها الكئيبة على المعنى والقيمة للفن والجمال ودورهما في بناء المجتمع... بالتوازي مع هذه التحولات يحفر عبلة سيرة خاصة للحياة والتشبث بإرادة الأمل في مواجهة الصعاب الجمَّة التي واجهها من أجل بلورة حلمه وتحقيقه بصورة فنية راقية على أرض الواقع.

ويأتي حفل التوقيع الثاني لكتاب «رحم العالم... أمومة عابرة للحدود» للكاتبة والناقدة شيرين أبو النجا الصادر عن مكتبة «تنمية». أقيم الحفل بمبنى «قنصلية» وشارك في مناقشة الكتاب الروائي محمد عبد النبي والشاعرة سارة عابدين، وأدارته الكاتبة سحر الموجي مؤكدة في بداية اللقاء تأثرها الشخصي بالكتاب واستمتاعها بقراءته، لأنه يطرح أسئلة مهمة، على رأسها السؤال البحثي، والمنهجية التي يتبعها في خلخلة مقدسات لها علاقة بتصورات الأمومة، كما أن المنهج النظري به قدر من التحدي لنظريات قائمة وراسخة.

وفي سياق الصحافة الأدبية شكلت مجلة «حرف» الإلكترونية التي تصدر عن «صحيفة الدستور» عودة للصحافة الثقافية الجادة، والكشف عن المهمش والمسكوت عنه في طوايا الواقع الثقافي، وطرح أفكار ورؤى على طاولة الحوار تمس هذا الواقع بعمق. المجلة يقود هيئة تحريرها الشاعر والكاتب الصحافي عبد الوهاب داود.

وعلى المستوى الفني استحوذ الفن التشكيلي على المساحة الأكبر في خريطة هذا المشهد، من حيث تعدد قاعات العرض الرسمية والخاصة، بالإضافة إلى الصالونات والمعارض الفردية العامة التي تقام بشكل ثابت سنوياً، ومنها المعرض العام، وصالون الشباب. وكان لافتاً المعرض الاستيعادي للفنان الراحل مصطفى الفقي الذي افتتحه أخيراً بقاعة «أفق» الدكتور أحمد هنو وزير الثقافة. ويضم مجموعة مميزة من أعمال الفنان الراحل، تجسد مسيرته الفنية الطويلة، وإسهامه البارزة في الفن التشكيلي ‏المصري. كما أعلن رئيس قطاع الفنون التشكيلية، وليد قانوش، عن عودة «ترينالي مصر الدولي للجرافيك»، في دورته السادسة بعد انقطاع دام لمدة 18 عاماً، في أبريل (تشرين الثاني) 2025. لكن يظل السؤال حائراً عن عدم عودة اثنين من أهم ركائز الحركة التشكيلة في مصر، هما بينالي القاهرة الدولي الذي استعاد عافيته عبر دورته الثالثة عشرة في مايو (أيار) 2019 بعد توقف دام 8 سنوات، وبينالي الإسكندرية، وهو البينالي الثاني الأقدم في العالم بعد بينالي فينيسيا، ولم يشهد منذ دورته في 26 يونيو (حزيران) 2014 أي دورة أخرى.

تبقى من الأشياء المشرقة في هذا المشهد إعلان «جائزة إدوارد الخراط للإبداع الأدبي» في دورتها الأولى. وفاز بها الكاتب الشاب أحمد عبد المنعم رمضان عن مجموعته القصصية «قطط تعوي وكلاب تموء» الصادرة عن «دار الشروق»، وتدور في عالم سريالي يتقاسم فيه البشر والحيوانات الأدوار في اللعب مع واقعهم المكاني والمتخيل.

كان للفقد نصيب أيضاً في هذا المشهد برحيل كوكبة من الشعراء والكتاب منهم الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة صاحب ديوان «قلبي وغازلة الثوب الأزرق»، والشاعر محمد الشحات، صاحب ديوان «ترنيمات شاعر قبل الرحيل»، والكاتبة الروائية سمية رمضان صاحبة الرواية الجميلة «أوراق النرجس»، والكاتب سعد الدين حسن صاحب المجموعة القصصية المتميزة «احترس من القاهرة»، والشاعر محمد خميس، صحب ديوان «حروف شاردة»... سلاماً عليهم، عاشوا الحياة بمحبة مخلصة للكتابة وغادروها بمحبة تبقى.