روائيون سوريون: لا يمكن لأي عمل أن يعكس حياة ثورة كاملة

كتابات موضوعية... منحازة... متسرعة؟

الثورة السورية في بدايتها - غلاف «الروائي يقرع طبول الحرب»
الثورة السورية في بدايتها - غلاف «الروائي يقرع طبول الحرب»
TT

روائيون سوريون: لا يمكن لأي عمل أن يعكس حياة ثورة كاملة

الثورة السورية في بدايتها - غلاف «الروائي يقرع طبول الحرب»
الثورة السورية في بدايتها - غلاف «الروائي يقرع طبول الحرب»

قد تأتي الكتابة الإبداعية عن الأحداث الجسيمة متأخرة كثيرًا؛ فقد ينتهي الحدث بسنوات قبل أن يعبر الكاتب عن رأيه الروائي بما حدث، فلم تصدر أعمال روائية، إلا فيما ندر، أثناء أو بعد زمن قصير من الثورات العربية التي وقعت عبر العصور، سواء الداخلية منها مثل ثورة يوليو (تموز) في مصر أو الثورات ضد الاستعمار في أكثر من بلد عربي. أما اليوم، فإن روايات كثيرة صدرت وتصدر والحدث ما يزل طريًا. وساعد على ذلك ثورة أخرى هي ثورة الاتصالات، التي سهلت الوصول إلى الأحداث ونقلها للناس بشتى الوسائل. ولكن هل هذا يخدم العمل الروائي وجودته ومصداقيته، أم يفقده كل ذلك لعدم نضج الحدث والرؤية بعد، وأيضًا ربما غلبة الآيديولوجيا أو الميل السياسي مما قد يفقد العمل قراءته الحقيقية للواقع؟
أسئلة توجهت بها إلى عدد من الروائيين السوريين المنخرطين في الحراك السياسي:
تقول الروائية السورية ابتسام التريسي التي أصدرت عددًا من الروايات عن الثورة:
تجربتي في الكتابة عن الثّورة كانت استكمالا لمشروع روائي بدأته في «جبل السمّاق» حين تناولت الثورة ضدّ المستعمر الفرنسي واستمرّ المشروع في «عين الشّمس» التي تحدّثت فيها عن فترة الثّمانينات، وواكبت الثورة في عامها الأول برواية «مدن اليمام» ثمّ كتبت عن تاريخ الاستبداد للعائلة الحاكمة على لسان معتقل قتل تحت التّعذيب في رواية «لمار» وكانت ثالث رواية «لعنة الكادميوم» تتحدّث عن تحوّل الثورة إلى السّلاح ودخول «داعش» إلى الشّمال ورصدت فيها التّحولات التي حصلت في السّنة الرابعة للثورة.
أمّا عن الشّق الثّاني من السّؤال، فتقول ابتسام التريسي:
أعتقد أنّ الرّواية المواكبة للحدث تكون أكثر مصداقية من رواية ستكتب بعد زمن طويل، لأنّ الكثير من التّفاصيل قد تضيع أو تُنسى أو تهمل عن عمد لأنّ الرؤيا قد اكتملت في أذهان الكتّاب وصار بإمكانهم محاكمة ما جرى واللعب على عنصر التّشويق والتّجميل الرّوائي من خلال اختراع أشياء وحذف أشياء.
وتضيف التريسي:
إنّ الرواية والدراما وأي عمل فني لا يمكنه «الإحاطة» بكلّ التفاصيل والأحداث التي جرت خلال السّنوات السّت الماضية، وإنّ الثّورة السورية تحتاج إلى آلاف الأعمال الرّوائية والفنية لتفيها حقّها... ملايين من السّوريين تعرضوا للقتل والاعتقال والتّهجير والنّزوح الدّاخلي والجوع والحصار والاضطهاد فكيف يمكن للرواية أن تحكي قصة هؤلاء جميعًا! لا يمكنني اعتماد توصيف «الارتقاء» فالرواية ليست في منافسة مع الواقع الثوري بل هي انعكاس لذلك الواقع لكنّها لا تعكسه كما تفعل المرآة لأنّ من يقوم بذلك العمل يتدخل في الصّياغة والتّحليل وقد يتنبأ بما سيأتي.
وحول انحياز الروائي حسب انتماءاته تقول:
قد تلعب الآيديولوجيا دورًا مهمًا في الكتابات الواقعية وخاصة في الكتابة عن تاريخ الثورات... لكن الأعمال التي كتبت عن الثّورة السورية كانت في مجملها مخلصة للحدث أكثر من إخلاصها للفكرة، ربّما لأنّ معظم من كتب عن الثّورة عاش داخلها والبعض ما زال مقيمًا في سوريا مثل الروائي خالد خليفة.
الناقد والروائي عبد الرحمن حلاق يقول:
بداية لا يمكن لأي عمل روائي أن يعكس حياة ثورة كاملة، وأجد من الإجحاف أن نقول إن هذا العمل ارتقى إلى مستوى الحدث وذلك لم يرتق. فثورة كثورة الشعب السوري لن تكفيها آلاف الروايات، لقد أصبح كل مواطن سوري بحد ذاته بطلا لرواية مختلفة، لذلك أرى أنه كلما كثرت الكتابات كلما لملمنا شمل هذه الأحداث الجسيمة لنخرج في نهاية المطاف بتصنيف أدبي خاص بأدب الثورة السورية. وقد تم إنجاز الكثير من الأعمال الروائية المهمة وذات المستوى التقني العالي وكل منها يعكس جانبًا مهمًا من الجوانب المتعددة للثورة السورية. وإذا كانت بعض الروايات قد أخذت منحى تسجيليًا فإن روايات أخرى جاءت سردية تعنى بخطوط درامية وتلاحق الحدث ضمن رؤيا تخيلية وفكرية واضحة. ولا أدعي الاطلاع على عدد كبير من المنجز الروائي وحديثي يقتصر على مجموعة إصدارات تمكنت من الاطلاع عليها على وجه الخصوص؛ أذكر ما كتبته الروائية ابتسام تريسي، والروائي فخر الدين فياض، وأيضًا غسان جباعي، وسمر يزبك، ومها حسن، ومحمد دركوشي، وعبد الله مكسور.
وعن الانحياز حسب التوجهات السياسية لبعض الروائيين، وهل هل هذه الأعمال الروائية جاءت في وقتها المناسب أم كانت مبكرة، يجيب حلاق:
لعل من أهم منجزات الثورة السورية أنها أسقطت فيما أسقطته تلك التوجهات السياسية والأفكار الآيديولوجية التي تعاملت مع هذا الحدث العظيم بنوع من البلاهة وعدم القدرة على التقاط اللحظة التاريخية، وقد أظهر الآيديولوجيون (اليمين واليسار) قصورًا واضحًا في فهم الحدث والتعامل مع اللحظة الثورية فقد اختلفت المعطيات على الأرض عن تصوراتهم التي كونتها الكتب فأحدث ذلك خللا وارتباكًا في تصوراتهم (طبعًا مع استثناءات قليلة جدًا). تبدى ذلك على المستوى الثقافي بوجه عام، أما على الصعيد الروائي فقد نجا الروائيون من هذا المنزلق فالروائي الحقيقي لا يمكن أن يكون منحازًا لتوجه سياسي معين وإلا أصبح مجرد بوق.
أما عن الشق الثاني من السؤال، فيقول:
لا أعتقد أن للرواية وقتًا محددًا تأتي فيه؛ فالروائي يعيش الحدث ويتفاعل معه ثم تأتي همته الخاصة في الكتابة. وأعتقد أن معظم الروايات حاولت أن تواكب الحدث بشكل معقول جدًا، ويبقى المدى مفتوحًا بشكل واسع على كتابات قادمة. إلا أن الثابت دائمًا في مثل هذه الأحوال أن تكون هناك مسافة بين الزمن الحقيقي والزمن الكتابي كي يكون الكاتب أكثر موضوعية وإلمامًا بخفايا الموضوع المتناول.
أما الروائي السوري المقيم في بريطانيا هيثم حسين فيقول:
لم أخض تجربة الكتابة الروائيّة عن الواقع السوري بعد انطلاق الثورة وما تبعها من تداعيات مفجعة، ودخول نفق الحرب التي أعلنها النظام على الشعب، لكنّني حاولت مقاربة واقع الحرب في السنة الأولى من الثورة في كتابي «الروائي يقرع طبول الحرب» حين كنت في ريف دمشق، وكانت الاشتباكات تستعر في المناطق القريبة منّي، وكان النظام قد بدأ مرحلة الانتقام وإحراق البلد بشكل فعليّ. درست في هذا الكتاب تجارب عدد من الروائيين الذين خاضوا غمار الكتابة عن الحروب، أو عانوا من ويلاتها بطريقة ما، أو دوّن بعضهم جانبًا من تجربته في الحرب، وكيف أنّهم لعنوا الحروب ومفتعليها وجاهدوا لإيصال أصواتهم المندّدة بها إلى الآخرين، عساهم يستطيعون لفت الانتباه إلى جزء من الكوارث التي تستطيل وتتكاثر على هوامشها، لكن للأسف لا يكون هناك اعتبار، لا من تجارب الآخرين، ولا من حروبهم، وكأنّ على كلّ شعب أن يعيش حروبه وكوارثه عساه يستقي منها العبر تاليًا، وذلك بعد أن يكون أوان الاعتبار قد فات وطال التدمير كلّ مناحي الحياة، ولغّم المستقبل أيضًا. كتبت في روايتي «إبرة الرعب» عن الفساد الإجرامي الذي كان قد تفشّى، وعن المساعي المتراكمة الدؤوبة لتلويث القيم الإنسانيّة في المجتمع السوري، وقلبه على تاريخه وأخلاقياته وتعميم آليات الانتقام بين أبنائه. وأحاول في روايتي الجديدة التي ستصدر في الفترة القريبة المقبلة مقاربة جانب من التشريد السوري والشتات الذي أصبح صورة عالميّة حاضرة بشكل يوميّ، وكأنّ موتنا اليومي لم يعد مثار اهتمام عالم يدّعي التحضّر والمدنيّة. لا يخفى أنّ الحدث السوري كبير لدرجة تستحيل الإحاطة به من مختلف جوانبه، ويبقى أي عمل يحاول مقاربة جانب منه محكومًا بالنسبيّة والاقتصار على زوايا بعينها، هناك أعمال صدرت اتّسمت بالنضج، حاولت التقيّد بفترة زمنيّة بعينها من عمر الثورة، مع الحفر في التاريخ السوري الحديث، وهناك أعمال أخرى أقلّ نضجًا صدرت في بدايات الثورة وتراكمت بعدها لكنّها ظلّت محكومة بالانفعال والحماسة أكثر من النضج والعمق. أمّا بالنسبة لوقت الكتابة أو إصدار الأعمال، فأعتقد أنّ الوقت دائمًا مناسب للكتابة والنشر، لأنّ الحياة تمضي وتغرقنا كلّ يوم بتفاصيل جديدة، ومع تراكم الأحداث والمواقف يكون انتظار اكتمال الأحداث للكتابة عنها نوعًا من انتظار عدم لا يتحقّق، لأنّ الأحداث ستظلّ متجدّدة متناسلة بطريقة رهيبة، ولا سيما في واقع الحرب وما بعده، حيث سنشهد حروبًا متناثرة وجبهات تشتعل هنا وهناك بين الفترة والأخرى، لذلك فإنّ تمثيل انتظار مجهول يظلّ مثار تخمين يكون نوعًا من عبث حياتي وأدبي لحلم لا غير. ينبغي أن يكتب الروائيّون أعمالهم، ليكتشفوا بعد ذلك ثغرات معينة فيها ويحاولوا تداركها في أعمال لاحقة، وهكذا دواليك تتجدّد الكتابة بتجدّد الحياة نفسها، ويبقى الزمن شاهدًا ومغربلا».



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.