زيغمونت باومان: من «الحداثة الصلبة» إلى الحداثة «السائلة»

تلمّس موضوعات العصر بعين فاحصة وناقدة تشهد عليها تجربته السياسية والفلسفية

زيغمونت - باومان
زيغمونت - باومان
TT

زيغمونت باومان: من «الحداثة الصلبة» إلى الحداثة «السائلة»

زيغمونت - باومان
زيغمونت - باومان

زيغمونت باومان، سوسيولوجي وفيلسوف بولندي. ولد في بوزنان سنة 1925، لأبوين يهوديين اضطرا لمغادرة بولندا بعد الغزو النازي سنة 1939 في اتجاه الاتحاد السوفياتي. واختارا سنة 1953 التوجه إلى إسرائيل. غير أن ذلك لم يَرُق للسوسيولوجي المعادي للصهيونية. ففي مقابلة له عام 2011 مع مجلة «بوليتكا» البولندية، انتقد باومان إسرائيل بقوله إنها لم تكن مهتمة إطلاقا بالسلام، بل كانت تستخدم الهولوكوست كعذر لشرعنة أفعالها المتوحشة، مشبها الجدار الفاصل الذي أقامته في الضفة الغربية، بالجدران التي وضعتها النازية في وارسو (الغيتو)، عندما قتل آلاف اليهود في الهولوكوست.
سبق لزيغمونت أن اشتغل في المخابرات العسكرية البولندية كمدرس في العلوم السياسية. وخلال تلك الفترة (1939 – 1953)، درس السوسيولوجيا في أكاديمية وارسو، على يد كبار السوسيولوجيين البولنديين، أمثال ستينسلو أوسوسكي وجوليان هوتشفيلد. غير أنه سيغادر قسم السوسيولوجيا نحو قسم الفلسفة، بسبب حظر علم الاجتماع في بولندا، لأنه «علم اجتماع بورجوازي». وفي عام 1954، أصبح محاضرا في جامعة وارسو، حيث استقر بها إلى عام 1968، خلال وجوده في قسم الاقتصاد في جامعة لندن. وشغل منذ 1971 كرسي الأستاذية في قسم علم الاجتماع في جامعة ليدز، حيث أصبح، فيما بعد، رئيسا للقسم. ومنذ ذلك الوقت، كانت كتب باومان تنشر باللغة الإنجليزية على وجه الحصر، إلى أن عد منذ العقد التاسع من القرن الماضي، أحد أبرز أوجه حركة مناهضة العولمة النيوليبرالية.
نشر بومان ما يقارب السبعة والخمسين كتابا، ونحو مائة مقال. ونالت أعماله كثيرًا من الجوائز العالمية، من بينها جائزة أميرة استورياس في إسبانيا عام 2010. وهي أعمال تشمل مجالات مختلفة مثل: العولمة، والحداثة، وما بعد الحداثة، والاستهلاك، والنظام الأخلاقي، والبيروقراطية، والعقلانية، والإقصاء الاجتماعي، ومن أهمها: دراسة عن «الحركة الاشتراكية البريطانية» (كتابه الأول الذي نشر بالبولندية سنة 1959 وتم تنقيحه وترجمته إلى الإنجليزية سنة 1972)، «حياة بلا روابط» (2005)، «ثراء الأقلية» (2014). ومن كتبه المترجمة إلى العربية، نجد: «الحداثة السائلة»la modernité liquide (الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2016)، «الحداثة والهولوكوست» (مدارات، 2014)، «الحب السائل: حول هشاشة العلاقات بين الناس» (الشبكة العربية 2016)، «الحرية» (مدبولي 2012)، «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة» (مشروع كلمة 2016). ويمكن تفسير هذا الاهتمام العربي المتأخر بفكر ونصوص ريغمونت، بالحاجة إلى تفكير نقدي يواكب مستجدات العصر والإشكالات التي يطرحها مجتمع الاستهلاك اليوم، بالنظر إلى حدة أطروحته التي يمزج فيها بين مجالات عدة: السوسيولوجيا، الفلسفة، الأدب، الاقتصاد، السياسة.
مر تفكير زيغمونت في مساره الفكري والفلسفي، بأربع مراحل لا تنقطع فيها الواحدة عن الأخرى، بل يمكن النظر إليها كوحدة ناظمة لمجموع أطروحته النقدية، نجملها فيما يلي:
المرحلة الأولى «مرحلة بولندا»، وهي التي كتب فيها كثيرًا من النصوص باللغة البولندية: امتدت إلى ما يقارب العقد من الزمن (1957 - 1968)، حيث تأثرت أعماله بالماركسية الأرثوذوكسية، التي سيتمرد عليها بعد نفيه من بلده الأصلي إلى بريطانيا، بسبب نقده للمجتمع الشيوعي البولوني وللاتحاد السوفياتي.
المرحلة الثانية: (1971 – 1982)، حين درس علم الاجتماع النقدي متأثرًا بجورج سيمل وأنطونيو غرامشي. وفيها اكتشف عوالم الفرد والمجتمع والتنظيمات الاجتماعية، وبلور رؤية المجتمع الصلب الذي ينطبق على طور الرأسمالية الإنتاجية، القائمة على الصناعة والتجارة والتبادل واستغلال الموارد الطبيعية والمواد الأولية.
المرحلة الثالثة: (1987 - 1991)، التي تميزت بنقده الجذري للحداثة، بما هي السبب في كثير من المآسي التي عاشتها البشرية طوال القرن العشرين، حيث تنامى العنف في أشكاله الفظيعة. فأبشع «الجرائم في تاريخ الإنسان لم ينشأ من خرق النظام، بل عن اتباعه بشدة وبلا أخطاء. فلم تكن الهولوكست جريمة ارتكبتها مجموعة من الغوغاء، بل نفذتها مجموعة محترمة ومنظمة ترتدي زيا رسميا، وتتبع القانون، وتتحرى الدقة في تعليماتها» («الحداثة والهولوكوست» ص245). وهو في هذا، يتفق مع حنة آرنت في وصفها للشر السياسي التافه الذي طبع تاريخ الفاشية الألمانية، حيث تنسب المسؤولية للنظام القمعي الذي ارتكب الجرائم، وليس لإيخمان الذي حوكم سنة 1963 بتهمة المسؤول عن جرائم الحرب. كما تميزت هذه المرحلة بأفول دور المثقف. ففي حواره (فبراير/ شباط 2008) مع كاترين بورتفين (ترجمه إلى الفرنسية جيريم دافيس ولورينا جاليوت): «مثلت الثمانينات نهاية مرحلة تاريخية مهمة كان فيها دور المثقفين حاسما، إذ انتهى حلم كبير أسس له فلاسفة الأنوار كحلم يعد بمجتمع مثالي ويضمن السعادة للبشر، مجتمع يحكمه العقل البشري بفضل الإبداع والعمل البشريين. أفلت فكرة المجتمع المثالي تلك مع نهاية الألفية الثانية، حين وضع حد لها عنوة. وهذا ما يسميه بنهاية اليوتوبيات أو الآيديولوجيات المرتبطة بنهاية الدولة - الأمة. ويتجسد ذلك، في نظره، في التناقض الحاصل بين مجال السياسة ومجال السلطة. ففي العالم المعاصر، بعد انهيار الدولة - الأمة، تتجه السلطة نحو الأعلى، نحو عالم ما بعد الدولة - الأمة (المعولم)، في حين تنحدر السياسة نحو الأسفل (المجال الوطني) وتظل حبيسة الدول المحلية - الوطنية. وبهذا لم يعد المثقف قادرا على التأثير في السياسيين المحليين لأنه يدرك أن السلطة والقوة ليستا بيده بل تتجاوزانه.
المرحلة الرابعة: (1992 إلى اليوم)، حيث اشتهر على نطاق واسع بنقده لما بعد الحداثة، كمرحلة عممت فيها ثقافة الاستهلاك والحرية الفردية، وفيها أطلق (سنة 1998) مفهوم المجتمع السائل (مجتمع الاستهلاك والحرية الفردية) لتعويض المجتمع ما بعد الحداثي. ففي المجتمع السائل، كمجتمع استهلاكي يمثل نموذج الاقتصاد النيوليبرالي، الذي يسم الحقبة الراهنة من تطور الرأسمالية العالمية، يندمج الفرد بفضل استهلاكه وقدرته على إشباع رغباته في السوق. وقد ترجمت أعماله في هذه المرحلة إلى لغات عالمية عدة.
يصعب اختصار كل أفكار هذا الفيلسوف النقدي في هذا المقال، بالنظر إلى كثافتها وصعوبة التوليف بينها من دون تخصيصها مدخلاً تفصيليًا لجميع رؤاه، حول العنف والهوية والديمقراطية والسياسة والعولمة. في تحديده للفرق بين الحداثة الصلبة والحداثة السائلة، يقول: «لم أنظر الآن، ولا أنظر الآن، إلى الصلابة والسيولة باعتبارهما ثنائية متعارضة، بل أنظر إليهما على أنهما حالتان متلازمتان تحكمهما رابطة جدلية. إن البحث عن صلابة الأشياء والحالات هو ما دفع إلى إذابتها، وأبقى على استمرارية الإذابة، ووجه مسارها. فلم تكن السيولة خصما معاديا، بل أثر من آثار البحث عن الصلابة، ولم يكن لها أبٌ سواه، حتى عندما أنكر ذلك الأب أنها ابنته الشرعية» (الحداثة السائلة، ص 27). فالجدل يقضي بكون حالات لم تعرف من قبل حداثة صلبة، لكنها الآن في صلب الحداثة السيالة، ويتوجب عليها أن تتقن المشي على رمال متحركة. لأن ما يجري في عالم اليوم، لا تحكمه لا اتفاقية وارسو (حول حق الأقليات في تقرير المصير) ولا اتفاقية ويستفاليا حول الدولة - الأمة (الوطنية)، لجهة أن الحدود السيادية لم تعد كما كانت، أي أن العلبة السوداء للسيادة الوطنية، بتعبير سيلا بنحبيب، يتوجب فتحها. فالمهاجرون يتدفقون من كل حدب وصوب، كما تتدفق الأموال والسلع والمعلومات. لقد صار كل شيء معولما حتى ما نعتقد أنه حبيس حميميتنا الخاصة. لهذا «نستطيع أن نسمى ما نذهب إليه، في اللحظة الحالية، بأنه أزمة الديمقراطية، انكماش الثقة. نعتقد أن قياداتنا ليس فقط غبية وفاسدة، لكنها أيضا حمقاء. الفعل يستلزم القوة لتتمكن من اتخاذ القرارات. وبالطبع، نحتاج السياسة، التي تعطيك القدرة لتقرر ما تحتاجه». ومن كان عليهم أن يمارسوا السياسة توجهوا إلى وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يعتبره باومان «مجرد فخ»، بحيث نعتقد أننا ننتمي إليه، لأنه يمنحنا السلطة في حذف هذا أو ذاك من قائمة الأصدقاء، أو السلطة في إضافة هذا أو ذاك. في حين أن الصداقة أبعد ما تكون، وأن تختزل في «وخز الفأرة». الصداقة لقاء والتقاء، شعور وتعبير، تبادل وتفاعل وانفعال، لأن هناك «قيمتين لطالما كان صعبًا التوفيق بينهما؛ الأمن والحرية. فإذا كنت تريد الأمن، فعليك أن تتنازل بقدر معين من الحرية. وإذا كنت تريد الحرية، فعليك أن تتنازل بقدر معين من الأمن. هذه المعضلة ستستمر إلى الأبد». فالصراع الدائر الآن، يتمحور حول علاقة الفرد بالمجتمع، ولم يعد يتعلق الأمر بنقص الأمن، بل بنقص الحرية. فالأمن توفره كل العدسات المحيطة بك من كل الجهات، وأحيانًا من حيث لا تعلم. وهذا ما يضفي على سؤال الهوية بعدا جديدا: «سؤال الهوية تبدل، من شيء تولد به إلى مهمة، والمهمة تكمن في أنه يتوجب عليك صنع مجتمعك الخاص»، مجتمع تنتمي إليه لا أن ينتمي إليك، كما هو حال مواقع التواصل الاجتماعي. فأية علاقة تربط بين المجتمع والفرد ومواقع التواصل الاجتماعي؟ الفرد جزء من المجتمع، ولا يستطيع الفكاك منه ولا تعويضه بشبكات التواصل الاجتماعي أو عالم التقنية (العبودية الرقمية)، في حين أن الشبكات الاجتماعية هي جزءٌ من الفرد وتنتمي إليه.
تكمن إذن راهنية فكر وفلسفة ريغمونت باومان في تلمسه لموضوعات العصر بعين فاحصة وناقدة، تشهد عليها تجربته السياسية والفلسفية، بحيث لم يستطع الاتحاد السوفياتي ولا الشيوعية البولونية، ولا كبر سنه من مواصلة نقده للحاضر لاستشراف المستقبل المشرق.

* كتب المقال قبل رحيل الفيلسوف باومان



«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
TT

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام. صارا صديقين، لا بل رفيقين، جمعتهما المقاهي والجلسات الشعرية والعائلية. وفي منزل سعادة، في بلدة شبطين اللبنانية، كتب بولص واحدة من أجمل قصائده «آلام بودلير وصلتْ». لكن بولص سيغادر إلى الولايات المتحدة عام 1971، وتصبح الرسائل هي صلة الوصل الوحيدة بين الصديقين، إضافة إلى تلك اللقاءات العابرة، التي سيكون آخرها في «مهرجان لوديف» في فرنسا عام 2007؛ أي قبل أن يرحل بولص عن عالمنا بنحو شهر واحد.

الرسائل التي تبادلها الشاعران، بقيت طي الأدراج إلى أن أفرج وديع سعادة عما في حوزته منها، إضافة إلى بعض ما كتب إلى بولص وعنه، وصدرت مؤخراً عن «دار نلسن» في بيروت، في كتاب يحمل عنوان «رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة». هي في أغلبها تلك الرسائل التي كتبها بولص بعد وصوله إلى الولايات المتحدة، مباشرة، ولا يزال قلبه معلقاً بأصدقائه الذين تركهم خلفه. في هذه الرسائل يسأل بولص عن الأصدقاء، يذكرهم واحداً واحداً، ويطلب من سعادة أن ينقل إليهم تحياته: «إلى أدونيس وجاد الحاج ورياض فاخوري وجان دمو والأب يوسف وخليل الخوري ودلال ونهى»؛ ذلك أنه «كلُّ تذكُّرٍ، مطهّر. الأصدقاء البعيدون ليسوا أشباحاً أبداً. بعض القريبين هنا، أشباح».

إنها الغربة التي تتأكّل الشاعر وتشعره بالألم. يتمسك بالشعر لعل به يكون الخلاص، وهو بالفعل كذلك؛ لقد «ساعد الشعر على إنقاذي كثيراً. منذ أن وطئت هذه الأرض الأجنبية والشعر يلتهب في باطني ليوازن بين البرد المسموم في الخارج واليقظة العنيفة في الداخل». وتزيد من غربته اللغة، وصعوبة العثور على كتب ليصبح مستعداً «أن أشنق أميركياً مقابل صفحة واحدة عربية من الشعر، فأنا أقرأ ليل نهار هذه اللغة اللاشعرية، بفضائلها التي لا تمسّني إطلاقاً: لغة البرد والأعصاب».

الكتاب يضم في أغلبه رسائل بولص، في حين أن رسائل سعادة بقيت في يد من يمتلكون أرشيف الشاعر العراقي، ولا ندري إن كنا سنصل إليها، وعوضاً عنها نجد في المؤلّف تلك القصائد التي كتبها سعادة لصديقه، إضافة إلى مرثيتين كتبهما فيه بعد وفاته، ونبذة عن حياة الشاعرين، وصوراً تجمعهما.

يكتب وديع سعادة أن «العلاقة المتينة بيني وبين سركون بولص لم تكن علاقة صداقة، بل علاقة شعرية عميقة في فهمنا المشترك للشعر، بما هو ليس عملية كتابية فحسب، بل أسلوب حياة أيضاً. لم يكن سركون شاعراً فقط في الكتابة، بل كذلك في أسلوب حياته. لم يكتب الشعر فحسب، بل عاشه أيضاً».

ويصف الناشر سليمان بختي الكتاب بأنه «قطعة من حياة ربطت شاعرين... ولربما آخر ما تصفّى من أدب التراسل على الورق بين الشعراء والأدباء».

ويعتبر بختي في مقدمته أن الشاعرين من أركان جيل ما بعد مجلة «شعر» وروادها الذين غيّروا وجه الشعر العربي الحديث وأسّسوا قصيدة النثر. وهما من الجيل الذي رسّخ قصيدة النثر في الشعر العربي الحديث. و«من خلال رسائل سركون بولص (1944-2007) إلى وديع، أو من خلال الكلمات والقصائد التي كتبها وديع سعادة مهداة إليه، أو في وداعه ورثائه، نلمس مبلغ عمق الصداقة والهم الواحد والنظرة المشتركة إلى الوجود والحياة والشعر». ويشيد بختي بتلك الشفافية الجارحة والنبرة العالية، فيما يخطه بولص لصديقه.

واحدة من المسائل اللافتة التي عادة ما يعود إليها بولص في رسائله هي دور المثقف، واستقلاليته، وصدقه. يكتب لصديقه غاضباً، بعبارات متمردة: «لا تكن مثقفاً يجمع أقنعة ويقرأ المشهورين، ويفكر بنماذج كأنسي الحاج، أو لست أعرف من، أو كامو أو بودلير أو بوذا أو الشيطان... ولا تكن حتى أنت! وابصق على المثقف الغبي الذي يحاضرك عن (معرفة النفس) وباقي الخرق الثقافية الأخرى».

تدهشك هذه النزعة الطوباوية الأخاذة، وهو يريد للمثقف ألا يكون شيئاً آخر غير «أناه» المطهّرة من كل ما حولها، راغباً في التخفف من الأحمال. يكتب في إحدى رسائله عن غضب لا يستطيع أن يقاومه، حين تخطر له «جميع الأفكار الخاطئة التي تتسرب في وطننا وبين مثقفينا عن الفكر الأوروبي وعن الثقافة الأوروبية، وذلك عن طريق مجموعة معدودة من الكتاب المسيطرين على المجلات والذين ليس لهم حق في ذلك». ويعتبر أن «الثقافة» هي «حلم يتغذّى عليه تلاميذ الجامعة ذوو النظارات الطبية والشعراء الذين يعالجون (مسائل العصر) بجبين مقطب». أما الشيء الوحيد الذي يستحق المعالجة في رأيه فهو «أن تفتح فمك فجأة وأنت في الشارع ومن حولك طنين الخلية الإنسانية وتقذف من أحشائك ذلك البركان الذي هو أنت. وبعد ذلك تستطيع أن تقف لمدة نصف ساعة مراقباً بدهشة (أناك) المحترقة وهي تتسلق أكتاف البشر وتدخل أنوفهم الضائعة».

أي سخط حمله هذا الشاعر؟ وأي عبثية؟ وأي شعور عميق بالمسؤولية؟ يذكرنا ما كتبه بولص حول دور المثقف، بتلك المُثل ونبل المبادئ التي سادت في سبعينات القرن الماضي؛ إذ يقول عن واجب الكاتب تجاه نفسه أولاً، بحثاً عن النور: «علينا أن نخترق هذا الدرع المميت؛ ثقب أو ثقبان ينبثق منهما الضوء ونعرف بيقين أن النهار هناك، إنه هناك! هذا ما حدث لي، ويمكنني القول إنني قد رأيت عدة ثقوب في ذلك الدرع، وعلى النور المتسرب منها أحيا الآن». شيء من الصوفية، وكثير من الغضب، والرغبة في التغيير، والانقلاب على الذات.

ومن جميل ما نقرأه في الرسائل هو حديثه عن مشاريعه الأدبية، وكثير منها لا أثر لها؛ رواية يكتبها بعنوان «صحراء العالم»، وتحضيره لدراسة عن الرواية الحديثة، ومجموعة من القصص، ورسالة طويلة عن السياسة والفكر في أميركا لتنشر في مجلة «مواقف»، ومجموعة شعرية بالإنجليزية.

في الجزء الثاني من الكتاب، عوضاً عن رسائل وديع الضائعة، نقرأ قصائده في صديقه سركون، يقول في إحداها:

أعطني رداءك يا سركون

بردتُ

أَدفئني قليلاً بترابك

ويعتبر أن بولص «هو شاعر اللامكان، الذي عبر أمكنة كثيرة (العراق، ولبنان، والولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا...)، لم يكن يعبر في الجغرافيا. كان يعبر في ذاته، عمودياً في الأعماق، وفي الغور هناك يحاول هدم الحدود بين الحلم والواقع».

ولأن اللغة أصبحت وطنه الافتراضي الوحيد المتبقي؛ فقد «حفر فيها عميقاً علّه يجد نفسه». ويتحدث سعادة عن العلاقة الحميمة بين سركون بولص وآلام شارل بودلير.

«بودلير الذي أبحر في باخرة نحو آسيا حاملاً آلامه، وكادت الباخرة تغرق به وبمن فيها، وصلت آلامه إلى سركون باكراً. فمن أوائل قصائده (آلام بودلير وصلتْ). إلا أن باخرة سركون لم تكن في البحر، بل في أحشائه: (هناك باخرة ضائعة ترعى بين أحشائي)».

إنني مستعد أن أشنق أميركياً مقابل صفحة واحدة عربية من الشعر!

سركون

واختار وديع سعادة قصائد مختارة اعتبر أنها تحمل في كلماتها أصداء من حكاية الصداقة التي جمعته ببولص، من بينها قصيدة «رفاق» التي يقول فيها:

لديك ما يكفي من ذكريات

كي يكون معك رفاق على هذا الحجر

اقعدْ

وسَلِّهمْ بالقصص

فهم مثلك شاخوا

وضجرون

قُصَّ عليهم حكاية المسافات

التي مهما مشت

تبقى في مكانها

أخبرْهم عن الجنّ الذي يلتهم أطفال القلب

عن القلب الذي مهما حَبِلَ

يبقى عاقراً

حدِّثْهم عن العشب الذي له عيون

وعن التراب الأعمى

عن الرياح التي كانت تريد أن تقول شيئاً

ولم تقلْ

وعن الفراشة البيضاء الصغيرة التي دقَّت على بابك في ذاك الشتاء

كي تدخل وتتدفأ...

وفي قصيدة «غيوم» يكتب وديع سعادة:

في عيونه غيوم

ويحدِّق في الأرض

علَّها تمطر

الكتاب لطيف؛ لأنه يجمع بين شاعرين، لكل منهما فرادته ومزاجه وشطحاته وسورياليته، لكنهما يلتقيان في اعتناقهما الشعر كأسلوب حياة، وليس كرديف أو موازٍ لها. ومع أن الكتاب يبقى ناقصاً تلك الرسائل التي سطّرها وديع في ردّه على سركون، فإن الوقت قد يكون كفيلاً بإظهار الضائع، وإعادة المفقود.