اللغة العربية.. الضحية المزدوجة للدارجة والفرنسة

نقاش كان دائمًا مؤجلاً في المغرب

من أعمال الفنانة التشكيلية المغربية لالة السعيدي
من أعمال الفنانة التشكيلية المغربية لالة السعيدي
TT

اللغة العربية.. الضحية المزدوجة للدارجة والفرنسة

من أعمال الفنانة التشكيلية المغربية لالة السعيدي
من أعمال الفنانة التشكيلية المغربية لالة السعيدي

يتزايد النقاش في المغرب بشأن أوضاع اللغة العربية، ليتخذ أبعادًا غير مسبوقة على مستوى المسألة اللغوية، بشكل عام، خاصة بعد إصرار البعض، أخيرًا، على الدعوة لاعتماد الدارجة المغربية في التدريس، بشكل أضاف، برأي المدافعين عن العربية، إلى «تغول» الفرنسية «تشويش» التلهيج.
وتحولت المناظرة الشهيرة، التي جمعت، قبل ثلاث سنوات، بين عبد الله العروي، المفكر والمؤرخ والأستاذ المبرز في اللغة والحضارة العربية، ونور الدين عيوش، رجل الإشهار (الإعلان) ورئيس «مؤسسة زاكورة للتربية»، وأبرز الداعين لاعتماد الدارجة في التدريس، إلى لحظة أساسية في النقاش اللغوي بالمغرب، يتم استحضارها وتوظيفها، بشكل خاص، من طرف المنتقدين لدعوات «التلهيج»، والتي كان آخر فصولها إصدار «مؤسسة زاكورة للتربية»، قبل أيام، «قاموس الدارجة المغربية»، وذلك «من أجل جعل اللغة العربية المغربية حية ومستمرة»، على رأي الواقفين خلف الإصدار، الذي اعتبر محاولة، من بين أخرى، يرى عدد من المدافعين عن اللغة العربية، في المغرب، أنه تتحكم فيها «خلفيات سياسية وآيديولوجية» تسعى إلى «تغيير منظومة القيم المؤسسة للثقافة العربية الإسلامية»؛ لذلك ذهب البعض إلى وصف قاموس الدارجة بـ«المسخ اللساني»، الذي «يستحق التتويج بأسوأ إصدار في السنة»، نظرًا لـ«محتواه الصادم والتافه أحيانًا».
ويتحدث عدد من المهتمين بالمسألة اللغوية في المغرب، عن «فوضى عارمة تعيشها السياسة اللغوية»، مشددين على أن «النقاش حول اللغات في المغرب كان دائمًا مؤجلاً»، في وقت يرى فيه المدافعون عن العربية أن لغة الضاد «لا تطرح مشكلاً»، من جهة أن «المغرب لديه هوية عربية إسلامية أمازيغية»، علاوة على أنه «جزء من فضاء مغاربي وعربي، لا يمكن عزله عنه»، وأن التدريس بالدارجة يروم، كما قال العروي، في المناظرة الشهيرة، «تقويض الوحدة الوطنية»، وأن من شأنه أن يؤدي إلى «تقوقع البلاد» و«يفصل المغاربة عن ثقافتهم العليا ومحيطهم الثقافي العام»، مع إشارته إلى أن «الدارجة لا تستطيع أن تكون لغة ثقافة رفيعة متقدمة في مستوى اللغات الأجنبية»، ودعوته، في المقابل، إلى «عدم التفريط في اللغة العربية»؛ فيما شدد الدكتور فؤاد بوعلي، رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية بالمغرب، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، على أن لغة الضاد، التي اعتبرت، على الدوام، جزءًا من تكوين الإنسان المغربي، «تعيش وضعًا غير طبيعي في المجال التداولي المغربي»، مرجعًا ذلك إلى «عدد من الالتباسات التي كانت نتيجة تراكمات امتدت من زمن سابق على الاستقلال إلى يومنا هذا».
وتحدث بوعلي، في هذا السياق، عن عوامل ثقافية وسياسية واجتماعية تداخلت في تشكيل هذا الوضع، مما يستدعي، من وجهة نظره، «تدخل الدولة لضبط العلاقة القائمة بين اللسان والهوية بطريقة تعيد الاعتبار لأهمية هذين الركنين في تشكيل الوجود الفردي والجماعي للمواطن»، خاصة وأن «اللغة العربية، التي اعتبرت على الدوام جزءًا من تكوين الإنسان المغربي، والعربي عمومًا، ونصت جل الدساتير على رسميتها، ما زالت تعيش على هامش الأجرأة الفعلية لرسميتها في كل القطاعات من تعليم وإدارة وشأن عام، وخصوصًا في الإعلام»، مشددًا على أنه «يكفي أن نذكر بالإجراءات الجديدة من أجل التراجع على مكتسب التعريب في المدرسة المغربية، مما سيجعل العربية لغة متاحف ومنابر وليست لغة علم ومعارف».
وعن دور الإعلام في تقوية أو إضعاف اللغة العربية، وخصوصًا الإعلام المرئي، قال بوعلي: «لا يستطيع أحد أن ينكر الأثر البالغ لوسائل الإعلام على الفرد والمجتمع، فهناك ما يشبه الإجماع على أن في وسع وسائل الإعلام أن تنهض بالشعوب في مجال التعليم من أدنى الدرجات إلى أرفعها وأرقاها، وأن ترقى بلغاتها وتطورها بحيث تتمكن من التعبير عن الحاجات المعاصرة. لكن بدل أن تؤثر اللغة في الإعلام صارت خاضعة لسلطانه وتستسلم بطواعية لدفقه اللغوي وتدفقه المعلوماتي. بل غدا الأمر أكثر خطورة عندما يغدو الإعلام وسيلة لهدم العربية من خلال اعتماد اللغة الأجنبية أو التلهيج في التواصل والدبلجة وتهميش لغة الضاد بشكل ينبئ بوجود سياسة ممنهجة تروم القضاء على الهوية اللغوية للمتلقي. لكن في الجانب الآخر يمكننا الإشادة ببعض القنوات العربية التي مكنت المتلقي المغربي من اكتشاف مخزون لغة الضاد عبر استعمالها الدقيق في التواصل».
وبخصوص وسائل التواصل الاجتماعي، وإن كانت أسهمت في «إعادة» الشباب المغربي إلى لغته العربية، كما يرى البعض، أم أضعفها، شدد الخبير المغربي المتخصص في المسألة اللغوية في الوطن العربي، على أن «وسائل التواصل الجديدة طرحت إشكالاً مضاعفًا على لغة الضاد. حيث نقلت التواصل العامي من الشارع إلى الفضاء الرقمي بشكل لا يحترم قواعد اللغة ولا أبجدياتها، بعد أن فرضت مراسلات البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي والمدونات والمواقع الإلكترونية، لغة مكتوبة جديدة غصت بالتعابير المستحدثة، وطالت استخداماتها الرسوم والصور والرموز والإشارات، مما أدى إلى ضعف اللغة العربية، وهيمنة اللهجات العامية، وأصبحت اللغة العربية عند كثير من الناس هي لغة الإعلام، والصحافة اليومية الهجينة».
وبخصوص دور المجامع العربية في الحفاظ على سلامة اللغة العربية، لاحظ بوعلي أن هذه المجامع، على الرغم من ريادتها العلمية والمعجمية، قد «همشت وغدت ندواتها منتديات للمطارحة الفكرية من دون تأثير على الواقع العملي»، مشددًا، في هذا السياق، على أن «الإشكال ليس في المؤسسات العلمية ولكن في القرار السياسي الذي تتحكم فيه نخب لا تستطيع الانتصار للغتها».
وجوابًا عن سؤال إن استوعبت اللغة العربية العلوم الحديثة، قال بوعلي إن «اللغة مرتبطة بتطور أبنائها»، وأن «اللغة كائن حي يعكس تطور أبناء المجتمع وتخلفهم»، ولذا فـ«العربية تعاني مما يعانيه المجتمع من مد وجزر. والمنجز في العلم والمعرفة كثير واستطاعت مجامع ومعاهد التعريب مواكبته من خلال قواميس ومعاجم متعددة اللغات. ففي أي مؤسسة بحثية من هذا القبيل ستجد معاجم للسياحة والتقنيات والإعلاميات وغيرها. لكن غياب التنزيل على الواقع العملي والاستفادة من هذه الكنوز يضيع فرصًا كبيرة للاستفادة من المخزون العلمي العربي».
ولاحظ بوعلي أن التجربة التراثية أثبتت أن «العربية قادرة على استيعاب العلوم والمعارف الكونية واللدنية، واخترقت بذلك الآفاق البعيدة». غير أنه استدرك قائلاً: «لكن نعود ونكرر: غياب الإرادة الحقيقية لدى الممسكين بالشأن العام للنهوض بلغة الضاد هو الذي يعرقل أي إثبات لقدراتها في الواقع العملي والعلمي».
وعن مستقبل بعض وجهات النظر التي تدعو إلى اعتماد الدارجة في التعليم، قال كاتب: «مقاربات في المسألة اللغوية بالمغرب»، المؤلَّف الذي يشدد فيه على أن «وجود المجتمع من خلال تمثلاته المؤسساتية لا يتم إلا من خلال أمنه اللغوي»، إن «اعتماد الدارجة في التعليم محاولة قديمة قدم الهجوم على اللغة العربية. وربما الذي لا ينتبه إليه أن الاهتمام بالعامية قد بدأ مبكرًا في الغرب الإسلامي بحكم التماس والاتصال بين المسلمين والمسيحيين على أرض الأندلس، وبحكم تنامي الرغبة لدى المنصرين في تنفيذ مشروع الاسترداد وتنصير المسلمين وإلحاقهم بالعالم المسيحي، لكن كل المحاولات باءت بالفشل، لأن أبسط أبجديات البحث اللساني تقتضي التمييز بين نسقين لسانيين: اللغة العالمة التي تقدم المعارف والعلوم، ولغة التواصل العامي، وبالتالي فإن أي إخلال بهندستهما الوظيفية يؤدي إلى خلل في بناء المعارف. لذا سنجد أن دهاقنة هذا الزعم بعيدون كل البعد عن البحث العلمي اللساني الرصين والمؤسس كما تحيل عليه لائحة المشاركين في الندوات المنظمة لهذا الغرض».
وختم بوعلي حديثه، بالتشديد على أنه لا يجد أساسًا علميًا، لطرح موضوع اعتماد الدارجة في التعليم والدفاع المستميت عنه، مشددًا على أن طرح هذا الموضوع «تتحكم فيه خلفيات سياسية وآيديولوجية في قلبها تغيير منظومة القيم المؤسسة للثقافة العربية الإسلامية».



كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
TT

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته

الروائي والمُنَظِّر الما بعد كولونيالي، الكيني نغوغي واثيونغو، (يتوسط الصورة). يقف مائلاً بجذعه إلى الأمام، ميلاً يكاد لا يُدرك، باسطاً كفيه على كتفي ابنته وانجيكو وا نغوغي (يمين الصورة)، وابنه موكوما وا نغوغي (يسار الصورة)، كأنما ليحتضنهما أو ليتأكد من وجودهما وبقائهما أمامه، أو يتوكأ عليهما بدلاً من التوكؤ على العصا التي ربما أسندها إلى الجدار خلفه، أو في أي بقعة من المكان.

الصورة لقطة لاجتماع عائلي صغير، اجتماع ربما لا يتكرر كثيراً ودائماً ولوقت طويل بين أب يعيش وحيداً إلّا من رفقة كلبه في مدينة «إرفاين» في كاليفورنيا، وابن يقيم في مدينة «إثاكا»، حيث يعمل أستاذاً للأدب في جامعة كورنيل، وابنة استقر بها المقام في مدينة أتلانتا، حيث تعمل أستاذاً للكتابة الإبداعية في كلية الفنون الجميلة في ولاية جورجيا. شتات أسري صغير، نموذج من الشتات الأفريقي (الما بعد كولونيالي) الكبير، تتخلله لحظات مثل لحظة التقائهم في الصورة لحدث يظهر خلاله الشبه بينهم، الشبه العصي على الشتات تبديده ومحوه.

الحدث فعالية توقيع موكوما لروايته الرابعة «انبشوا موتانا بالغناء»، شخصياً أفضل «انبشوا قبور موتانا بالغناء»، وتوقيع وانجيكو لروايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر» أو «فصول في بلاد فرس النهر». لا يحتاج إلى تأكيد أن عنواني الروايتين قابلان لأكثر من ترجمة. وبقدر ما تبرز الصورة، أو الحدث في الصورة، من تشابه بين الثلاثة، تقوم بوظيفة المعادل الموضوعي البصري لهذه المقالة التي تجمعهم.

النضال باللغة الأم

لكن هنالك ما لا تظهره الصورة، ولا توحي به. أقصد المفارقة التي يشكلها حضور نغوغي واثيونغو حفل توقيع روايتين مكتوبتين باللغة الإنجليزية لاثنين من أبنائه، اللغة التي توقف عن الكتابة الإبداعية بها في أواخر سبعينات القرن الماضي؛ وكان مثابراً في الدعوة إلى التوقف عن الكتابة بها.

كان قرار نغوغي التوقف عن الكتابة بالإنجليزية والتحول إلى الكتابة بلغته الأم سبباً مباشراً من أسباب اعتقاله والزج به في سجن الحراسة المشددة، عشية السنة الجديدة في عام 1977. كان ابنه موكوما في السابعة من عمره عندما ألقت السلطات الكينية القبض عليه بعد ستة أسابيع من النجاح الشعبي المدوي الذي حققه عرض مسرحيته المكتوبة بلغة «جيكويو»: «سأتزوج عندما أريد»، مسرحية أدّاها ممثلون غير محترفين من الفلاحين، واستهدفت بالانتقاد النخبة الحاكمة الكينية، مما دفع الحكومة إلى اعتقاله تحت ذريعة تشكيله خطراً على البلاد.

في زنزانته التي تحَوَّل فيها إلى مجرد رقم (K677)، وكفعل تحدٍ للسلطة أولاً، وكأداة للمقاومة والنضال من أجل تحرير العقل من الاستعمار ثانياً، بدأ نغوغي، وعلى ورق التواليت، في كتابة روايته الأولى بلغته الأم «شيطان على الصليب». يروي أن ورق التواليت كان مكدساً رصاتٍ تصل سقف الزنزانة، ورق قاس وخشن كأنما أُرِيد أن يكون استخدامه عقاباً للسجناء.

إن توقف نغوغي عن الكتابة بالإنجليزية بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات من انعقاد «مؤتمر ماكيريري للكُتّاب الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإنجليزية»، وضعه على مفترق طرق في علاقته مع «الماكيريريين»، الذين آمنوا بحتمية وأهمية الكتابة باللغة الإنجليزية، وفي مقدمتهم صديقه الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي. ورغم تعكر صفو العلاقة بينهما ظل نغوغي يكنّ الاحترام لأتشيبي ومعترفاً بفضله عليه. فأتشيبي أول شخص قرأ روايته الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» حتى قبل أن يكمل كتابتها، عندما حملها مخطوطة مطبوعة إلى مؤتمر ماكيريري أثناء انعقاده في جامعة ماكيريري في العاصمة الأوغندية كامبالا، في يونيو (حزيران) 1962. وكان له الفضل في نشرها ضمن سلسلة هاينمان للكُتّاب الأفارقة.

يقول نغوغي واثيونغو لمواطنه الكاتب كيري بركه في حوار نشر في صحيفة «ذا غارديان» (2023-6-13): «قال أتشيبي إن اللغة الإنجليزية كانت هدية. لم أوافق... لكنني لم أهاجمه بطريقة شخصية، لأنني كنت معجباً به كشخص وككاتب». أتوقع لو أن أتشيبي على قيد الحياة الآن، لعاد للعلاقة بين عملاقي الرواية في أفريقيا بعض صفائها، أو كله. فموقف نغوغي الرافض للاستمرار بالكتابة بلغة المستعمر، فَقَدَ (أو) أفقدته الأيام بعض صلابته، ويبدو متفهماً، أو مقتنعاً، وإن على مضض، بأسباب ومبررات الكتابة الإبداعية بالإنجليزية. فجلاء الاستعمار من أفريقيا، لم يضع - كما كان مأمولاً ومتوقعاً - نهاية للغات المستعمر، كأدوات هيمنة وإخضاع وسيطرة، فاستمرت لغاتٍ للنخب الحاكمة، وفي التعليم.

قرار نغوغي واثيونغو الكتابة باللغة التي تقرأها وتفهمها أمة «وانجيكو» قسم حياته إلى قسمين، ما قبل وما بعد. قِسْمٌ شهد كتاباته باللغة الإنجليزية الممهورة باسم «جيمس نغوغي»، وكتاباته بلغة «جيكويو» باسم نغوغي واثيونغو، تماماً كما قسّم مؤتمر ماكيريري تاريخ الأدب الأفريقي والرواية الأفريقية إلى ما قبل وما بعد - الموضوع الرئيس في كتاب ابنه موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية».

في نهضة الراوية الأفريقية

من البداية إلى النهاية، يرافق «مؤتمر ماكيريري» قارئَ كتاب موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية... طرائق اللغة والهوية والنفوذ» (الصادر في مارس (آذار) 2024) ضمن سلسلة «عالم المعرفة» للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت). وترجمه إلى العربية الأكاديمي والناقد والمترجم البروفسور صديق محمد جوهر. لم يكن كتاب نغوغي الابن الباعث على كتابة المقالة فحسب، وإنما المحفز أيضاً، حتى قبل البدء في قراءته، على قراءة رواية شقيقته وانجيكو وا نغوغي «مواسم في بلاد أفراس النهر»، وكانت ترقد على الرفّ لبعض الوقت في انتظار قراءة تهرب إلى الأمام باستمرار. فكان أن قرأت الكتابين في الوقت نفسه، منتقلاً من أحدهما إلى الآخر، بينما صورة نغوغي الأب، أو طيفه يحوم في أفق القراءة، ما جعلني أُسَلِّمُ بأن لا مفرَّ من جمع الثلاثة في مقالة واحدة، وقد وهبتِ الصورة نفسَها معادلاً موضوعياً بصرياً لها.

مؤتمر ماكيريري بآثاره وانعكاساته على الأدب الأفريقي هو الموضوع الرئيس في «نهضة الرواية الأفريقية». كانت المهمة الأولى على أجندة المجتمعين في كمبالا، الذين استثنوا من الحضور كل الذين يكتبون بغير الإنجليزية، تطويق الأدب الأفريقي بحدود التعريف. ولأنه لا توجد حدود دون نشوء لثنائية الداخل - الخارج، فإنهم لم يقصوا الآداب الأفريقية بلغات المستعمر الأخرى فحسب، بل أبقوا خارج الحدود كل الأعمال الأدبية المنشورة باللغات المحلية التي نشرت قبل 1962. على اعتبار أن كل ما سبق ماكيريرى من ثمانينات القرن التاسع عشر كان خطابة.

ينتقد موكوما أدباء ماكيريري على تعريفهم الضيق والإقصائي للأدب الأفريقي، ويدعو إلى أدب أفريقي بلا حدود، يشمل الكتابات المبكرة، وآداب الشتات الأفريقي، والقص الشعبي «popular fiction»، وإلى تقويض التسلسل الهرمي الذي فرضته «الإمبراطورية الميتافيزيقية الإنجليزية»، التي امتد تأثيرها إلى ما بعدَ جلاء الاستعمار، ولم يسلم موكوما نفسه ومجايلوه من ذلك التأثير، فقد نشأ في بيئة معادية للغات الأفريقية. من الأسئلة التي قد تبزغ في ذهن القارئ: ألم يمارس موكوما الإقصاء أيضاً؟ فقد انتقد «أصحاب ماكيريري»، ولم ينتبه إلى أن كتابه «نهضة الرواية الأفريقية» لم يتسع للرواية الأفريقية باللغة العربية وبلغات الاستعمار الغربي الأخرى في أفريقيا.

الأشياء لم تتغير في «فيكتوريانا»

بإزميل حاد نحتت وانجيكو وا نغوغي عالم القصة في روايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر»، فجاءت لغتها سهلة وسلسلة، توهم بأن القارئ لن يواجه أي صعوبة في قراءتها. في هذا العالم تتمدد دولة «فيكتوريانا» على مساحة مناطقها الثلاث: ويستفيل ولندنشاير وهيبولاند، ويتربع فيها على عرشه «إمبراطور مدى الحياة». تقدم الرواية «فيكتوريانا» كصورة للدول الأفريقية، التي شهدت فساد وإخفاقات النخب الحاكمة وإحباط آمال الجماهير بعد الاستقلال.

الحكاية في «مواسم في بلاد أفراس النهر»، ترويها بضمير المتكلم الشخصية الرئيسة (مومبي). تبدأ السرد من سن الثالثة عشرة، من حدث له تأثير كبير في حياتها. فبعد افتضاح تدخينها السجائر مع زميلاتها في المدرسة قبل نهاية العام الدراسي بأيام، يعاقبها والداها بإرسالها برفقة شقيقها من «ويستفيل» إلى «هيبولاند» حيث تعيش عمتها سارة.

العمة سارة حكواتية انخرطت في شبابها في حركة النضال ضد المستعمرين، وبعد الاستقلال، وظفت قصصها لبث الأمل والشجاعة وتحريك الجماهير ضد الإمبراطور. الحكاية التي ترويها مومبي هي قصة نموها وتطورها إلى «حكواتية» ترث عن سارة رواية القصص، والتدخل في شؤون الإمبراطورية، لينتهي بها المطاف في زنزانة في سجن الحراسة المشددة. هنا تتسلل خيوط من سيرة نغوغي واثيونغو إلى نسيج الخطاب السردي. إن السرد كقوة وعامل تأثير وتحريض على التمرد والتغيير هو الثيمة الرئيسة في الرواية. ولدرء خطره على عرشه، يحاول الإمبراطور قمع كل أنواعه وأشكاله.

* ناقد وكاتب سعودي