جيل السبعينات في الرواية المصرية

واقع الخطاب القصصي في واحدة من أهم الحقب الأدبية التي شهدتها مصر

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

جيل السبعينات في الرواية المصرية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يختبر يسري عبد الله تحولات فكرة «مساءلة الذات» وتجلياتها فنيا، على مستوى بنية السرد، والتعامل مع الأسطورة والفانتازيا، موضحا كيف تتحول المساءلة نفسها من هاجس يطارد الذات إلى فعل مقاومة يقوي الذات ويمنحها إرادة البحث عن وعاء بديل.
يقدم الناقد الدكتور يسري عبد الله في كتابه «جيل السبعينات في الرواية المصرية - إشكاليات الواقع وجماليات السرد»، شهادة مهمة وضافية، حول واقع الخطاب الروائي في واحدة من أهم الحقب التي شهدتها مصر على مدار تاريخها الأدبي المعاصر، وأفرزت في عباءة تحولاتها السياسية والاجتماعية الحادة موجتين إبداعيتين تبلورتا بشكل أساسي، في الشعر والكتابة السردية، ولا يزال تأثيرهما ممتدا في الحياة الأدبية حتى الآن.
يرصد الكتاب أبعاد هذه التحولات، ويضعها على محور ثنائية «وعي النص ووعي الواقع»، ويحلل مدى التأثير والتأثر بين الوعيين، وطبيعة المسافة بينهما، في لعبة السرد وخيوطها الفنية المتشعبة، وأيضا في لعبة الواقع المأزوم والمحاصر بين سندان هزيمة عسكرية قاصمة في حرب 67، ومطرقة حلم قومي تداعت ملامحه وانفرط عقده الناصري، ووصل إلى ذروة انكساره بتوقيع السادات معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979، كما شهدت مظاهرات الطلبة في عام 1968 التي تعد من أعنف المواجهات مع النظام في تلك الفترة.
تتشكل هذه الشهادة النقدية عبر أربعة فصول يضمها الكتاب الذي يقع في 250 صفحة، وصدر حديثا عن «دار أوراق للنشر» بالقاهرة. ويمهد الكاتب لرؤيته النقدية بالتوقف حول مفهوم «الجيل»، لافتا إلى أن فكرة الجيل تنمو عبر تغير نوعي وكيفي، يضيف إلى شكل وطرائق الكتابة، وليس عبر تراتب كمي، يتعامل مع الزمن من منظور حسابي محض. أيضا يركز الكاتب في هذا السياق على «بنية المساءلة»، باعتبارها خصيصة إبداعية، ومن منطلق أن كل نص يطرح أسئلته الخاصة، كما يناقش فكرة الاغتراب بحقولها الدلالية والفلسفية المتعددة، وعلاقتها بالرواية، في إطار بنية المساءلة نفسها التي تعد المعول النقدي الأساسي في الكتاب، ففي فضائها تتجاور وتتقاطع مساءلة الذات المبدعة ومساءلة الواقع، وكيف من خلال هذا التشابك بينهما يمكن النظر إلى مفهوم الاغتراب نفسه، باعتباره أحد سمات الجوهر الإنساني، ثم كيف يتحول إلى مقوم للسرد، وبؤرة للصراع في الكثير من الأعمال الروائية السبعينية، التي اعتمد عليها الكتاب كساحة للتطبيق النقدي واختبار الكثير من المفاهيم والرؤى النظرية. ومنها أعمال للكتاب: إبراهيم عبد المجيد، فتحي إمبابي، محمود الورداني، محمد المنسي قنديل، سلوى بكر، يوسف أبو رية، نعمات البحيري، رضا البهات، محمد عبد السلام العمري، وهالة البدري.
وخلال فصول الكتاب تتضافر هذه المحاور النقدية في سياق دؤوب من التقليب والنبش لرصد واحتواء الملامح الفنية والمركزات الفكرية بمرجعياتها وحمولاتها الدلالية المتباينة، سواء على المستوى الاجتماعي والسياسي، أو على المستوى النفسي والثقافي، أيضا في إطار جدلية الأنا والمجموع، وما ينضوي تحتها من إخفاقات إنسانية، في العلاقة بين الفرد والمجتمع من ناحية، وفي علاقات الذات المبدعة (الساردة) بموضوع الكتابة.. ففي إطار مساءلة الذات، يراجع المؤلف روايات «أشجار قليلة عند المنحنى» للكاتبة الراحلة نعمات البحيري، و«ليس الآن» للكاتب هالة البدري، و«بيت النار» للكاتب محمود الورداني.
في الفصل الأول يقدم الكتاب قراءة نقدية لافتة وعميقة لهذه الروايات، فغربة الذات في رواية نعمات البحيري، بظلالها المكانية والروحية، تتضافر مع غربة أخرى لذات متورطة ومخدوعة، ومفتتة في ذوات كثيرة، كما في رواية هالة البدري، ويتقاطع هذا مع ذات تبدو مقصاة ومقموعة ومحاصرة تحت وطأة تحولات الظرف السياسي والاجتماعي والثقافي التي سادت الواقع المصري، في فترة السبعينات، خاصة عقب الهزيمة في حرب 1967.
ويختبر يسري عبد الله تحولات فكرة «مساءلة الذات» في أعمال أخرى لهؤلاء الكتاب، كما يرصد تجلياتها فنيا على مستوى بنية السرد، والتعامل مع الأسطورة والفانتازيا، موضحا كيف تتحول المساءلة نفسها من هاجس يطارد الذات إلى فعل مقاومة يقوي الذات ويمنحها إرادة البحث عن وعاء بديل، يحتويها ويضعها في سياق صحيح، ليس فقط مع الإناء نفسه بل مع الوطن والعالم والحياة.
ويرصد الكتاب في الفصل الثاني تجليات «الآخر» في النصي الروائي السبعيني، ويوضح طبيعة الآخر، في إطار علاقة النفي والإثبات التي تربط الأنا بهذه التجليات. ويتوقف المؤلف عند منحنيين مركزيين، يرى أنهما يشكلان سمات وملامح الآخر، ويهيمنان على طبيعة اشتباك النص الروائي معه. المنحنى الأول، وهو ما ينعكس على مرايا السرد في روايتي «بيع نفس بشرية» للكاتب محمد المنسي قنديل، و«مأوى الروح» للكاتب محمد عبد السلام العمري، حيث يظل البطل سجين الغربة في أحد البلدان النفطية، تحت وطأة الضرورة والظروف الاجتماعية القاهرة، وفي ظلال سيكولوجية، مضنية؛ أحيانا تقترن فيها الغربة بالخطيئة. لكن الغربة هنا - حسبما يشير المؤلف - تظل فعلا عارضا ومؤقتا، يمكن التعايش معه خاصة داخل كتلة بشرية متنوعة، لا تقف على القدر نفسه من التضاد مع الأنا. وهو ما يرصده من منظور آخر في رواية «مأوى الروح»، حيث تتحول الغربة إلى مأزق وجود. في المقابل يومض البحث عن مأوى للروح، ليس كحيز أو مساحة للاحتواء، وإنما كنبع دائم للارتواء، تتوحد وتنصهر فيه تعارضات الجسد والروح، وأيضا تعارضات الأنا والآخر. أو محاولة إثبات الوجود، والبحث عن هوية خاصة في إطار ثنائية الأنا (الذكوري) مقابل (الأنا الأنثوي)، كما تتجلى في رواية «يوميات امرأة مشعة» للكاتبة نعمات البحيري.
ويناقش الكتاب في فصله الثالث مفهوم الواقع وعلاقته بالأدب من زوايا متعددة، من حيث الواقع كما هو ماثل بشكله المادي المباشر، وكما ينبغي له أن يكون، وعلى أي كيفية يتجسد في النص الروائي السبعيني، من زاوية عين الكاتب السارد، وتنوع تكنيكاته السردية، ورؤاها الجمالية. ويراجع المؤلف بدقة فنية وتمحيص نقدي متنوع منظوره النقدي على نصوص روائية مهمة للكتاب: محمود الورداني، رضا البهات، إبراهيم عبد المجيد، يوسف أبو رية، فتحي إمبابي.. ويتحفظ المؤلف على التعاطي النقدي الشائع لـ«الواقع» كمفهوم نقدي واضح ودارج، مشيرا إلى أنه مفهوم غامض، أو يتسم بالغموض خاصة في تركيبة مجتمعاتنا التي تنضوي تحت مظلة العالم النامي. ويلفت المؤلف إلى أن معظم كتاب الرواية السبعينية فطنوا إلى هذا، فتعاملوا مع ظلال الواقع، لكي تتوافر أمامهم مساحة حية لفهمه وإعادة قراءته ومساءلته ومحاكمته، في إطار التحولات السياسية والثقافية التي حدثت في السبعينات وما بعدها. وهي تحولات لمسوها وعاشوها وانخرطوا فيها كمبدعين، ومواطنين بسطاء.
ويرصد الفصل الرابع في الكتاب علاقة الروائي بالتاريخي أو ما يسمى بالرواية التاريخي، وكيف تستثمر هذه العلاقة جماليا في النص الروائي، وهل هي علاقة «ماضوية» مشدودة للماضي أكثر على حساب الراهن، بحكم أن الأول هو الفاعل السابق على لحظة راهنة لاحقة لا تتشكل بمعزل عنه، حتى لو اتخذت من القطعية المعرفية سبيلا لذلك. ويختبر المؤلف مقاربته النقدية هذه بتطبيقات لافتة على روايات: «أوان القطاف» للكاتب محمود الورداني، و«نهر السماء» لفتحي إمبابي، و«البشموري» للكاتبة سلوى بكر. ويؤكد المؤلف أن الروايات الثلاث تتميز بحضور متنوع للتاريخ، يتراوح ما بين الكثافة والخفة وفي حركة محمومة بالجدل، يتناوب إيقاعها بين المتن والهامش، وفي علاقة تبادلية وضدية معا.



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»