جيل السبعينات في الرواية المصرية

واقع الخطاب القصصي في واحدة من أهم الحقب الأدبية التي شهدتها مصر

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

جيل السبعينات في الرواية المصرية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يختبر يسري عبد الله تحولات فكرة «مساءلة الذات» وتجلياتها فنيا، على مستوى بنية السرد، والتعامل مع الأسطورة والفانتازيا، موضحا كيف تتحول المساءلة نفسها من هاجس يطارد الذات إلى فعل مقاومة يقوي الذات ويمنحها إرادة البحث عن وعاء بديل.
يقدم الناقد الدكتور يسري عبد الله في كتابه «جيل السبعينات في الرواية المصرية - إشكاليات الواقع وجماليات السرد»، شهادة مهمة وضافية، حول واقع الخطاب الروائي في واحدة من أهم الحقب التي شهدتها مصر على مدار تاريخها الأدبي المعاصر، وأفرزت في عباءة تحولاتها السياسية والاجتماعية الحادة موجتين إبداعيتين تبلورتا بشكل أساسي، في الشعر والكتابة السردية، ولا يزال تأثيرهما ممتدا في الحياة الأدبية حتى الآن.
يرصد الكتاب أبعاد هذه التحولات، ويضعها على محور ثنائية «وعي النص ووعي الواقع»، ويحلل مدى التأثير والتأثر بين الوعيين، وطبيعة المسافة بينهما، في لعبة السرد وخيوطها الفنية المتشعبة، وأيضا في لعبة الواقع المأزوم والمحاصر بين سندان هزيمة عسكرية قاصمة في حرب 67، ومطرقة حلم قومي تداعت ملامحه وانفرط عقده الناصري، ووصل إلى ذروة انكساره بتوقيع السادات معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979، كما شهدت مظاهرات الطلبة في عام 1968 التي تعد من أعنف المواجهات مع النظام في تلك الفترة.
تتشكل هذه الشهادة النقدية عبر أربعة فصول يضمها الكتاب الذي يقع في 250 صفحة، وصدر حديثا عن «دار أوراق للنشر» بالقاهرة. ويمهد الكاتب لرؤيته النقدية بالتوقف حول مفهوم «الجيل»، لافتا إلى أن فكرة الجيل تنمو عبر تغير نوعي وكيفي، يضيف إلى شكل وطرائق الكتابة، وليس عبر تراتب كمي، يتعامل مع الزمن من منظور حسابي محض. أيضا يركز الكاتب في هذا السياق على «بنية المساءلة»، باعتبارها خصيصة إبداعية، ومن منطلق أن كل نص يطرح أسئلته الخاصة، كما يناقش فكرة الاغتراب بحقولها الدلالية والفلسفية المتعددة، وعلاقتها بالرواية، في إطار بنية المساءلة نفسها التي تعد المعول النقدي الأساسي في الكتاب، ففي فضائها تتجاور وتتقاطع مساءلة الذات المبدعة ومساءلة الواقع، وكيف من خلال هذا التشابك بينهما يمكن النظر إلى مفهوم الاغتراب نفسه، باعتباره أحد سمات الجوهر الإنساني، ثم كيف يتحول إلى مقوم للسرد، وبؤرة للصراع في الكثير من الأعمال الروائية السبعينية، التي اعتمد عليها الكتاب كساحة للتطبيق النقدي واختبار الكثير من المفاهيم والرؤى النظرية. ومنها أعمال للكتاب: إبراهيم عبد المجيد، فتحي إمبابي، محمود الورداني، محمد المنسي قنديل، سلوى بكر، يوسف أبو رية، نعمات البحيري، رضا البهات، محمد عبد السلام العمري، وهالة البدري.
وخلال فصول الكتاب تتضافر هذه المحاور النقدية في سياق دؤوب من التقليب والنبش لرصد واحتواء الملامح الفنية والمركزات الفكرية بمرجعياتها وحمولاتها الدلالية المتباينة، سواء على المستوى الاجتماعي والسياسي، أو على المستوى النفسي والثقافي، أيضا في إطار جدلية الأنا والمجموع، وما ينضوي تحتها من إخفاقات إنسانية، في العلاقة بين الفرد والمجتمع من ناحية، وفي علاقات الذات المبدعة (الساردة) بموضوع الكتابة.. ففي إطار مساءلة الذات، يراجع المؤلف روايات «أشجار قليلة عند المنحنى» للكاتبة الراحلة نعمات البحيري، و«ليس الآن» للكاتب هالة البدري، و«بيت النار» للكاتب محمود الورداني.
في الفصل الأول يقدم الكتاب قراءة نقدية لافتة وعميقة لهذه الروايات، فغربة الذات في رواية نعمات البحيري، بظلالها المكانية والروحية، تتضافر مع غربة أخرى لذات متورطة ومخدوعة، ومفتتة في ذوات كثيرة، كما في رواية هالة البدري، ويتقاطع هذا مع ذات تبدو مقصاة ومقموعة ومحاصرة تحت وطأة تحولات الظرف السياسي والاجتماعي والثقافي التي سادت الواقع المصري، في فترة السبعينات، خاصة عقب الهزيمة في حرب 1967.
ويختبر يسري عبد الله تحولات فكرة «مساءلة الذات» في أعمال أخرى لهؤلاء الكتاب، كما يرصد تجلياتها فنيا على مستوى بنية السرد، والتعامل مع الأسطورة والفانتازيا، موضحا كيف تتحول المساءلة نفسها من هاجس يطارد الذات إلى فعل مقاومة يقوي الذات ويمنحها إرادة البحث عن وعاء بديل، يحتويها ويضعها في سياق صحيح، ليس فقط مع الإناء نفسه بل مع الوطن والعالم والحياة.
ويرصد الكتاب في الفصل الثاني تجليات «الآخر» في النصي الروائي السبعيني، ويوضح طبيعة الآخر، في إطار علاقة النفي والإثبات التي تربط الأنا بهذه التجليات. ويتوقف المؤلف عند منحنيين مركزيين، يرى أنهما يشكلان سمات وملامح الآخر، ويهيمنان على طبيعة اشتباك النص الروائي معه. المنحنى الأول، وهو ما ينعكس على مرايا السرد في روايتي «بيع نفس بشرية» للكاتب محمد المنسي قنديل، و«مأوى الروح» للكاتب محمد عبد السلام العمري، حيث يظل البطل سجين الغربة في أحد البلدان النفطية، تحت وطأة الضرورة والظروف الاجتماعية القاهرة، وفي ظلال سيكولوجية، مضنية؛ أحيانا تقترن فيها الغربة بالخطيئة. لكن الغربة هنا - حسبما يشير المؤلف - تظل فعلا عارضا ومؤقتا، يمكن التعايش معه خاصة داخل كتلة بشرية متنوعة، لا تقف على القدر نفسه من التضاد مع الأنا. وهو ما يرصده من منظور آخر في رواية «مأوى الروح»، حيث تتحول الغربة إلى مأزق وجود. في المقابل يومض البحث عن مأوى للروح، ليس كحيز أو مساحة للاحتواء، وإنما كنبع دائم للارتواء، تتوحد وتنصهر فيه تعارضات الجسد والروح، وأيضا تعارضات الأنا والآخر. أو محاولة إثبات الوجود، والبحث عن هوية خاصة في إطار ثنائية الأنا (الذكوري) مقابل (الأنا الأنثوي)، كما تتجلى في رواية «يوميات امرأة مشعة» للكاتبة نعمات البحيري.
ويناقش الكتاب في فصله الثالث مفهوم الواقع وعلاقته بالأدب من زوايا متعددة، من حيث الواقع كما هو ماثل بشكله المادي المباشر، وكما ينبغي له أن يكون، وعلى أي كيفية يتجسد في النص الروائي السبعيني، من زاوية عين الكاتب السارد، وتنوع تكنيكاته السردية، ورؤاها الجمالية. ويراجع المؤلف بدقة فنية وتمحيص نقدي متنوع منظوره النقدي على نصوص روائية مهمة للكتاب: محمود الورداني، رضا البهات، إبراهيم عبد المجيد، يوسف أبو رية، فتحي إمبابي.. ويتحفظ المؤلف على التعاطي النقدي الشائع لـ«الواقع» كمفهوم نقدي واضح ودارج، مشيرا إلى أنه مفهوم غامض، أو يتسم بالغموض خاصة في تركيبة مجتمعاتنا التي تنضوي تحت مظلة العالم النامي. ويلفت المؤلف إلى أن معظم كتاب الرواية السبعينية فطنوا إلى هذا، فتعاملوا مع ظلال الواقع، لكي تتوافر أمامهم مساحة حية لفهمه وإعادة قراءته ومساءلته ومحاكمته، في إطار التحولات السياسية والثقافية التي حدثت في السبعينات وما بعدها. وهي تحولات لمسوها وعاشوها وانخرطوا فيها كمبدعين، ومواطنين بسطاء.
ويرصد الفصل الرابع في الكتاب علاقة الروائي بالتاريخي أو ما يسمى بالرواية التاريخي، وكيف تستثمر هذه العلاقة جماليا في النص الروائي، وهل هي علاقة «ماضوية» مشدودة للماضي أكثر على حساب الراهن، بحكم أن الأول هو الفاعل السابق على لحظة راهنة لاحقة لا تتشكل بمعزل عنه، حتى لو اتخذت من القطعية المعرفية سبيلا لذلك. ويختبر المؤلف مقاربته النقدية هذه بتطبيقات لافتة على روايات: «أوان القطاف» للكاتب محمود الورداني، و«نهر السماء» لفتحي إمبابي، و«البشموري» للكاتبة سلوى بكر. ويؤكد المؤلف أن الروايات الثلاث تتميز بحضور متنوع للتاريخ، يتراوح ما بين الكثافة والخفة وفي حركة محمومة بالجدل، يتناوب إيقاعها بين المتن والهامش، وفي علاقة تبادلية وضدية معا.



إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).


كؤوس فخارية من موقع مليحة في الشارقة

كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة
كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة
TT

كؤوس فخارية من موقع مليحة في الشارقة

كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة
كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة

كشفت أعمال المسح والتنقيب المتواصلة منذ بضعة عقود في دولة الإمارات العربية المتحدة عن سلسلة من المواقع الأثرية، من أبرزها مستوطنة مليحة التي تمتد في سهل داخلي إلى الغرب من سلسلة جبال الحجر، وتبعد نحو 50 كيلومتراً شرق مدينة الشارقة. بدأ استكشاف هذه المستوطنة في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وتواصل في العقود التالية، حين عمدت بعثة أثرية فرنسية إلى إجراء سلسلة من الحفريات، ساهمت في إلقاء الضوء على تاريخ هذه المنطقة التي شكّلت في الماضي مركزاً تجارياً وسيطاً، كما تشهد مجموعات اللقى المتنوّعة التي خرجت من بين أطلالها، ومنها كؤوس فخارية برتقالية اللون، قيل إنّها مستوردة من إيران.

أجرت البعثة الأثرية الفرنسية في مطلع عام 2010 حملة تنقيب في مليحة مدى أربعة أسابيع، وكان الهدف الأساسي لهذه الحملة العمل على توثيق الدور النهائي للاستيطان في هذا الموقع الاستثنائي خلال القرون الميلادية الأولى. حسب تقرير خاص بهذا الموسم من التنقيب نُشر في العدد 13 من «حولية آثار الشارقة»، خرجت من بين أطلال مليحة مجموعة من الحلى الذهبية بدت غير مألوفة في طبقات الاستيطان الخاصة بهذا الموقع، ومجموعة من المسكوكات منها قطعة محلية، وختم مصنوع من عجينة زجاجية، صيغ على شكل أسد مضطجع، مع نقش بالخط الآرامي، إضافة إلى العديد من اللقى الخشبية والعاجية التي تعود إلى قطع مهشّمة. في هذا السياق، خرجت الحملة بمجموعة كبيرة من اللقى الفخارية، منها قطع محلية الصنع، وقطع مصدرها وادي السند، و«كأس إيرانية ذات طينة برتقالية مصبوغة، وُجدت مبعثرة مع كُسر تعود لكأس أخرى».

حمل هذا التقرير صورة لهذه الكأس «المستوردة من إيران»، وهي كأس تمّ ترميمها لاحقاً بشكل دقيق، وتتميّز بحلّة زخرفية مطلية باللون الأسود، تجمع بين التقاسيم الهندسية المجرّدة وصورة حيوانية محوّرة تمثّل كما يبدو وعلاً يقف ثابتاً على قوائمه الأربع، في وضعية جانبية تخلو من أي حركة. يزين قمّة هذه الكأس شريطان زخرفيان تختلف المفردات التشكيلية الخاصة بكلّ منهما. يتبنّى الشريط الأعلى زينة قوامها سلسلة من الدوائر اللولبية تحلّ بين خطين أفقيين، ويتبنّى الشريط الموازي شبكة من الخطوط الملتوية تحلّ بين خطّين مشابهين. يقابل هذين الشريطين شريط ثالث يُزّين قاعدة هذه الكأس، وقوامه كذلك سلسلة من الدوائر اللولبية، تُماثل في تكوينها تلك التي تُكلّل هذه القطعة الفخارية. يظهر وسط هذه الشرائط الزخرفية وعل يقف بثبات تحت قوس عريضة، تزيّنه شبكة من الخطوط العمودية المرصوصة كأسنان المشط.

صُوّر هذا الوعل بشكل تحويري في وضعية جانبية، مجرّداً من أي تفاصيل مادية توحي بالثقل. الرأس صغير، ويعلوه قرنان ضخمان مقوّسان يبلغان طرف الظهر. العنق طويلة، وهي كذلك مقوّسة، وتشكّل امتداداً للصدر النحيل. القوائم الأربع ظاهرة، وهي مجرّدة من المفاصل، وتبدو أشبه بأربعة خطوط متوازية. قمّة الظهر مدبّبة، وتوازي في استدارتها قوس العنق. يتكرّر هذا التأليف على كأس مشابهة، حيث يعود الوعل ويحلّ وسط مساحة مجرّدة غاب عنها القوس المزخرف بخطوط عمودية. يظهر الحيوان هنا مع قرنين طويلين متوازيين حدّدا بشكل مغاير، ويبدو وجهه أكبر حجماً، وعنقه أعرض. الحلّة الزخرفية واحدة، وتتمثّل في ثلاثة شرائط صيغت بشكل مماثل.

نقع على كأس ثالثة تتبع هذا الطراز الخاص، وفيها يتحوّل الوعل إلى عقرب، كما يوحي ذيله اللولبي الكبير الملتف من خلف رأسه. تزيّن قمة هذه الكأس سلسلتان متوازيتان من الدوائر اللولبية، وتزيّن قاعدته سلسلة ثالثة مماثلة في التكوين. يقف العقرب بثبات على شريط مكوّن من ثلاثة خطوط أفقية متوازية، وسط قوس عريض زُيّن بشبكة من الخطوط المتقاطعة على شكل مكعبات صغيرة متراصة.

تتشابه كؤوس مليحة الثلاث من حيث التكوين، ويبلغ طول كل منها نحو 16 سنتيمتراً، وقطرها نحو 15 سنتيمتراً. تتبع هذه القطع الفخارية طرازاً فنياً راسخاً في القدم، تحوّل إلى طراز جامع عابر لحدود أقاليم الشرق القديم. تعود أقدم شواهد هذا الطراز المعروفة إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد، ومصدرها مدينة شوشان العريقة التي تُعرف اليوم باسم سوسة، وتتبع في زمننا محافظة خورستان، حيث تقبع في أسفل جبال زاغروس، بين نهر دجلة ونهر كرخة ونهر دز. بقي هذا التقليد الفني حياً على مدى عصور من الزمان، وبلغ نواحي متباعدة من أقاليم الشرق القديم، ودخل نواحي عديدة من الجزيرة العربية.

تعود كؤوس مليحة كما يبدو إلى القرن الميلادي الأوّل، وتمثّل من هذا المنظار آخر تجليات هذا الطراز الفني العريق. يأخذ هذا الطراز هنا شكلاً متقشّفاً متواضعاً يخلو من الرهافة، غير أنه يحافظ على الجاذبية التي تميّز بها أسلوبه في أشكالها المتعدّدة العابرة للأزمان.