عملية الكرك نقلة مهمة في المواجهة بين الأردن والإرهاب الراديكالي

الأواصر العائلية والعشائرية عامل جديد في المعادلة

قوات أمن أردنية خارج بوابات قلعة الكرك بعد الهجوم الإرهابي الدامي في النصف الثاني من الشهر الماضي («الشرق الأوسط»)
قوات أمن أردنية خارج بوابات قلعة الكرك بعد الهجوم الإرهابي الدامي في النصف الثاني من الشهر الماضي («الشرق الأوسط»)
TT

عملية الكرك نقلة مهمة في المواجهة بين الأردن والإرهاب الراديكالي

قوات أمن أردنية خارج بوابات قلعة الكرك بعد الهجوم الإرهابي الدامي في النصف الثاني من الشهر الماضي («الشرق الأوسط»)
قوات أمن أردنية خارج بوابات قلعة الكرك بعد الهجوم الإرهابي الدامي في النصف الثاني من الشهر الماضي («الشرق الأوسط»)

مع الأحداث الأخيرة التي وقعت في مدينة الكرك الأردنية، دخلت المواجهة بين تنظيم داعش الإرهابي المتطرف والمملكة الأردنية الهاشمية مرحلة جديدة مع استهداف مباشر للمؤسسات الأردنية، وإمكانية الاستفادة من المجندين المحتملين الذين قد يتحولون إلى قنابل موقوتة في يد التنظيم. فالمواجهات بين المسلحين خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) المنصرم، أودت بحياة 10 أشخاص 7 منهم من رجال الأمن الأردنيين وإصابة 34 آخرين. ولقد بدأت أعمال العنف حين سمع أحد مالكي المباني الواقعة في بلدة القطرانة، بجنوب الأردن، صوت انفجار صادرا عن إحدى الشقق السكنية التي يملكها. وعلى الإثر اتصل بالشرطة للإبلاغ عن اشتباهه برائحة متفجرات وحريق. وبعدها انطلقت المواجهات بين الشرطة والمسلحين الذين فروا باتجاه قلعة الكرك التاريخية التي تعرف بأنها موقع سياحي يعج بالسياح، وأخذوا يطلقون النار باتجاه الشرطة كما المدنيين.
يشير الباحث مروان شحادة، الخبير في الحركات الإسلامية والراديكالية، أن العملية الإرهابية التي شهدتها مدينة الكرك، الواقعة إلى الجنوب من العاصمة الأردنية عمّان، خلال ديسمبر (كانون الأول) المنصرم، واستهداف أحد المراكز الحكومية بالذات «تعد من أخطر التحولات السياسية التي اعتمدها داعش في الأردن حتى الآن». ذلك أن هذا الهجوم الذي يأتي في أعقاب المواجهات الأخيرة التي حصلت خلال شهر يونيو (حزيران) الفائت على موقع الرقبان على الحدود السورية، حيث قضى ثلاثة من حراس الحدود في تفجير انتحاري تبناه في حينه تنظيم داعش. ولقد أظهر شريط مصوّر للحادثة شاحنة تبعها انفجار ضخم هز المكان. وبعد أسبوعين من ذلك وصل أحد الرجال الذي حدّدت هويته لاحقًا بمحمود المشارف، إلى حاجز للمخابرات في مخيم البقعة الفلسطيني وراح يطلق النار موديًا بحياة خمسة موظفين قبل أن يلوذ بالفرار، ليجري اعتقاله في وقت لاحق.
للعلم، كان ثمة اختلاف كبير بين الهجومين. ففي حين اعتبر محمود المشارف «ذئبًا منفردًا» ولو كان له ماضٍ إجرامي، شكل هجوم الرقبان على الحدود السورية هجومًا مدروسا تكتيكيا على بلد عربي يلعب دورًا أساسيا في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش.
وبالعودة إلى شهر مارس (آذار) الماضي خلف هجوم خطر على مدينة إربد، كبرى مدن شمال الأردن القريبة من الحدود السورية، أسئلة كثيرة بعد مواجهات غير مسبوقة دامت ساعات طويلة بين قوات الأمن وخلايا نائمة تابعة لـ«داعش» ارتبط اسمها بتهريب المخدرات. وأدت هذه المواجهات يومذاك إلى قتل سبعة إرهابيين ورجل أمن واحد وتم وضع اليد على الكثير من الأسلحة والمتفجرات. ولقد أعلنت السلطات الأردنية في حينه أنها أحبطت مخطط خلايا إرهابية مرتبطة بـ«داعش» كانت ستستهدف مواقع للمدنيين والعسكريين.
* فتّش عن «داعش»
ومن الواضح الآن تمامًا إذن أن جميع هذه الهجمات يقف جزئيا وراءها تنظيم داعش، وهو يحاول من خلالها نقل نشاطه إلى الخارج بينما يواجه حربا شرسة تشن عليه في الداخل، كما يسعى هذا التنظيم المتطرف في الوقت عينه إلى بعث رسائل لإثبات قوته ورفع معنويات مناصريه في الحرب الحالية. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن لهذه الهجمات دلالات تشير إلى نقل المواجهات نحو اتجاهات جديدة.
أحداث الكرك تشير فعلاً إلى أن تنظيم داعش بات الآن في وضع «حرب مفتوحة» مع سلطات المملكة الأردنية الهاشمية، وبالتالي، يعتبر أي عنصر في الجيش أو الأمن الأردني عدوًا له.
وهذا ما يذهب إليه الباحث شحادة عندما يقول شارحًا «تشير عملية الكرك إلى تحول المعركة مع الدولة الأردنية التي كانت في الماضي معركة تصريحات وانتقلت اليوم إلى معركة ميدانية».
لقد نجحت المملكة الأردنية بتوقيف عدد من مقاتلي «داعش» منها خلية «أبو قتيبة المجالي» التي كان هدفها تجنيد الشباب للقتال في سوريا والعراق، ويعتبر «أبو قتيبة» من أبناء إحدى أكبر عشائر الأردن، وهو مرتبط بعملية الكرك. إضافة إلى حازم أبو رمان، الذي كان يقاتل مع «داعش»، والذي رغم إعلان وفاته يرجح أنه دخل خلسة إلى الأردن ونجح في تنفيذ العملية. أضف إلى أن مستوى المقاتلين في معركة الكرك تميز بمستوى تدريب عالٍ جدا.
وفي الوقت الذي عانت الأردن طويلا من الجماعات الراديكالية، نرى اليوم أعدادا متزايدة من المناصرين لآيديولوجيا الدواعش الذين ينفذون عملياتهم معتمدين نموذج عمل «الذئب المنفرد» ونموذج «الخلايا النائمة»، مبتعدين أكثر فأكثر عن مراكز العمل القتالي التقليدي.
وفي هذا السياق عزا الباحث شحادة الانجذاب نحو «داعش» إلى عناصر عدة، أبرزها خطاب «داعش» الدموي، فهذا التنظيم – وفق شحادة – يمثل الجماعة الوحيدة بين الجماعات الإسلاموية الشعارات التي أعلنت «الخلافة» (المزعومة)، وطبقت ما تعتبره «الشريعة» بالنسبة لشريحة الشباب المستهدفين لها، ومفهوم «الخلافة» جاذب للشباب الملتزم «وهو يمثل حلمهم النهائي الذي يسعون لتحقيقه».
فضلا عن ذلك، فإن الحوادث التي وقعت في الكرك إنما تسلط الضوء أيضا على أهمية العلاقات العائلية ضمن الشبكات الإرهابية، الأمر الذي بدا واضحًا ضمن الشبكات الإرهابية اللبنانية الأسترالية التي كانت تربطها روابط عائلية. وهنا يقول محمد أبو رمان، الخبير الأردني في الحركات الإرهابية: «إن هناك نموًا ملحوظًا لهذه الظاهرة خلال الأعوام الماضية في الأردن، وعناصر القرابة والنسب والصداقة سيكون لها تأثير كبير في عملية التجنيد».
ويلاحظ أبو رمان أنه «ليس بعيدًا عن علاقة القرابة أو النسب بين القتلى الإرهابيين من خلية الكرك، نجد قصة شقيقين آخرين قُتلا في العراق وسوريا وهما يقاتلان في صفوف داعش». الأول، كان طالب هندسة وخطيب مسجد لم يكمل دراسته الجامعية، وقتل في عملية انتحارية في العراق بداية العام 2013 (وهو من مواليد العام 1989). والثاني شقيقه الأصغر (مواليد العام 1991) أنهى التمريض في جامعة مؤتة الجناح المدني، وكان أيضًا خطيبًا متطوعًا في مسجد، وقُتل في حزيران من العام الماضي (2015) في سوريا، ونعاه «داعش» وأفردت مجلة «دابق» موضوعًا كاملاً عنه، لانتقاله من التشدد التقليدي إلى الراديكالية القتالية. وقام التنظيم لاحقا بإعلان غزوة حملت اسمه، في إشارة لمكانته في «داعش»؛ إذ أصبح أميرا للتنظيم في إحدى المدن السورية.
وحسب الخبير أيضًا «نجد أنّ بعض القتلى في الكرك تربطهم صلة قرابة بآخرين انتقلوا إلى داعش، وقُتل أحدهم خلال عملية انتحارية هناك. وثمة آخر ما يزال يقوم بدور فاعل مع التنظيم، وله موقع مهم فيه. وهناك أحد أبناء المدينة يدعى (أبو غادة)، الذي يعتبر من الأعضاء البارزين في المجلس العسكري في داعش، أي في القيادة».
ومن ثم، يعتبر محمد أبو رمان أن دور الشبكات العائلية والصداقات ليس ظاهرًا في الكرك فحسب، بل يبرز بوضوح أيضًا في مدينتي السلط ومعان الأردنيتين أيضًا، ويمكن بسهولة ملاحظته عند تتبّع صفحات خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، أُسّست لنعي من يُقتلون من أبناء المدينتين في العراق وسوريا وتنطبق هذه الظاهرة نفسها على المدن مثل عمّان وإربد والزرقاء والرصيفة.
وأخيرا، لا بد من النظر في هذه الاتجاهات من ناحية مكافحة الإرهاب بما أنها تؤمن معلومات مهمة حول تطور ساحة التشدد في الأردن وقد تمهد الطريق إلى إمكانية مكافحتها. وبغض النظر عن ذلك، يبدو أن الأردن على شفير تصعيد خطر مع «داعش».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.