كتاب ينافسون نجوم الغناء والسينما

أعمالهم تباع بالملايين ويحتكرون قائمة الأكثر مبيعا

كتاب كويلو «الخيميائي» يحتل المرتبة الأولى في قائمة الكتب المترجمة إلى لغات أخرى - دان براون - جي.كي. رولينغ - ستيفن كينغ
كتاب كويلو «الخيميائي» يحتل المرتبة الأولى في قائمة الكتب المترجمة إلى لغات أخرى - دان براون - جي.كي. رولينغ - ستيفن كينغ
TT

كتاب ينافسون نجوم الغناء والسينما

كتاب كويلو «الخيميائي» يحتل المرتبة الأولى في قائمة الكتب المترجمة إلى لغات أخرى - دان براون - جي.كي. رولينغ - ستيفن كينغ
كتاب كويلو «الخيميائي» يحتل المرتبة الأولى في قائمة الكتب المترجمة إلى لغات أخرى - دان براون - جي.كي. رولينغ - ستيفن كينغ

على عكس ما تخبرنا به التقارير السابقة، القراءة لم تختف من الوجود، بل هي أبعد ما تكون عن ذلك؛ فالكاتب البرازيلي باولو كويلو له عدد كبير من القراء، وأدرجت أشهر كتبه، وهي «الخيميائي»، التي تروي قصة راعي غنم شاب من الأندلس يشرع في تنفيذ مهمة شخصية يقضي فيها ثمانية أعوام، وهي مدة فترتين رئاسيتين، على قوائم الكتب الأكثر مبيعًا، كذلك تمت ترجمة الكتاب إلى 81 لغة. مع ذلك ليس «الخيميائي» سوى أحد أعمال كويلو، التي يربو عددها على الثلاثين. وصدر كتابه «الجاسوس» في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وبلغ عدد النسخ المبيعة منه 350 مليون نسخة تقريبًا. الكتب إذن، هذه الأعمال الزاخرة بالكلمات، التي كان من المتوقع أن يتخلى عنها الناس منذ فترة طويلة تحت تأثير المقاطع المصورة، والمدونات، والنشرات الصوتية، لا تزال تجد قراء، وبالملايين.
وليس كويلو وحده في هذا المجال؛ فقد بلغ عدد النسخ المبيعة لأعمال ستيفن كينغ، سيد الرعب، التي تزيد على الخمسين مؤلفا، 350 مليون نسخة. ولدان براون ملايين القراء أيضًا؛ فقد بلغ عدد النسخ المبيعة من كتابه «شفرة دافنشي» فحسب، التي ربما تكون في مكتبتك بالفعل، 80 مليون نسخة. وتتصدر أعمال مثل «الصافرة» لجون غريشام الآن قوائم الكتب الأكثر مبيعًا، ومن المؤكد أن نسخ من كتاب كينغ «نهاية المناوبة» كانت تحت أشجار عيد الميلاد في مختلف أنحاء أميركا، أو وجدت نسخ من أعماله السابقة داخل علب هدايا أعياد الميلاد.
هناك كتّاب أعمالهم من الكتب الأكثر مبيعًا، وهناك مؤلفون حققت أعمالهم مبيعات هائلة، حيث بلغ عدد النسخ التي بيعت من أعمالهم مائة مليون نسخة أو يزيد. من هؤلاء الكتّاب كين فوليت، ونورا روبرتس، وجيمس باترسون، وستيفاني ماير، وربما يكون هناك المزيد.
نحن نعيش في زمن يواجه فيه الترفيه عراقيل كثيرة، حيث لم يعد الكثيرون يذهبون إلى دور السينما، أو يشترون أقراصا مدمجة، أو يشاهدون التلفزيون، وتبحث الأجيال الشابة عن التسلية على هواتفهم في أغلب الأحوال. مع ذلك لا يزال هناك أشخاص يشترون عددًا لا يحصى من الكتب، أكثرها أعمال لمؤلفين لا يزورون قائمة الأكثر مبيعًا كثيرًا فحسب، بل يقيمون فيها. وليس لدى المؤلفين، الذين تباع نسخهم بالملايين، قرّاء فحسب، بل لديهم معجبون أيضًا مثل نجوم الروك، يحرصون حتى على حضور الفعاليات، التي يقيمها المؤلفون، مثل فعاليات نيكولاس سباركس.
تباع أعمال هؤلاء المؤلفين في كل مكان مثل المتاجر التي تبيع المنتجات بأسعار منخفضة، والصيدليات، والسوبر ماركت؛ وكذلك لا تخلو منها أي منصة في مطار للباحثين عن كتاب يرافقهم في السفر. ويعد التطور التكنولوجي من الأسباب وراء تحقيق تلك المبيعات المذهلة، بفضل الكتب الإلكترونية، وتسارع وتيرة الطباعة، والتوزيع. منذ فترة ليست بالبعيدة، كان على بائعي الكتب، والقراء الانتظار فترة طويلة للحصول على طبعات إضافية لرواية حققت نجاحًا كبيرًا؛ أما اليوم إذا كنت تريد نسخة من كتاب «اعبر الخط» لباترسون، أو «اثنين اثنين» لسباركس، ونفدت النسخ في المكتبة القريبة منك، فيمكنك تنزيل نسخة إلكترونية من الكتاب من خلال الإنترنت في دقائق معدودة، أو طلب نسخة ورقية من موقع «أمازون» لتصلك في اليوم التالي. كذلك يمكن لبائع الكتب في الحي الذي تسكن به الحصول على نسخة في نهاية الأسبوع.
وقد يُعزى نجاح هذه الأعمال إلى تنامي تأثير السوق الدولية، رغم أن وجود الكثير من البصمات الأجنبية، وتنوع صيغ النشر، بين النسخ الورقية والإلكترونية، يمكن التكهن بإجمالي المبيعات على مستوى العالم بشكل تقديري فحسب. ومن بين المؤلفين، الذين حققت أعمالهم مبيعات هائلة روبرتس، ودانييل ستيل، وديبي ماكومبر، وأر. إل. ستاين، ماكينة غزل قصص الرعب للأطفال، وسباركس، شاعر الحب، الذي لا يحب حصره داخل تصنيف الرومانسية، وجي. كي. رولينغ، سيدة السحر البريطانية، التي تقدر مبيعات كتبها بأكثر من 450 مليون نسخة، وإي. إل. جيمس، وغريشام، وكينغ، وبراون، ودين كونتز، وجيفري أرشر، وديفيد بالداتشي، وماري هيغينز كلارك، سحرة كتب الإثارة.
كيف تصبح كاتبًا ناجحًا جدًا مثل هؤلاء؟ الكتابة لا تكفي، رغم أنه تمت قراءة بعض تلك الروايات على هذا النحو. تتنوع جودة الكتابة والسرد بدرجة كبيرة، لكن هناك بعض أوجه الشبه بين الكتّاب الناجحين. إنهم بالأساس منتجون بشكل استثنائي، حيث ينشرون أعمالهم بانتظام يشبه عمل الساعة السويسرية، أي مرة أو مرتين سنويًا، بل وشهريًا في حالة باترسون، الذي يعد صناعة بحد ذاته، بفضل فريق الكتّاب الذين يعملون معه، أو روبرت ليدليم، الذي لا تزال سلسلة أعماله «بورن»، وغيرها من الكتب تنشر لفترة طويلة بعد وفاته عام 2001 بفضل المؤلفين الذين يكتبون باسمه.
يقول جيمي راب، رئيس دار نشر «غراند سنترال بابليشينغ»، التي حصلت على حقوق نشر أول رواية لسباركس «دفتر التدوين» حين كان مندوب بيع عقاقير غير معروف: «لا يمكنك أن تكون أعجوبة بكتاب أو اثنين؛ إذ قد يجذب المؤلفون مثل سباركس الكثير من القراء في البداية، لكن يجب الاحتفاظ بهم».
نادرًا ما يتعامل كبار الكتّاب مع شعبيتهم باعتبارها أمرًا مسلما به، حيث يذهبون إلى حيث يوجد القرّاء، ويحرصون على التواجد بين الشباب لفترة طويلة بعد ترسيخ أقدامهم كتّابا، وجني ثروة، والوصول إلى النجومية. في يونيو (حزيران)، قام كينغ بعمل جولة مع روايته «نهاية المناوبة» في دايتون، في ولايتَي أوهايو، وتولسا، ومقاطعة سولت ليك سيتي، وهي أماكن بدأ يتجه إليها مؤلفو الأعمال الأدبية. كذلك يحرص أصحاب الأعمال، التي تحقق مبيعات هائلة، على إبقاء المواقع الإلكترونية نشطة، وكذلك يتواجدون على مواقع التواصل الاجتماعي بقوة. على سبيل المثال، وصل عدد المعجبين بصفحة براون على موقع الـ«فيسبوك» إلى 6.5 مليون.
مع ذلك، يقدم أكثر هؤلاء المؤلفين قصصًا رائعة؛ ففي رواياتهم، وبخاصة روايات الإثارة والمغامرات، والخيال العلمي، تكون الحبكة الدرامية هي الأهم؛ ويمكن الإحساس بقرب أبطال الرواية من النفس، حيث يتسمون بصفات مثل الخجل، والقلق، وقصر النظر، والانكسار، والتعافي، وسرعة الغضب، وينتمون إلى الطبقة المتوسطة، لكنهم يعيشون قصصا مذهلة، مشوقة، تمثل فرصة للقارئ للهرب من حياته اليومية. في الروايات الرومانسية يكون للحب وضع متميز، ومقدر، يتحدى المنطق والسببية.
تقول سوزان هيرز، نائبة رئيس دار نشر «دابلداي» التي تتولى تشر أعمال غريشام وبراون «لا يمكن التقليل من قدر الترفيه الذي يقدمه أولئك المؤلفون. هناك دائمًا موضوع الصراع مثل صراع داود وجالوت؛ فأنت تريد أن ينتصر البطل في النهاية»، وذلك لأن الأبطال يستحقون ذلك. أما نان غراهام من دار نشر «سكريبنر»، التي تقوم بتحرير أعمال كينغ، فتقول «من الأمور التي تجعل كينغ شخصًا استثنائيًا هو إبحاره في المنطقة الوسطى بين العادي والفائق للعادة، لكنه دائمًا ما يبدأ بالرجل العادي. وينتمي الكثير من أبطال رواياته إلى الطبقة العاملة؛ وهم من وسط أميركا».
وتتفق معها في ذلك ريغان آرثر، صاحبة دار نشر «ليتل بروان»، التي تنشر أعمال لمؤلفين منهم باترسون، وماير، ومايكل كونيلي (60 مليون نسخة). وتشير إلى أن الأبطال في روايات أولئك الكتّاب يمكن الاعتماد عليهم، حيث يعود إليهم القارئ، مع تقديم قصة تمثل فرصة للهرب. وبالطبع، لا يمكن التقليل من قوة شخصية شريرة مكتوبة جيدًا يمكن للقارئ اتخاذ موقف ضدها.
هل من السهل النجاح؟ لا
لو كان الأمر كذلك لتمكّن عدد أكبر من المؤلفين من بيع ملايين الكتب، كما إن النجاح لا يتحقق دائمًا مع أول كتاب، كما في حالة جيليان فلين، التي نشرت كتابين قبل أن يحقق كتابها «الفتاة الراحلة» نجاحًا باهرًا، وبيع منه أكثر من 15 مليون نسخة. ولا يوجد أي شيء يضمن تكرار هذا الأمر.

* خدمة «واشنطن بوست»



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟