أيام في جيبوتي (2 - 3) : جيبوتي تسعى إلى دبي «اقتصاديًا» وشرم الشيخ «سياحيًا»

فتحت الباب لدخول استثمارات بمليارات الدولارات

ميناء جيبوتي البحري يغص بمئات الآلاف من الحاويات التي تنتظر النقل إلى وسط أفريقيا («الشرق الأوسط»)
ميناء جيبوتي البحري يغص بمئات الآلاف من الحاويات التي تنتظر النقل إلى وسط أفريقيا («الشرق الأوسط»)
TT

أيام في جيبوتي (2 - 3) : جيبوتي تسعى إلى دبي «اقتصاديًا» وشرم الشيخ «سياحيًا»

ميناء جيبوتي البحري يغص بمئات الآلاف من الحاويات التي تنتظر النقل إلى وسط أفريقيا («الشرق الأوسط»)
ميناء جيبوتي البحري يغص بمئات الآلاف من الحاويات التي تنتظر النقل إلى وسط أفريقيا («الشرق الأوسط»)

«ما نقوم به في جيبوتي، في الحقيقة، يهدف إلى تحويل بلدنا، خلال السنوات المقبلة، إلى شرم الشيخ سياحيا، ودبي اقتصاديا». هكذا يقول وزير السياحة المكلف أيضا بوزارة التجارة في جيبوتي، علي داود عبدو.
يطل مكتب عبدو على الشارع الرئيسي في قلب العاصمة، ومن هنا إلى مكتب وزير الإعلام والاتصالات، عبدي يوسف سجيه، عبر عدة شوارع، تبدو حركة السيارات والناس أكبر مما كانت عليه في الماضي؛ فقد فتحت عدة بنوك وشركات أجنبية أبوابها، ومن المتوقع أن تستقطب البلاد مزيدا من الاستثمارات. يقول الوزير سجيه، وهو يشير بيده إلى الجهة الأخرى: «سوف تبدأ شركة هندية في إقامة مركز ضخم للاتصالات والإنتاج الدرامي».
ولا يخلو بهو فندق من فنادق جيبوتي من جلسة لمجموعة من المستثمرين الطامحين سواء كانوا من أبناء جيبوتي أو من جنسيات أخرى جاءوا إلى هنا لاغتنام الفرص الجديدة.
رأسمال البلاد الكبير كما يقول المسؤولون، هو الأمن والهدوء وسط محيط تكثر فيه النزاعات. ويوضح أحمد محمد، السوداني الجنسية، الذي يدير شركة «شرق أفريقيا للمواشي والتجارة العامة»، انطلاقا من جيبوتي، أن «جيبوتي ستكون سنغافورة أفريقيا خلال المرحلة المقبلة. نعمل على هذا الأمل. والفرص كثيرة».
تنقسم جيبوتي إلى ثلاث شرائح رئيسية؛ الفقراء والطبقة الوسطى والأثرياء. وكل شريحة تضم وافدين من جنسيات مختلفة؛ من إثيوبيا، والصومال، واليمن، والسودان، وغيرها. خليط من اللغات والثقافات التي تمكنت من التعايش سويا طيلة عشرات السنين. في الأسواق الشعبية مثل سوق الدبداب، الذي يقع فيه مسجد الشيخ حمودي أقدم مساجد جيبوتي، تبث موجات الراديو الأخبار والأغاني باللغات الصومالية والعفرية والفرنسية والعربية. وكلٌ يضع مؤشر الراديو على لغته.
ووسط هذا اللغط ينادي الباعة على الملابس الجديدة القادمة من الخليج ومصر وعلى أنواع الهواتف المستوردة من الصين وعلى أجولة التوابل والقات الواردة من إثيوبيا. ومن بين هؤلاء الباعة الفقراء شبان، مثل خالد، ممن جرى تسجيل أسمائهم ضمن ألفي عامل سوف يتم ضمهم للعمل في ميناء دورالي البحري بعد الانتهاء من توسيعه. وخالد (27 عاما) تزوج مبكرا مثل غالبية الطبقة الفقيرة في جيبوتي ولديه ستة أطفال.
وفي الفنادق المتوسطة والكبيرة حيث يقيم الأجانب، تغص المقاهي والكافيتريات الملحقة بها، برجال الطبقة الوسطى من جيبوتي ومن البلاد المجاورة. هؤلاء يحاولون تطوير أعمالهم في الموانئ وفي الحظائر الجمركية لمواكبة النمو الاقتصادي، الذي وصل إلى 6 في المائة، مع العمل على فتح مسارات مع الدول الأخرى سواء في الداخل الأفريقي أو في منطقة الشرق الأوسط والخليج، مثل السوداني، مدير شركة «شرق أفريقيا للمواشي والتجارة العامة»، قائلا إنه يسعى لفتح أسواق جديدة لتصدير المواشي في المنطقة.
أما الطبقة الثرية التي تسهم بشكل كبير في ضخ العملات الأجنبية في البلاد، فتتكون من مستثمرين كبار يعكفون على بناء مراكز تجارية وترفيهية مجمعة، ويطمحون في اقتناص فرص جديدة في الموانئ التي يجري بناؤها على سواحل جيبوتي وفي اثنين من المطارات الدولية الجاري تأسيسها. من بين هؤلاء صينيون وهنود وأوروبيون.
ويقيم معظمهم في فنادق الخمس نجوم باهظة التكلفة مقارنة بنظيراتها في دول أخرى؛ إذ يبلغ سعر الغرفة في مثل هذه الفنادق نحو 220 دولارا لليلة. ويقول علي أحمد تبيع، مدير ورئيس شركة «لافياثان»، ومقرها المنطقة الحرة: «نعمل على تقديم الخدمات للشركات الأخرى التي تسعى لفتح مشروعات في إثيوبيا ودول قريبة انطلاقا من جيبوتي».
لك الخيار في شرب فنجان قهوة في المقاهي التي يديرها وافدون سنغاليون وإثيوبيون ويمنيون، والمبنية بالبوص والقماش على الشاطئ بسعر لا يزيد على خمسين فرنكا، أي نحو ربع دولار، أو الانتقال إلى الشارع الآخر، مثل شارع بلاتوه دي سربون، حيث يبلغ سعر فنجان القهوة خمسة آلاف فرنك. ويؤدي هذا الشارع إلى منطقة السفارات الغربية ومقار المنظمات الدولية والفنادق الفخمة المطلة على الضفة المقابلة من البحر، التي يقيم فيها رجال الأعمال الكبار.
ويقول الوزير علي داود عبدو: «توجد مشروعات كثيرة تريد الدولة أن تستثمر فيها ضمن رؤية جيبوتي لعام 2035، ومنها ما يرتكز على قطاع السياحة بشكل أساسي، وبخاصة أن السياحة شهدت نموا متزايدا بداية من عام 2000؛ حيث بلغ عدد السياح 72385 سائحا في السنة، مشيرا إلى أن هناك مشروعات سياحية كثيرة في الطريق، في منطقة بحيرة لاك عسل، وقابة بيه، وفوريدي بيه، وغيرها من المناطق الواعدة».
ويضيف قائلا: «كما تعرفون جيبوتي تقع في منطقة استراتيجية... ومقارنة ببعض دول الإقليم المضطربة فإن رأسمال جيبوتي هو الأمن والاستقرار، والحكومة لديها مشروع لاستثمار هذا الأمن لجذب الاستثمارات سواء كانت غربية أو خليجية أو من أي دولة عربية أخرى».
وينتظر أن تشهد محافظة «أُبخ» مشروعات ضخمة، وبخاصة في مجال السياحة وإصلاح السفن، مع إقامة مطار لنقل السياح ورجال الأعمال مباشرة إلى المحافظة دون الحاجة للمرور بالعاصمة. وتقع «أبخ» على البحر في مواجهة باب المندب، وتوجد بالقرب منها سبع جزر تصلح للغوص.
ويؤكد الوزير أن رؤية بلاده أن تتحول إلى «دبي صغيرة في مجال الاستثمارات» و«شرم الشيخ أو إندونيسيا في مجال السياحة»، مشيرا إلى أن جيبوتي تقع على ثاني أهم طرق التجارة العالمية، والحكومة أدركت هذه النقطة، ولهذا سوف تفتتح قريبا كثيرا من الموانئ البحرية مثل ميناء تاجورة وميناء عسل. و«هناك أكثر من سبعة موانئ بالإضافة إلى ميناء جيبوتي، وكل هذه الموانئ سوف تخدم مجموعة دول الإيغاد والكوميسا، إضافة إلى التجارة الدولية».
ولم يعد المطار الحالي قادرا على استيعاب التطورات الاقتصادية والتنموية في البلاد. وسيؤدي افتتاح مطارين جديدين إلى نقلة مختلفة في مسار التطور في جيبوتي، كما يؤكد المسؤولون هنا.
وتقوم بتشييد المطارين شركة صينية. ويقع المطار الأول، واسمه مطار «حسن غوليد»، وهو اسم أول رئيس لجيبوتي، على بعد نحو 25 كيلومترا جنوب غربي العاصمة، وسيتم افتتاحه خلال عام 2018 وتبلغ مساحته نحو 50 كيلومترا مربعا، وسيكون في إمكانه استيعاب نحو 1.5 مليون مسافر سنويا، وسيستقبل الطائرات الكبيرة من نوع إيه 380.
بينما يجري بناء المطار الثاني في محافظة «أُبخ» (شمال العاصمة بنحو 300 كيلومتر)، تحت اسم مطار «أحمد ديني أحمد»، وهو رئيس سابق لكل من الجمعية الوطنية (البرلمان) ومجلس الوزراء، بطاقة استيعابية لنحو 350 ألف مسافر سنويا، على أن يتضاعف العدد بحلول عام 2021 إلى أكثر من 700 ألف مسافر.
قبل نحو سبع سنوات كان يوجد في جيبوتي بنكان فقط، أما اليوم فأصبح فيها ما لا يقل عن 12 بنكا ما بين محلي وأفريقي ودولي، من بينها بنوك صينية وماليزية ويمنية. ويوضح الوزير، علي داود عبدو، أن «العملة الجيبوتية (الفرنك) مستقرة أمام الدولار ولم تتغير قيمتها منذ عام 1977؛ ولهذا يوجد جذب للاستثمارات الأجنبية والعربية، واستقرار العملة المحلية يشجع المستثمر ويعطيه أمل، بينما تعويم العملة يمكن أن يخيف المستثمر أو يجعله مترددا».
ويقول الوزير: «بشكل عام يعد مناخ الاستثمار في جيبوتي جيدا، وقوانين الاستثمار مشجعة وهناك إعفاءات ضريبية تعطى للمستثمر العربي دون غيره؛ ولهذا نريد أن نجذب المستثمرين العرب الذين يريدون الاستثمار في بلد عربي وبخاصة من الخليج».
ومن بين المشروعات التي يجري العمل عليها في الوقت الراهن، قطاع السكك الحديدية والاتصالات والنقل الجوي؛ حيث تعتزم البلاد بناء مطار دولي جديد بسعة أكبر من المطار الحالي، وكذلك إقامة مطار دولي آخر في محافظة أبخ شمالا.
من جانبه، يقول وزير الإعلام والاتصالات إن بلاده تسعى منذ عدة سنوات لجعل الإعلام والاتصالات تواكب التطور الجاري في جيبوتي، مشيرا إلى وجود مساع من أجل فتح المجال لتأسيس صحف محلية، خصوصا بالأقاليم، مع تطوير الإعلام المرئي والمسموع أيضا.
ويكشف الوزير النقاب عن أنه جرى مؤخرا فتح المجال لعدة شركات محلية ودولية لهذا الغرض. ويقول: «ستقوم شركة هندية بإقامة مركز عبارة عن (مبنى ذكي كبير) لإنتاج الأفلام والأعمال الدرامية إضافة لخدمات الاتصالات المتطورة».
وأصبحت تمر من جيبوتي ثمانية كوابل بحرية عالمية، وتتجه إلى العمق الأفريقي ثم إلى أوروبا عبر مصر والأردن والشرق الأوسط والمحيط الهندي وصولا إلى آسيا أيضا. ويضيف الوزير عبدي يوسف سجيه: «آخر كابل ألياف ضوئية حديث سيمر من جيبوتي وتم إطلاقه مؤخرا ويصل إلى كينيا وتنزانيا والصومال وغيرها في أفريقيا وهذا يخدم الاتصالات والإنترنت... نحن بمثابة الحلقة لأفريقيا والمنطقة».
وتحاول الدولة أن تزيد من مساحة اللغة العربية في وسائل الإعلام، ويتحدث جانب كبير من الطبقة العليا في البلاد بالفرنسية لأسباب تتعلق بالتعليم في حقبة الاحتلال الفرنسي للبلاد، بينما تنتشر على المستوى الشعبي وعلى نطاق واسع اللغات المحلية، الصومالية والعفرية، إلى جانب اللغة العربية التي يتحدث بها أكثر من 30 في المائة من عدد السكان، الذي يقل قليلا عن مليون نسمة.
وتعود أصول الوزير الجيبوتي، سجيه، إلى القبيلة الصومالية، وكان جده شاعرا مشهورا في جيبوتي. وبالإضافة إلى اللغة الصومالية، يتحدث الوزير الفرنسية والإنجليزية، وتعلم اللغة العربية على فترات قصيرة، ويضيف قائلا إن «كل الناس في جيبوتي يفهمون اللغة العربية، لكنهم نادرا ما يتكلمون بها».
وتمتلك جيبوتي حدودا قارية وبحرية، وتبلغ حدودها الشمالية مع إريتريا نحو 520 كيلومترا، وتحدها من الغرب والجنوب إثيوبيا، ومن الجنوب أيضا الصومال، وتمتد شواطئها إلى نحو 370 كيلومترا، من رأس دويرة شمالا، إلى قرية لوعدا جنوبا، وتقدر مساحتها بـ23 ألف كيلومتر مربع، وفي الجنوب الشرقي تقع محافظة «علي - صبيح»، وفي الوسط محافظة «عرتا»، وفي الجنوب الغربي محافظتا «دخل» و«تاجورة»، بينما تقع محافظة أبخ في الشمال الغربي؛ وكل محافظة يقطنها من 30 ألفا إلى 40 ألف نسمة، أما باقي السكان فهم من البدو الرحل الذين يسكنون البوادي، ويرتكز باقي السكان، أي نحو 400 ألف نسمة، في العاصمة.
وبالتزامن مع برامج للرعاية الاجتماعية موجهة إلى الطبقات الدنيا أطلقتها الحكومة تحت رعاية رئيس الدولة إسماعيل عمر غيلة، يولي الرئيس غيلة أيضا اهتماما ملحوظا بالفاعلين في القطاع الخاص الجيبوتي، سواء كانوا من القطاع المحلي أو الأجنبي، بهدف الاستفادة من التعاون بين الجانبين في تطوير مجال التجارة والمشروعات الصغيرة والمتوسطة والحرف اليدوية والسياحة، بما يعود بالنفع على القطاع المحلي الجيبوتي.
وفي هذا الصدد، جرى كذلك إطلاق آلية مؤسسية مختصة بالتشاور بين القطاع العام والخاص، وتحظى باهتمام أعضاء من الحكومة والبرلمان وممثلين من المنظمات الدولية والبعثات الدبلوماسية، وذلك من أجل البحث عن حلول للعقبات التي تعرقل النمو في البلاد، والعمل على تسهيل تنفيذ المقترحات المبتكرة لصالح الشركات المحلية. وفي المقهى الملحق بفندق مينليك، وهو اسم يعود لملك أفريقي قوي من الزمن الماضي، بدأ عدد من رجال الأعمال المحليين والأجانب يتوافد لشرب قهوة الصباح وبحث المشروعات الجديدة. ويقول عيسى موسى وهو رجل أعمال جيبوتي، استحوذ على جانب من المشروعات الجديدة لتطوير المساكن الشعبية في العاصمة، وفقا للخطة التي وضعها رئيس الدولة، إن الاستثمار في بناء المساكن وتطوير البنية التحتية أصبح مثيرا لشهية كثير من المستثمرين العرب. ومن جانبه يضيف تبيع، مدير ورئيس شركة لافياثان، مستبشرا: «حصلنا مؤخرا على عقود بتسلم مئات الحاويات في الميناء لنقلها إلى إثيوبيا».
ويشترك مع مدير شركة «شرق أفريقيا للمواشي والتجارة العامة»، السوداني الجنسية، رجال أعمال مصريون ويمنيون وسودانيون. وتبدو الحركة الدائبة في جيبوتي أكبر من إمكانات الموانئ البحرية والمطارات؛ ولهذا ترحب الدولة ورجال الأعمال بكل من يأتي للعمل هنا، ومن أبرز هؤلاء الصينيون الذين يقومون بتوسيع عدد من الموانئ وشق الطرق وخطوط السكك الحديدية.
وارتفعت كمية الواردات التي تصل إلى ميناء جيبوتي بنسبة تصل إلى 300 في المائة خلال السنوات العشر الأخيرة. ويصل إلى جيبوتي سنويا نحو 3 ملايين حاوية، معظمها خاص بدول تقع في وسط أفريقيا.
ويقول أحد رجال الأعمال: «أحيانا تنتظر السفينة لمدة عشرين يوما من أجل دخول الميناء لتفريغ شحنتها... ولهذا دخل الصينيون لبناء موانئ جديدة لاستيعاب احتياجات 300 مليون نسمة في المنطقة».



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!