في القراءة الفلسفية للاستقراء العلمي

العلم القائم عليه لا يمكن تبريره اعتمادًا على المنطق أو على التجربة

ديفيد هيوم
ديفيد هيوم
TT

في القراءة الفلسفية للاستقراء العلمي

ديفيد هيوم
ديفيد هيوم

تتلخص المنهجية الاستقرائية في أن العالم يبدأ بملاحظة الظاهرة المفردة، ثم يفترض ويكثر من الظواهر المشابهة، ويغير ويبدل في شروط الظاهرة إلى أن يصل، بعد اختبار الفرضيات الممكنة، إلى تقرير فرضية منها، تصير، عند التوكيد، قانونا يصدق على كل الظواهر المشابهة للظاهرة، أو الظواهر، التي لاحظها.
بيد أن السؤال الذي يطرح هو: ما المسوغ المنهجي الذي يجيز هذا التعميم؟ فالعالِم لم يلاحظ إلا حالات معدودة، فكيف يجوز له أن يعمم ما لاحظه واستقرأه على حالات أخرى لم يستقرئها، ويجعل القانون الذي خلص إليه قانونا كليا وعاما؟
هل بالإمكان إنجاز تبرير منطقي لمنهج الاستقراء؟
لقد استشعر أرسطو والمناطقة المشاؤون هذه الثغرة في المنهج الاستقرائي منذ القديم، أي قبل التشكل المنهجي للعلم التجريبي، الأمر الذي دفعهم إلى إعطاء الأولوية للقياس الصوري، والنظر إلى الاستقراء بوصفه مفتقرا إلى اليقينية والقطع. كما انتهى كثير من العلماء والإبستمولوجيين المعاصرين إلى أنه ليست ثمة ضمانة ولا تبرير منهجي كاف لتقرير تماسك المنهج الاستقرائي.
ويستند نقد التبرير المعرفي لمصداقية الاستقراء منهجًا على مرتكزين اثنين؛ أحدهما منطقي، ويتعلق بطبيعة الاستدلال الاستقرائي ذاته، لأنه يقوم على نقلة من مقدمات مفردة إلى حكم/ نتيجة كلية. فالاستقراء يبدأ من الجزئي إلى الكلي، أي من حالات معدودة، يخلص منها إلى تقرير قانون كلي يشملها ويشمل مثيلاتها.
ويقوم المرتكز الثاني على نقد احتجاج الاستقرائيين بالتجربة، حيث يستند العلماء والإبستمولوجيون المدافعون عن المنهج الاستقرائي، على التجربة بوصفها الضمانة المنهجية المؤكدة على صدق وصلاحية هذا المنهج، وذلك بالنظر إلى التجربة بوصفها مبدأ للتحقق والتنبؤ.
ومن الملاحظ أن هذين المرتكزين لا يخلوان من هشاشة وضعف في بنائهما المنهجي والاستدلالي، فبالنظر إلى المرتكز المنطقي، لا نجد للإبستمولوجيا الاستقرائية إمكانية منطقية لتسويغ عملية الانتقال من الحالات المفردة المعدودة إلى تقرير القانون الكلي؛ فمن الواضح أن هذا الانتقال ليس نقلة استدلالية مضمونة، بل يمكن أن أعبر عنه بأنه قفز ليست له أي كفاية منهجية تجعله «منطقيا».
أما المرتكز الثاني الذي يقوم على تبرير الاستدلال الاستقرائي بالتجربة التي تعتمد دليلا على صلاحية الاستقراء وكليته بوصفه تنبؤا، فهو أيضا، مرتكز مختل لا يصلح استدلالاً، لأنه يعاني من اختلال منهجي بيّن، حيث يؤول بالمنهجية الاستقرائية إلى السقوط في مأزق الدور. فكما يقول شالمرز إنه «استخلاص لمبدأ كلي يسعى إلى تأكيد صلاحية مبدأ الاستقراء، انطلاقا من عدد من الحالات المفردة التي نجحت في الماضي، والحال أنه لا يجوز استعمال الاستقراء لتبرير الاستقراء». بتعبير آخر، إنه سقوط في مأزق الدور من جهة؛ كما أنه افتئات غير مبرر على حالات المستقبل، لأنه ليست ثمة ضمانة لكي يكون ما صدق على حالات الماضي، صادقا بالضرورة على الحالات المستقبلية.
إن هذه المآزق التي يعاني منها الاستدلال الاستقرائي، ستدفع فلاسفة العلم إلى التفكير في البناء النظري والمنهجي للعلم، بخاصة في نموذجه التجريبي المنتهج في العلوم الطبيعية. وكان لا بد لمعاودة النظر هذه، أن تقف مليًّا عند مسألة السببية لوثيق ارتباطها بالاستدلال الاستقرائي. ذلك لأن الذي يمكن العالِم من الزعم بأن النار ستحرق، ليس فقط حالات مفردة لاحظها في الماضي، بل تقريره لوجود علاقة سببية داخل الطبيعة ناظمة بين ظواهرها، فتصبح النار سبب الإحراق. لكن بصرف النظر عن الانتقادات التي وجهت إلى السببية مع «فيزياء الكوانطا»، فإن لها قبل اللحظة العلمية المعاصرة مراجعات نقدية كثيرة. ولعل أولى محاولات النقد المنهجي الصارم لها، هو ما نلقاه عند الإمام الغزالي في تراثنا الفكري، وعند ديفيد هيوم في الفكر الأوروبي. وبما أننا نناقش الآن وضعية العلم المعاصر وإشكالاته الإبستمولوجية داخل الثقافة الأوروبية، فلنقتصر على دراسة نقد هيوم، وكيفية استقباله من طرف الفكر العلمي والفلسفي الغربي من بعد.
يرى ديفيد هيوم أن العلاقة السببية هي مجرد علاقة اقترانية تكررت، فخلع عليها العقل صفة الاقتران السببي، في حين أن السببية ليست لها أي حقيقة وجودية (أنطولوجية). لهذا السبب، ينتهي هيوم إلى أن العلم القائم على الاستقراء، لا يمكن تبريره لا بالاعتماد على المنطق ولا بالاعتماد على التجربة. ومن ثم؛ فالإشكال المعرفي المرتبط بالمنهج الاستقرائي هو إشكال غير قابل للحل ولا للتبرير العقلي. إلا أن هذا الحكم الذي ينتهي إليه ديفيد هيوم ستكون له مراجعة ووقفة نقدية مع كانط، حيث يزعم أن الحكم العلمي القائم على الاستقراء حكم مبرر. كيف؟
هناك نمطان من الأحكام المعرفية: أحكام تحليلية تكون في بنائها استخراجا للنتيجة من المقدمات، ويسود بخاصة في حقل الرياضيات. وهذا النمط من الأحكام نحكم عليه انطلاقا من مبدأ عدم التناقض، وذلك باختبار النتيجة التي يخلص إليها الرياضي؛ هل هي منسجمة مع المقدمات المستنبطة منها أم لا؟
كما أن ثمة نوعا أو نمطا آخر من الأحكام مغايرا للنمط التحليلي، يتمثل في الأحكام العلمية التي تنتجها العلوم الطبيعية، التي هي أحكام تركيبية. فالاستقراء هو، في النهاية، حكم تركيبي، ما يضمن صدقيته، هو ارتكازه على مبدأ السببية. بمعنى أنه إذا كان ديفيد هيوم لم يجد أساسا يبرر هذه الأحكام، فإن كانط يرى أن هيوم على خطأ؛ لأن ثمة تبريرا عقليا للعلم وأحكامه.
فما مصدر هذا التبرير؟
إنه العقل ذاته؛ لأنه يحمل في داخله مبدأ قبليا هو مبدأ العلية أو السببية. ومن ثم؛ فالحكم العلمي المنجز في العلوم الطبيعية ليس حكما تركيبيا، بل هو حكم «تركيبي قبلي»، وقبليته راجعة إلى ارتكازه على مقولة عقلية سابقة على الاكتساب التجريبي، وهي السببية التي هي واحدة من اثنتي عشر مقولة، يحملها الكائن الإنساني، حسب إيمانويل كانط. هذا ما يمكن أن نسميه «الضمانة المتعالية»، (الترنسندنتالية)، التي يقدمها كانط للممارسة العلمية.
ويمكن القول إن هذا الموقف الكانطي، على الرغم من النقد الذي وجه إليه، في سياق تاريخ الفلسفة، أرى له حضورا في أكثر الدراسات الإبستمولوجية راهنية؛ فشخصيا أرى في أبحاث نوزيك Nozick، وكورنبليث Kornblith اللذين يبحثان عن خلفية بيولوجية لمبدأ السببية، نزوعا كانطيا يتلبس بلبوس العلم المعاصر، ويصطنع في التعبير عن ذاته لغة علم الأعصاب.



نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان
TT

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى، لا نجد ما يماثله في الحواضر المجاورة لها. خرج هذا النتاج من الظلمة إلى النور خلال العقود الأخيرة، وتمثّل في مجموعة كبيرة من شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية، عُثر عليها في سلسلة من المدافن الأثرية، أبرزها مقبرة الشاخورة. تعكس الشواهد التي خرجت من هذه المقبرة التعدّدية في الأساليب الفنية التي طبعت هذا النتاج البحريني المميّز، وتتجلّى هذه الخصوصية في نصبين ظهرا جنباً إلى جنب في معرض أقيم منذ سنوات في متحف البحرين الوطني تحت عنوان «تايلوس رحلة ما بعد الحياة».

افتتح هذا المعرض في مطلع مايو (أيار) 2012، وضمّ ما يقرب من 400 قطعة أثرية مصدرها مقابر أثرية أقيمت في مستوطنات متعددة تقع اليوم في مملكة البحرين. حوى هذا المعرض مجموعات عدة، منها مجموعة من الأواني الفخارية والحجرية والزجاجية والرخامية، ومجموعة الحلى والمصوغات المشغولة بالذهب والفضة والأحجار المتنوعة، ومجموعة من المنحوتات الجنائزية، منها قطع تمثل شواهد قبور، وقطع على شكل منحوتات ثلاثية الأبعاد من الحجم الصغير. كما يشير العنوان الجامع الذي اختير لهذا المعرض، تعود هذه القطع إلى الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وهو الاسم الذي أطلقه المستكشفون الإغريق على البحرين، كما أنه الاسم الذي اعتُمد للتعريف بحقبة طويلة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الثالث بعد الميلاد. ويجمع بين هذه القطع أنها خرجت كلها من المقابر، أي أنها تحمل وظائفية جنائزية، وتُمثل «رحلة ما بعد الحياة»، أي رحلة إلى ما وراء الحياة الأرضية التي تقود بانقضائها إلى حياة أخرى، يصعب تحديد معالمها في غياب النصوص الأدبية الخاصة بها.

حسب قدامى كتّاب الإغريق، أطلق المصريون القدماء على مقابرهم اسم «مساكن الأبدية»، وتردّد هذا الاسم في صيغ مختلفة عبر أنحاء العالم القديم على مر العصور، كما يُجمع أهل العلم. من هذه المساكن الأثرية في البحرين، خرجت شواهد قبور نُحتت على شكل أنصاب آدمية من الحجم المتوسط، تطوّر شكلها بشكل كبير خلال القرون الميلادية الأولى. اختار منظّمو معرض «رحلة ما بعد الحياة» مجموعة من هذه الأنصاب تختزل هذه الجمالية المتعدّدة الفروع، منها نصبان يتشابهان بشكل كبير من حيث التكوين الخارجي، غير أنهما يختلفان من حيث الأسلوب، ويظهر هذا الاختلاف بشكل جلي في صياغة ملامح الوجه. خرج هذان النصبان من مقبرة الشاخورة، نسبة إلى قرية تقع شمال العاصمة المنامة، تجاورها قريتان تحوي كل منهما كذلك مقبرة أثرية خرجت منها شواهد قبور آدمية الطابع، هما قرية الحجر وقرية أبو صيبع.

يتميّز نصبا الشاخورة بانتصابهما بشكل مستقل، على عكس التقليد السائد الذي تبرز فيه القامة الآدمية بشكل ناتئ فوق مساحة مستطيلة مسطّحة. يبدو هذان النصبان للوهلة الأولى أشبه بمنحوتتين من الطراز الثلاثي الأبعاد، غير أن سماكتهما المحدودة تُسقط هذه الفرضية. يبلغ طول النصب الأكبر حجماً 45 سنتيمتراً، وعرضه 18 سنتيمتراً، ولا تتجاوز سماكته 9 سنتيمترات. يمثل هذا النصب رجلاً ملتحياً يقف بثبات، رافعاً يده اليمنى نحو الأعلى، وفاتحاً راحة هذه اليد عند طرف صدره. يثني هذا الرجل ذراعه اليسرى في اتجاه وسط الصدر، مطبقاً يده على شريط عريض ينسدل من أعلى الكتف إلى حدود الخصر. يتألف اللباس من قطعة واحدة، تتمثل بثوب فضفاض، يزيّنه شريط رفيع ينسدل من أعلى الكتف اليمنى، مع حزام معقود حول الخصر تتدلّى منه كتلتان عنقوديتان عند وسط الحوض. يقتصر الجزء الأسفل من النصب على أعلى الساقين، ويمثل الطرف الأسفل من الثوب، وهو على شكل مساحة مسطّحة يزيّنها شريطان عموديان رفيعان ومتوازيان.

يُمثل النصب الآخر رجلاً يقف في وضعية مماثلة، وهو من حجم مشابه، إذا يبلغ ارتفاعه 36 سنتيمتراً، وعرضه 15 سنتيمتراً، وسماكته 10 سنتيمترات. تتميّز يدا هذا الرجل بحجمهما الكبير، وتبدو راحة يده اليمنى المبسوطة بأصابعها الخمس وكأنها بحجم رأسه. يتبع اللباس الزي نفسه، غير أنه مجرّد من الشرائط العمودية الرفيعة، والحزام المعقود حول خصره بسيط للغاية، وتتدلّى من وسط عقدته كتلتان منمنمتان خاليتان من أي زخرفة. يتشابه النصبان في التكوين الواحد، وهو التكوين الذي يتكرّر في شواهد القبور البحرينية الخاصة بالرجال والفتيان، على اختلاف أعمارهم ومهامهم الاجتماعية. وهذا التكوين معروف في نواحٍ عديدة من العالم الفراتي، كما هو معروف في نواحٍ عدة من البادية السورية وغور الأردن، ويُعرف بالطراز الفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية التي نشأت في إيران القديمة، وأبرز عناصره اللباس المؤلف من قطعة واحدة مع زنار معقود حول الوسط، وراحة اليد اليمنى المبسوطة عند أعلى الصدر.

يخلو هذا التكوين الجامع من أي أثر يوناني، حيث تغلب عليه بشكل كامل وضعية السكون والثبات، بعيداً من أي حركة حية منفلتة، ويظهر هذا السكون في ثبات الوجه المنتصب فوق كتلة الكتفين المستقيمتين، والتصاق الذراعين بالصدر بشكل كامل. من جهة أخرى، تعكس صياغة الملامح الخاصة بكلّ من الوجهين. رأس النصب الأول بيضاوي، وتجنح صياغة ملامحه إلى المحاكاة الواقعية، كما يشهد الأسلوب المتبع في تجسيم العينين والأنف والفم. أما رأس النصب الثاني فدائري، وتتبع صياغة ملامحه النسق التحويري التجريدي الذي يسقط الشبه الفردي ويُبرز الشبه الجامع، ويتجلّى ذلك في اتساع العينين اللوزيتين، وتقلّص شفتي الثغر، وبروز كتلة الأنف المستقيم.

أُنجز هذان النصبان بين القرن الثاني والقرن الثالث للميلاد، ويمثّلان فرعين من مدرسة محليّة واحدة برزت في البحرين وازدهرت فيها، والغريب أن أعمال التنقيب المتواصلة لم تكشف بعد عن نحت موازٍ في نواحٍ خليجية مجاورة لهذه الجزيرة، شكّلت امتداداً لها في تلك الحقبة.