أيام في جيبوتي (1 - 3) : خريطة القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي

أقدمها فرنسية وأكبرها أميركية وأصغرها يابانية... والصين والسعودية في الطريق

زورق أميركي وآخر فرنسي يتعاونان في تأمين الملاحة في مضيق باب المندب
زورق أميركي وآخر فرنسي يتعاونان في تأمين الملاحة في مضيق باب المندب
TT

أيام في جيبوتي (1 - 3) : خريطة القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي

زورق أميركي وآخر فرنسي يتعاونان في تأمين الملاحة في مضيق باب المندب
زورق أميركي وآخر فرنسي يتعاونان في تأمين الملاحة في مضيق باب المندب

غير مسموح للجنود والضباط العاملين في القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي الاختلاط بعامة الناس.
لديهم كل شيء داخل معسكراتهم وفنادقهم، مطاعم، مقاهٍ، نوادٍ وملاعب ترفيهية. لكن يمكن ارتداء ملابس مدنية والتجول في البلدة الفقيرة والهادئة، في بعض الأوقات، كما فعل المسؤول في الجيش الأميركي العقيد جون، الذي يدير فريقا متخصصا في إصلاح آليات في قواعد عسكرية تابعة لبلاده في المنطقة.
وتجولت {الشرق الأوسط} في أنحاء الدولة الأفريقية الواقعة في القرن الإفريقي.. وتساءلت عن القواعد والاستقرار والاستثمار وجاءت الإجابات في ثلاث حلقات تنشر تباعاً.
يتزايد عدد القواعد العسكرية في القرن الأفريقي بالقرب من مضيق باب المندب الذي تعبر منه سنويا نحو 12 مليون حاوية من البضائع، إضافة لناقلات النفط، ويعد أحد أهم منافذ التجارة الدولية. طلائع القادة العسكريين الذين حطوا هنا قبل 15 سنة، لم يكن اهتمامهم، في البداية، حماية التجارة، وإنما ملاحقة الإرهابيين ومراقبة بؤر التوتر في أفريقيا والشرق الأوسط. وتعد جيبوتي، متعددة العرقيات واللغات، واحدة من أكثر دول المنطقة استقرارا مقارنة بدول مجاورة مثل الصومال وجنوب السودان واليمن. وتقع ضمن القرن الأفريقي على الساحل الشرقي للقارة السمراء. وتتحكم، مع اليمن في الجهة الآسيوية المقابلة، بمضيق باب المندب. ومن هنا كانت تعبر، قبل مئات السنين، قوافل تجار جلود الحيوانات من أفريقيا إلى الصين، ومبادلتها بالأقمشة. اليوم تعود الأهمية التجارية إلى المنطقة باستثمارات تقدر بمئات المليارات من الدولارات.
يقول الرئيس الجيبوتي، إسماعيل عمر غيلة، لـ«الشرق الأوسط»: إن كل هذه الاستثمارات وحركة التجارة تحتاج إلى قوة تحميها، مشيرا إلى أن الأزمة الصومالية، والحرب في اليمن، والقرصنة البحرية، والإرهاب، والجفاف المتكرر، يعد من التحديات الرئيسية التي تعانيها هذه المنطقة الحيوية من العالم، على الصعيدين الأمني والتنموي. ويضيف الرئيس غيلة: إن بلاده تضطلع بدور طليعي في الجهود المبذولة لمواجهة هذه التحديات وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة؛ لينعكس ذلك إيجابا على التكامل والتضامن الاقتصادي، وتعزيز فرص العيش الكريم لشعوبها.
وتوجد قاعدة عسكرية فرنسية داخل أسوار ضخمة يعود معظمها إلى حقبة الاحتلال الفرنسي لجيبوتي قبل مائة سنة. وهي أكبر مساحة، لكنها، في الوقت الرهن، أقل عتادا وجنودا مما كانت عليه في الماضي، مقارنة بالقاعدة الأميركية المعروفة باسم «لامنيار (Lemonnier)» التي تدير علاقات مع عشرات الدول في المنطقة. وتتعاون مع الفرنسيين في تسيير دوريات في البحر.
بدأ التفكير في إقامة القاعدة الأميركية، الأكبر في أفريقيا داخل جيبوتي، عقب هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 بالولايات المتحدة؛ وذلك في محاولة للحد من نشاط الجماعات المتطرفة وتقديم الخدمات الإنسانية والعمل عن قرب مع الحكومات المحلية.
وفيما بعد أدى تفاقم الفوضى على الساحل الصومالي واستهداف جماعات متشددة وقراصنة للسفن العابرة، إلى تزايد أهمية القرن الأفريقي. ثم زاد الاهتمام بالمنطقة عقب التمرد الذي قام به الانقلابيون الحوثيون في اليمن، ومحاولات إيران الداعمة للانقلابيين، التواجد في المضيق الذي تمر منه الناقلات عبر البحر الأحمر وقناة السويس إلى الدول الغربية.
وتمتد القاعدة الأميركية، ومركزها في ضاحية آمبولييه، بجوار سور مطار جيبوتي بطول نحو 4 آلاف متر. وفيها مدرج لانطلاق الطائرات من دون طيار والطائرات الحربية والمروحيات. ويبلغ عدد الجنود فيها نحو 2000 جندي وضابط، ويرتفع العدد إلى نحو 3700 بحساب العاملين المدنيين الأميركيين والمحليين. وتغص القاعدة بحظائر للطائرات وهناجر لتخزين الآليات والأسلحة. وتملأ أركانها بعدد من المطاعم والمقاهي ذات الماركات العالمية المعروفة، ومنها مطاعم البيتزا.
وتنتشر في القاعدة ملاعب كرة القدم والكرة الطائرة وصالات الاحتفالات وحمامات السباحة وصالات رفع الأثقال وغيرها. ويتردد عليها مسؤولون من جيش الولايات المتحدة بين حين وآخر، مثل العقيد جون الذي التقت به «الشرق الأوسط» أثناء رحلة بالطائرة في المنطقة. وهو مثل غالبية الأميركيين، تتملكه الغيرة كلما رأى لافتة من لافتات الشركات الصينية التي تعمل هنا.
ومن المقرر أن تبدأ الصين في إنشاء قاعدة عسكرية لها، هي الأخرى، على بعد كيلومترات عدة من القاعدة الأميركية خلال عام 2017. وبينما تسعى المملكة العربية السعودية إلى إقامة قاعدة في مكان مجاور، من المقترح أن يكون قرب العاصمة، تحاول إيران أن تجد لها موضع قدم، ليس في جيبوتي التي قطعت علاقتها مع طهران قبل أشهر عدة بسبب سياساتها المريبة، ولكن في مناطق أخرى لم تتضح بعد.
وفتحت جيبوتي التي تعد من أهم دول القرن الأفريقي، الباب لدول كبرى وصديقة لتأسيس قواعد عسكرية، لكن، كما يقول المسؤولون هنا، بشروط خاصة لا تتعارض مع الأمن القومي الجيبوتي، ولا مع توجهات الدولة. والهدف مواجهة الإرهاب وحماية التجارة الضخمة العابرة من باب المندب، إضافة إلى حماية الاستثمارات الكبيرة التي تستقطبها جيبوتي من دول العالم لخدمة باقي دول القارة الأفريقية، وبخاصة تجمع دول «الإيغاد» و«الكوميسا». وحين وافقت جيبوتي للصين على إقامة قاعدة عسكرية، سألهم الأميركيون عن أنه ربما لا ينبغي الموافقة للجيش الصيني على التواجد هنا، لكن الجيبوتيين ردوا قائلين إن الصين تريد أن تحمي معنا تجارتها، وبخاصة أن ثلث الحاويات التي تعبر من باب المندب قادمة أساسا من الصين.
في مطلع العام الماضي اعتقد الأميركيون أن القاعدة الصينية التي سيتم تأسيسها ستكون قرب مدينة «أُبخ» التاريخية والمطلة مباشرة على باب المندب، في شمال جيبوتي. وجاء هذا الظن، على ما يبدو، بسبب قيام طلائع من الجيش الصيني بالتدريب في صحراء «أُبخ» ذات الطابع الاستراتيجي. ويقول أحد المسؤولين في جيبوتي: إن كل من تقدموا بطلبات لإقامة قواعد عسكرية في «أُبخ» في السنوات الأخيرة تم رفضها لأسباب تتعلق بالأمن القومي الجيبوتي، و«لم نسمح بأي تواجد عسكري أجنبي في أُبخ». ويوضح قائلا: «إذا وافقنا على أي إقامة عسكرية دائمة في أُبخ، لأي دولة، فهذا يعني أننا ربما سنخسر، مستقبلا، مضيق باب المندب الذي يمثل حجر الزاوية في سيادة جيبوتي».
وفيما بعد اتضح أن قطعة الأرض، التي شرعت الصين في إقامة قاعدتها العسكرية عليها، تقع قرب منطقة تاجورة، جنوب مدينة جيبوتي، على مسافة تبلغ نحو 10 كيلومترات من مقر القاعدة الأميركية. أي في النطاق الصحراوي للعاصمة. وتبلغ مساحة القاعدة الصينية نحو 80 فدانا، وهي أقل من مساحة نظيرتها الأميركية بكثير.
الغيرة الأميركية، والغربية عموما، من وجود الصينيين في جيبوتي، وهو الوجود العسكري الأول لها خارج أراضيها، لا يتعلق ببناء قاعدة لها في تاجورة فقط، ولكنه يتعلق كذلك بالاستثمارات الصينية الضخمة التي بدأت تتدفق على هذا البلد باعتباره منفذا بحريا مهما لدول وسط أفريقيا. ويقول مسؤول جيبوتي: «مع ذلك ستكون القاعدة الصينية أقل حجما من قاعدة ليمونييه، لكن قيمة تأجير أرض القاعدة الصينية، أكثر من القيمة التي تسددها القاعدة الأميركية».
ووفقا لمركز مقديشو للبحوث والدراسات، تجني جيبوتي نحو ربع مليار دولار سنويا مقابل تأجير أراض لقواعد عسكرية. وبحسب مصادر أخرى، تبلغ قيمة التأجير السنوية للولايات المتحدة نحو 70 مليونا، وللصين نحو 100 مليون، ولليابان ما يقارب من 35 مليونا، ولفرنسا (القاعدة الأقدم) نحو 30 مليونا، بالإضافة إلى مبالغ أخرى من دول لها تواجد عسكري محدود مثل ألمانيا وإسبانيا. هذا إلى جانب مساعدات ومشروعات تقوم بها هذه الدول لتنمية دول القرن الأفريقي وبلدان وسط القارة انطلاقا من جيبوتي.
الصين، على سبيل المثال، تعتزم ضخ استثمارات جديدة في هذه المنطقة تبلغ أكثر من 60 مليار دولار، بينما تسعى اليابان إلى افتتاح مشروعات إضافية تصل قيمتها إلى نحو 30 مليار دولار. وفي المقابل، يبدو أن العبء الأكبر في عملية بسط الاستقرار والأمن في المنطقة عموما، حتى الآن، يقع على عاتق القاعدة الأميركية التي تشمل عملياتها، حاليا، محاولة الحد من الاضطرابات في دولة جنوب السودان ومكافحة الإرهاب في الصومال والمشاركة في التصدي لمحاولات الحوثيين، ومن يدعمهم، تهديد الملاحة في البحر الأحمر.
ويعود تاريخ الوجود العسكري الياباني في جيبوتي إلى عام 2009، وهو أول وجود عسكري لليابان خارج حدودها منذ الحرب العالمية الثانية. وحين جاءوا إلى هنا قالوا: نريد أن يكون مكاننا قرب القاعدة الأميركية. والآن استقر الأمر إلى حد كبير. وفي كثير من الأحيان يقضي الجنود السهرات الليلية في النوادي التابعة للأميركيين.
وبينما يتزايد انتشار لافتات عليها كتابة باللغة الصينية، وتحمل أسماء لشركات قادمة من بكين إلى جيبوتي لتوسيع الموانئ البحرية، ومد خطوط السكك الحديدية إلى الداخل الأفريقي، بدأت اليابان في التخطيط لتوسيع قاعدتها العسكرية بالتزامن مع محاولة لزيادة استثماراتها في أفريقيا أيضا. وبدلا من الاعتماد على منشآت عدة مستأجرة من القوات الأميركية، تسعى اليابان إلى الحصول على مزيد من الأراضي للتوسع.
وخلال السنوات الخمس الأخيرة، ارتفع عدد الجنود اليابانيين في جيبوتي، الذين يطلق عليهم اسم «قوات الدفاع المدني»، من نحو 150 عنصرا إلى 400 عنصر. ويقيمون في منشآت على مساحة تبلغ نحو 30 فدانا، ويتنقلون، عبر أربع طائرات من طراز «بي 3 سي» بين القاعدة، واثنتين على الأقل من المدمرات البحرية اليابانية التي تشارك في تأمين مئات السفن التجارية وتراقب نشاط القراصنة والعناصر المشبوهة في خليج عدن.
وتعد أقدم قاعدة عسكرية في جيبوتي هي القاعدة الفرنسية التي تحمل اسم «فورس فرانسيس جيبوتي (ffdj)». وهي محاطة بأسوار عتيقة عليها أسلاك شائكة. ويمكن رؤيتها من طريق «دودا» المتفرع من شارع المطار. والقاعدة تتكون من جزأين.. مقر الإدارة على اليمين، ومقر القوات والآليات الحربية على اليسار. ويقع بينهما ميدان صغير تعبر منه سيارات سكان المدينة. ولا يفصل القاعدة الفرنسية عن أختها الأميركية إلا قاعدة أخرى تابعة لجيبوتي. ولا توجد قواعد عسكرية ثابتة للإسبان والألمان، لكن لديهم مئات عدة من الجنود والضباط ممن يديرون سفنا حربية عدة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وهم يترددون على فنادق جيبوتي الكبيرة ويقيمون فيها أياما عدة في بعض الأحيان. وحين تكون لديهم حاجة إلى المساعدة من على الأرض؛ فهم يلجأون عادة لطلب العون من القاعدة الأميركية أو الفرنسية.
وخلال الشهور القليلة الماضية، بدأت مشاورات وزيارات بين القيادتين العسكريتين في كل من جيبوتي والسعودية، تمخضت عن وضع مشروع مسودة اتفاق أمني وعسكري واستراتيجي، يتضمن استضافة جيبوتي لقاعدة عسكرية سعودية. ووفقا لوزير خارجية جيبوتي، محمود علي يوسف، فقد جرى تحديد بعض المواقع على الساحل الجيبوتي لهذا الغرض. ويضيف: وافقنا، بل شجعنا أن يكون للمملكة، ولأي دولة عربية، تواجد عسكري في جيبوتي؛ نظرا لما يحدث هنا في المنطقة.
وتسعى إيران منذ سنوات عدة إلى التواجد في باب المندب من خلال دعم الحوثيين في اليمن، ومحاولة إغراء دول في القرن الأفريقي بتقديم قروض ومساعدات، إلا أن الوزير يوسف يقول إن جيبوتي، عندما شعرت بأن التعاون مع إيران «كان دائما فيه كثير من اللبس، وفيه كثير من الأمور التي ربما تدخلنا في متاهات معها، ابتعدنا عنها شيئا فشيئا، إلى أن جاء الاعتداء على اليمن، وعلى المصالح العربية، فقررت جيبوتي أن تقطع علاقاتها مع إيران».
ومن جانبه، يبدو الرئيس غيلة من الزعماء الذين يسعون بجدية إلى مسايرة تغير المفاهيم في العالم فيما يتعلق بوجود قواعد عسكرية في بلاده التي لا تتعدى مساحتها 23 ألف كيلومتر مربع. فبعد أن كانت مسألة القواعد تثير الحساسية لدى بعض الدول، يرى الرئيس أن العالم تغير ويحتاج إلى تعاون أمني شامل من أجل التنمية.
ويقول غيلة إن «العالم شهد، خلال السنوات العشر الأخيرة، أزمات معقدة أدت إلى تبلور الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية الحرجة التي تسود في الكثير من أنحاء العالم، في الظرف الراهن. وكجزء من هذه الانعكاسات الخطيرة للأوضاع الدولية، فإن الإرهاب والعنف والتطرف سجل انتشارا واسع النطاق على نحو لم يسبق له مثيل»، مشيرا إلى أن «المجتمع الدولي يبذل جهودا متواصلة لمحاربة هذه الظاهرة وتجفيف منابعها».
ويضيف أنه، في هذا السياق، من الأهمية بمكان الإشارة إلى التصدي بفاعلية للإرهاب والعنف والتطرف، وأن هذا يتطلب تعاونا دوليا وثيقا، كما يتطلب مقاربة شاملة لا تقتصر فقط على الجانب الأمني والعسكري، بل تتعامل أيضا مع الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تسمح بتنامي الإرهاب.
وفي الماضي، وبخاصة في فترتي الستينات والسبعينات، ارتبط موضوع القواعد العسكرية الأجنبية بالاستعمار والهيمنة، لكن بعض الخبراء العسكريين في الوقت الراهن يقولون إن «الذراع العسكرية أصبحت أطول. ودون الحاجة إلى قاعدة عسكرية، من الممكن أن تطلق صاروخا من دولة إلى دولة أخرى على بعد آلاف الأميال. وبالتالي؛ فإن القواعد العسكرية أصبحت ترتبط بالأمن الدولي وحماية المصالح المشتركة للدول، وليس الاحتلال».
ويقول الوزير يوسف، إنه أصبحت توجد بالفعل «عولمة للأمن»، مشيرا إلى أن خليج عدن ومضيق باب المندب «هما عنق الزجاجة بالنسبة لهذا الأمن الجماعي». و«نحن نؤمن إيمانا راسخا بأن أمن مضيق باب المندب هو لمصلحة الجميع. وإذا كانت هناك قواعد عسكرية تستضيفها جيبوتي، فهي لحماية هذا الأمن الدولي»، مشددا على أنه لا علاقة لهذه المواقع أو القواعد العسكرية بالسياسة الداخلية لجيبوتي «لا من قريب ولا من بعيد».

غدًا في الحلقة الثانية:
* فتحت الباب لدخول استثمارات بمليارات الدولارات
* جيبوتي تسعى للتحول إلى «دبي اقتصاديًا» و«شرم الشيخ» سياحيًا



مصر وترمب... تحالف استراتيجي على وقع اضطرابات إقليمية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
TT

مصر وترمب... تحالف استراتيجي على وقع اضطرابات إقليمية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)

بعد أشهر من التكهنات بشأن مستقبل العلاقات المصرية - الأميركية، وسط حديث متكرر عن بوادر «توتر وأزمة» بين القاهرة وواشنطن على خلفية تبني الرئيس دونالد ترمب مقترحاً لـ«تهجير» سكان غزة، الذي رفضه الرئيس عبد الفتاح السيسي، وما تبع ذلك من تداعيات، جاء لقاء الرئيسين في شرم الشيخ وتوقيعهما اتفاق سلام بشأن غزة ليؤكد استمرار التحالف الاستراتيجي بين البلدين على وقع الاضطرابات الإقليمية.

وبينما شهدت بداية العام الأول من ولاية ترمب حديثاً إعلامياً عن إلغاء السيسي خطط زيارة لواشنطن، ينتهي العام بتكهنات عن اقتراب تنفيذ تلك الزيارة، رد الرئيس الأميركي عليها بقوله: «السيسي صديق لي، وسأكون سعيداً بلقائه أيضاً».

وحمل فوز ترمب بانتخابات الرئاسة الأميركية، نهاية العام الماضي، آمالاً مصرية بتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، عبَّر عنها السيسي، في منشور لتهنئة ترمب عبر حسابه الرسمي على موقع «إكس»، قال فيه: «نتطلع لأن نصل معاً لإحلال السلام، والحفاظ على السلم والاستقرار الإقليميَّين، وتعزيز علاقات الشراكة الاستراتيجية».

لكن طَرْحَ ترمب خطة لـ«تطهير غزة»، وتهجير سكانها إلى مصر والأردن، ألقى بظلاله على العلاقات بين البلدين، لا سيما مع إعلان القاهرة رفضها القاطع للتهجير، وحشدها دعماً دولياً لرفض الطرح الأميركي مع إعلانها مخططاً بديل لإعمار غزة، واستضافتها قمةً طارئةً بهذا الشأن في مارس (آذار) الماضي.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرحب بنظيره المصري عبد الفتاح السيسي في البيت الأبيض (أرشيفية - رويترز)

القليل المعلن

ويرى ديفيد باتر، الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «تشاتام هاوس»، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن الجانب اللافت في العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، على مدار العام الماضي، هو «انخفاض مستوى الجوانب العلنية»، فباستثناء «عرض ترمب» في شرم الشيخ، «لم يكن هناك كثير مما جرى، على الملأ».

في حين وصف عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية المصري، مدير برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة «كارنيغي»، العام الأول من ولاية ترمب الثانية، بأنه كان «عاماً صعباً فيما يتعلق بالعلاقات المصرية - الأميركية»، مشيراً في مقابلة مع «الشرق الأوسط» إلى أن «العام بدأ بحديث عن التهجير و(ريفييرا الشرق الأوسط)، لكن مصر بجهودها الدبلوماسية استطاعت تحويل المسار، لتحمل خطة ترمب للسلام إشارة إلى رفض التهجير، وحديث عن مسار أمني وسياسي لغزة، ومسار سياسي للقضية الفلسطينية كلها، وإن كان غير واضح».

وقال حمزاوي: «بدأ العام من نقطة صعبة، هي تطور طبيعي لموقف بايدن المتخاذل في غزة، حيث بدأ الحديث التهجير فعلياً في عهد بايدن، لكن بعد نحو عام من الجهد المصري السياسي والدبلوماسي وصلت الأمور لمعكوس البدايات، حيث أصبح التهجير غير مطروح على أجندة واشنطن، وإن ظل خطراً قائماً لا يمكن تجاهله».

تاريخياً «شكّلت مصر دولةً محوريةً بالنسبة للأمن القومي الأميركي، استناداً إلى موقعها الجغرافي، وثقلها الديمغرافي، ودورها الدبلوماسي»، بحسب تقرير نشرته أخيراً وحدة أبحاث الكونغرس الأميركي.

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة بمدينة شرم الشيخ المصرية في أكتوبر 2025 (أرشيفية - أ.ف.ب)

غزة... العقدة الأبرز

كان لحرب غزة دور في تشكيل العلاقات المصرية - الأميركية خلال العام الأول من ولاية ترمب، ودعمت واشنطن جهود الوساطة المصرية - القطرية لإيقاف الحرب. ووجَّه وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، الشكر للقاهرة بعد نجاحها في إقرار هدنة بين إسرائيل وحركة «حماس» في يناير (كانون الثاني) الماضي. لكن مع استئناف القتال مرة أخرى «وُضعت مصر في مواقف دبلوماسية معقّدة إزاء كلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل؛ فبينما رفضت دعوة ترمب لإعادة توطين سكان غزة، فإن خطتها لإعادة إعمار غزة لم تحظَ بقبول من الولايات المتحدة أو إسرائيل. وتعرَّضت القاهرة لانتقادات من ترمب إثر امتناعها عن الانضمام إلى واشنطن في تنفيذ أعمال عسكرية ضد جماعة (الحوثي) اليمنية»، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس.

وأوضح الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «تشاتام هاوس» أن «العلاقات المصرية مع إدارة ترمب شهدت توتراً على خلفية ملف غزة؛ حيث ألغى السيسي خططاً لزيارة واشنطن في مطلع العام، عقب إعلان ترمب عن (ريفييرا الشرق الأوسط)، ليقتصر التواصل بين الجانبين على الحد الأدنى».

لكن باتر يشير إلى أن «زيارة ترمب لشرم الشيخ وتوقيع (اتفاق غزة) والاحتفاء بنجاح خطته، كانت فرصة لإعادة ضبط العلاقات بين القاهرة وواشنطن»، لافتاً إلى أنه بالنسبة للوضع في غزة فإن «مصر أصبحت لاعباً رئيسياً لا غنى عنه لإدارة ترمب ولإنجاح خطته».

وقال حمزاوي: «إن غزة كانت الملف الأبرز في العام الأول لإدارة ترمب، ومنحت مصر فرصةً لاستعادة قراءة صانع القرار الأميركي والأوروبي لدورها وسيطاً رئيسياً لحل الصراع وتفعيل وتنفيذ الاتفاق، والانطلاق لمسارات سياسية»، لافتاً إلى أن «القاهرة استطاعت وضع رؤيتها للحل على الطاولة، فبدلاً من تعاقب المسارَين الأمني والسياسي في الطرح الأميركي، أصبح هناك توافق على توازي المسارات، وكذلك الأمر تحول من الحديث عن نزع السلاح إلى قبول فكرة حصر السلاح».

وطوال العام عوّلت مصر على ترمب لإنهاء الحرب في غزة، عبر بيانات وتصريحات رسمية عدة، ودخلت واشنطن بالفعل على خط الوساطة. وحثَّ السيسي نظيره الأميركي، في كلمة متلفزة في يوليو (تموز) الماضي على بذل الجهد لوقف الحرب بوصفه «قادراً على ذلك».

وتعد «مصر دولة لا غنى عنها في خطوات الاستجابة الدولية لحرب غزة، وإن ظلت شريكاً صعباً للولايات المتحدة وإسرائيل»، وفق ما كتبه الباحثان الأميركيان دانيال بيمان وجون ألترمان، في مقال مشترك نشرته «فورين بوليسي». وأوضح بيمان وألترمان أن «الحرب في غزة أعادت تسليط الأضواء الدبلوماسية تدريجياً على مصر، ومنحتها أوراق ضغط قوية».

بدورها، ترى سارة كيرة، مديرة المركز الأوروبي الشمال أفريقي للأبحاث، أن «وتيرة العلاقات المصرية - الأميركية في ظل إدارة ترمب في ولايته الثانية تختلف عن الأولى»، موضحة في مقابلة مع «الشرق الأوسط» أن «ولاية ترمب الأولى شهدت توافقاً بين البلدين في ملفات عدة، وكانت هناك حفاوة من ترمب شخصياً بمصر وإدارتها للملفات المختلفة، لا سيما مكافحة الإرهاب، على عكس الولاية الثانية التي شهدت تباينات في المواقف».

هذه الخلافات في المواقف برزت في أبريل (نيسان) مع حديث ترمب عن «مرور مجاني لسفن بلاده التجارية والعسكرية في قناة السويس المصرية»، مقابل ما تبذله واشنطن من إجراءات لحماية الممر الملاحي.

إيجابية رغم التباين

تباين المواقف بشأن غزة لم يمنع من إشارات إيجابية في ملفات أخرى، ففي بداية العام قرَّرت وزارة الخارجية الأميركية تجميد التمويل الجديد لجميع برامج المساعدات الأميركية في مختلف أنحاء العالم، باستثناء برامج الغذاء الإنسانية، والمساعدات العسكرية لإسرائيل ومصر.

كما لم تدرج واشنطن مصر ضمن قائمة حظر السفر التي أصدرتها في يونيو (حزيران) الماضي، وبرَّر ترمب ذلك بأن «مصر دولة نتعامل معها من كثب. الأمور لديهم تحت السيطرة». واستُثنيت مصر أيضاً من زيادة رسوم الجمارك الأميركية. في وقت أكدت فيه مصر مراراً على «عمق ومتانة» العلاقات الاستراتيجية بين القاهرة وواشنطن.

وأشارت كيرة إلى أن «مصر ضغطت بكل ما أوتيت من قوة لتحقيق السلام وإيقاف الحرب على قطاع غزة، ونجحت في إقناع الجانب الأميركي برؤيتها حتى وصلت لتوقيع اتفاق سلام في شرم الشيخ». وقالت: «تعاملت الدولة المصرية ببراغماتية وذكاء، واستطاعت بفهمها لطبيعة شخصية ترمب وللمصالح الأميركية إقناع واشنطن برؤيتها».

وبينما يتعثر الوصول للمرحلة الثانية من اتفاق غزة، لا تزال مصر تعوّل على ترمب لإنجاح خطته، وتتواصل القاهرة مع واشنطن في هذا الشأن، كما تعمل معها على الإعداد لمؤتمر تمويل إعادة إعمار القطاع، الذي لا يبدو حتى الآن أن إدارة ترمب أعطته الزخم الكافي.

ولا يقتصر الحوار المصري - الأميركي على غزة، بل يمتد إلى عدد آخر من الملفات الإقليمية مثل ليبيا والسودان ولبنان وإيران، إضافة إلى الملفات المرتبطة بالأمن المائي، وعلى رأسها «سد النهضة» الإثيوبي الذي تخشى مصر أن يضر بحصتها من مياه النيل.

«سد النهضة» الإثيوبي (وكالة الأنباء الإثيوبية)

سد النهضة

في منتصف يونيو الماضي، أثار ترمب جدلاً في مصر بحديثه عبر منصته «تروث سوشيال» بأنَّ الولايات المتحدة «موَّلت بشكل غبي سد النهضة، الذي بنته إثيوبيا على النيل الأزرق، وأثار أزمةً دبلوماسيةً حادةً مع مصر». وفي أغسطس (آب) الماضي، أعلن «البيت الأبيض» قائمة نجاحات ترمب في إخماد حروب بالعالم، تضمَّنت اتفاقية مزعومة بين مصر وإثيوبيا بشأن «سد النهضة». وكرَّر ترمب مراراً حديثاً عن جهود إدارته في «حل أزمة السد الإثيوبي»، لكن هذا الحديث لم يترجم حتى الآن إلى جهود على الأرض.

وأشار حمزاوي إلى أن «هناك فرصة لتلعب واشنطن دور الوسيط لحل أزمة سد النهضة، والعودة للاتفاق الذي تمَّ في نهاية فترة ترمب الأولى». لكن تشارلز دن، الباحث في «المركز العربي واشنطن دي سي»، كتب في تقرير نُشر أخيراً، يقول: «إن موقف ترمب من السد الإثيوبي قد يمنح قدراً من الرضا للقاهرة، لكنه قد يفضي في الوقت نفسه إلى نتائج غير محمودة، في ظل عدم تبني واشنطن دور الوسيط في هذا الملف حتى الآن».

وكانت واشنطن قد استضافت جولة مفاوضات خلال ولاية ترمب الأولى عام 2020 بمشاركة البنك الدولي، بين مصر وإثيوبيا والسودان، لكنها لم تصل إلى اتفاق نهائي؛ بسبب رفض الجانب الإثيوبي التوقيع على مشروع الاتفاق.

قوات أميركية محمولة جواً خلال تدريبات النجم الساطع في مصر في سبتمبر 2025 (القيادة المركزية الأميركية)

علاقات عسكرية مستمرة

على صعيد العلاقات العسكرية، واصل التعاون بين الجانبين مساره المعتاد. ومنذ عام 1946، قدَّمت الولايات المتحدة لمصر نحو 90 مليار دولار من المساعدات، مع زيادة كبيرة في المساعدات العسكرية والاقتصادية بعد عام 1979، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس، التي أشارت إلى أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تبرِّر ذلك بوصفه «استثماراً في الاستقرار الإقليمي».

وعلى مدى أكثر من عقد، وضع الكونغرس شروطاً متعلقة بحقوق الإنسان على جزء من المساعدات الموجَّهة لمصر. وخلال الأعوام المالية من 2020 إلى 2023، حجبت إدارة بايدن والكونغرس نحو 750 مليون دولار من التمويل العسكري لمصر، لكن الملحق الفني الأخير الذي قدَّمه ترمب لموازنة عام 2026، تضمّن طلباً بقيمة 1.3 مليار دولار مساعدات عسكرية لمصر، دون أي مشروطية، وفق وحدة أبحاث الكونغرس.

وهنا قال حمزاوي: «الإدارة الأميركية أبعد ما تكون عن وضع مشروطية على مصر، فالعلاقات بين البلدين مبنية على المصالح بين قوة كبرى، وأخرى وسيطة مؤثرة بإيجابية».

بالفعل، منذ حرب غزة، سرَّعت إدارتا بايدن وترمب وتيرة مبيعات الأسلحة الأميركية إلى مصر بشكل ملحوظ، وأخطرت وزارة الخارجية الكونغرس بمبيعات عسكرية لمصر بقيمة إجمالية بلغت 7.3 مليار دولار، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس. وفي يوليو الماضي أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) موافقة وزارة الخارجية، على صفقة بيع لمنظومة صواريخ متقدمة للدفاع الجوي إلى مصر، بقيمة تقدر بنحو 4.67 مليار دولار. كما استضافت مصر في سبتمبر (أيلول) الماضي مناورات «النجم الساطع».

وقالت كيرة: «العلاقات بين مصر وواشنطن تسير وفقاً لاعتبارات المصالح»، مؤكدة أن «القاهرة استطاعت تقديم نفسها لاعباً أساسياً في الإقليم». بينما أكد حمزاوي أن «مصر في مكان مركزي في تفكير الولايات المتحدة للشرق الأوسط، حيث تحتاج واشنطن إلى طيف من الحلفاء، ومصر في موقع القلب منه».


عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
TT

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)

خفتت آمال السودانيين في نهاية قريبة للحرب والمأساة الإنسانية التي يعيشونها منذ 15 أبريل (نيسان) 2023، ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة الأولى، ثم تزايد تشاؤمهم بأن المشهد يزداد قتامة مع تعثر المبادرات الإقليمية والدولية.

لكن تدخل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وطلبه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب «التدخل» بكامل ثقله الرئاسي، أعاد بريق الأمل، وقفز دور السعودية إلى قلب حديث الناس، وفتح نافذة جديدة تراهن على ثقل قادر على كسر الجمود.

وخلال زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة أخيراً، طلب ولي العهد من الرئيس الأميركي التدخل للمساعدة في وقف الحرب، وفق تصريحات أدلى بها ترمب خلال المنتدى الأميركي – السعودي للأعمال في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وكشف ترمب وقتها أن ولي العهد طلب منه التدخل لوقف حرب السودان، بقوله: «سمو الأمير يريد مني القيام بشيء حاسم يتعلق بالسودان»، وأضاف: «بالفعل بدأنا العمل بشأن السودان قبل نصف ساعة، وسيكون لنا دور قوي في إنهاء النزاع هناك».

الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً في قصر اليمامة بالرياض رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان (واس)

عندما يتكلم الناس

في الخرطوم التي دمرتها الحرب، نظر مواطنون للتحرك السعودي بوصفه استجابة «متوقعة من الأشقاء»، يقول أحمد موسى، إن «ما فعله ولي العهد السعودي أمر متوقع من المملكة، كدولة شقيقة».

وفي الفاشر التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، لم تخفِ حواء إبراهيم تأثير الحرب في كلماتها، قبل أن تربط الأمل بأي خطوة توقف النزيف: «الحرب قضت على الأخضر واليابس، وتضررنا منها كثيراً».

أما في الأبيض، عاصمة شمال كردفان المحاصرة، حيث يعيش السكان على حافة القلق من تمدد القتال، فيختصر عيسى عبد الله المزاج العام بقوله: «تأثرت كل البيوت بالحرب، لذلك نحن نرحب بتدخل الأشقاء».

ومن نيالا التي يتخذ منها تحالف «تأسيس» عاصمة موازية، يقول ف. جبريل إن السكان «يأملون أن تجتث الحرب من جذورها، وأن تصل إليهم المساعدات الإنسانية، وأن يعود النازحون إلى ديارهم».

ولا يطلب السودانيون حلاً مفروضاً من الخارج، بقدر ما يريدون وسيطاً «نزيهاً» يعيد الأطراف إلى طاولة الحوار، ويمنع استخدام المسارات السياسية لشراء الوقت، ويعتقدون أن السعودية هي ذلك الوسيط.

شاحنة محمّلة بممتلكات شخصية لعائلات نازحة تنتظر مغادرة نقطة حدودية في مقاطعة الرنك بجنوب السودان (أرشيفية - أ.ف.ب)

إشارات تراجع

على المستوى الرسمي، لم تسر الاستجابة على خط واحد، ففي 19 نوفمبر 2025، وبمجرد إعلان ترمب عن طلب ولي العهد، رحّب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالخطوة، وكتب في تغريدة على «إكس»: «شكراً سمو الأمير محمد بن سلمان، شكراً الرئيس ترمب».

ورحّبت حكومة البرهان بالجهود السعودية والأميركية، وأبدت استعدادها «للانخراط الجاد لتحقيق السلام». لكنها تحفظت على وساطة «المجموعة الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، وأبدت تفضيلاً للوساطة السعودية.

«صفقة عسكرية»

ورحب التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الذي يقوده رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بالجهود السعودية، واعتبرها «خطوة إيجابية قد تفتح مساراً جديداً»، بيد أنه اشترط ألا يكون الحل حصراً بين العسكريين، وأن يشارك المدنيون في أي تسوية شاملة قادمة.

من جهته، عبر تحالف السودان التأسيسي - اختصاراً «تأسيس» - الموالي لـ«قوات الدعم السريع»، عن تأييده للتحرك السعودي، واعتبره تأكيداً على حرص المملكة على منع انهيار السودان.

سودانيون فرّوا من الفاشر يستريحون لدى وصولهم إلى مخيم «الأفاد» للنازحين بمدينة الدبة شمال السودان 19 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

هل تنجح المبادرة؟

يراهن السودانيون على تحويل الجهود السعودية - الأميركية من «إشارة سياسية» إلى مسار دبلوماسي كامل يتضمن «ضغطاً يفضي إلى وقف إطلاق نار، وترتيبات إنسانية تفتح الممرات وتخفف المعاناة، ثم عملية سياسية لا تعيد إنتاج الأزمة»، وفق المحامي حاتم إلياس لـ«الشرق الأوسط».

وقال إلياس لـ«الشرق الأوسط»، إن «التحدي الأكبر يبقى في تعقيد الحرب نفسها: صراع على الشرعية، وانقسام مجتمعي، ومؤسسات ضعيفة، وتضارب مصالح أطراف متعددة».

ورغم هذه التعقيدات، فإن المزاج الشعبي من بورتسودان إلى الخرطوم إلى الفاشر والأبيض ونيالا، يبدو واضحاً، حسب الصحافي المقيم في باريس محمد الأسباط، في أن «هناك تعلقاً بالأمل الهش بتوقف البنادق وفتح باب نحو سلام طال انتظاره».

وبعد تراجع آمال السودانيين في حل قريب، عادت الروح المتفائلة مرة أخرى، إثر زيارة رئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان للرياض 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي للمملكة، والاجتماع الرفيع الذي عقده معه ولي العهد.

وبدا أن مجرد عقد هذا الاجتماع في الرياض، فتح بوابة جديدة للأمل بوقف الحرب وإنهاء المأساة الإنسانية، وكأن واقع الحال يقول: «تضع السعودية ملف وقف الحرب في السودان على رأس أولوياتها».

ويأمل السودانيون الذين أنهكتهم الحرب وأزهقت أرواح العديد منهم، وأهلكت ضرعهم وزرعهم، وشردتهم في بقاع الدنيا، لاجئين ونازحين، العودة إلى بلادهم وبيوتهم، وحياتهم التي يفتقدونها، فهل تثمر المبادرات سلاماً مستداماً هذه المرة؟


ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قطاع غزة، كان لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب دور بارز في إقناع «حماس» وإسرائيل بضرورة التوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، وإعلان انتهاء الحرب التي استمرت لمدة عامين، دفع خلالها الفلسطينيون أثماناً لا تحتمل من خسائر بشرية ومادية وعلى صعد مختلفة، منها الصحة والبيئة والبنية التحتية وغيرها.

ويحسب لإدارة ترمب أنها نجحت فعلاً بالتوصل لاتفاق بعد محاولات حثيثة من إدارة جو بايدن للتوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، إلا أن كل الجهود فشلت آنذاك في ظل خلافات برزت بينها وبين الحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي كان يتوق لعودة ترمب إلى الحكم. إلا أن هذه العودة لم تكن مثل ولاية ترمب الأولى التي منح خلالها لإسرائيل الكثير من الهدايا سواء الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، أو سيادتها على الجولان، أو حتى العمل على الاتفاقيات الإبراهيمية.

قبول مواقف «حماس»

وفرض ترمب على نتنياهو وحكومته العديد من القرارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني والمنطقة بأسرها، وخاصةً فيما يتعلق بالحرب على إسرائيل، حين فاجأ الأخيرة بقبول موقف «حماس» من خطته التي طرحت على الحركة، بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو أمر فاجأ نتنياهو وحكومته بشكل خاص، قبل أن تقبل الحكومة الإسرائيلية، بالأمر الواقع، ويتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

وعلى الرغم من أن هذا الإنجاز يحسب لإدارة ترمب، فإن الخروقات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار الهش للغاية، قد تفضي إلى إفشاله. لكن أيضاً حالة العجز الفلسطينية بعد حرب استمرت عامين واستنزفت كل قدرات فصائلها المسلحة وخاصةً «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، ربما تدفع الجميع بقبول ما تطمح إليه الولايات المتحدة من العبور إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار. ليتم ذلك لا بد من دعم من الوسطاء الذين يحاولون تقريب وجهات النظر بين «حماس» وإسرائيل من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، ويتمحور دورها في الضغط على حكومة نتنياهو، بقبول الاتفاق والالتزام ببنوده. ففي أكثر من مرة منعت هذه الحكومة من اتخاذ إجراءات مثل إغلاق المعابر مجدداً للقطاع بحجة خروقات حصلت من جانب «حماس»، كما ضغطت عليها في العديد من المرات بالالتزام بزيادة عدد الشاحنات التجارية والمساعدات إلى القطاع.

«ضغوط وهمية»؟

رغم أن هذه الضغوط تؤتي أكلها وثمارها في بعض الأحيان، لكن الفصائل الفلسطينية والمراقبين للوضع في قطاع غزة، يرون أنها مجرد ضغوط وهمية في قضايا غير ملحة، وأن هناك حاجة أكثر لضرورة أن يكون الضغط فاعلاً تجاه قضايا أكبر ومهمة بالنسبة للسكان في القطاع، مثل البدء بتوفير المواد الإغاثية من خيام جيدة صالحة للحياة، وإدخال الكرفانات، والبدء بمسيرة إعمار جادة، بينما تتطلع إسرائيل للبدء بنزع سلاح «حماس» والفصائل الأخرى، وأن تتخلى الحركة عن حكمها للقطاع، وهي قضايا ما زالت تبحث ويدار حولها الكثير من اللقاءات والمحادثات الهادفة للانتقال لكل عناصر وبنود الاتفاق بمرحلته الثانية.

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

ولربما غالبية سكان قطاع غزة، كانوا يتطلعون لنجاحات أكبر من إدارة ترمب بعد أن فرضت على إسرائيل و«حماس» اتفاق وقف إطلاق النار، سواء من خلال الدبلوماسية التي قادتها هذه الإدارة من جانب، أو من خلال سياسة الضغط عبر الوسطاء وحتى عبر التهديدات التي كان يطلقها ترمب من حين إلى آخر، لكن هناك من يرى سياسياً وشعبياً أن الولايات المتحدة ما زالت لم تقدم الكثير تجاه إنجاح هذا الاتفاق في ظل أنه كان المأمول في أن يتغير واقع القطاع لأفضل من ذلك، خاصةً على مستوى الظروف الحياتية وبدء الإعمار، وهو الأمر الذي يهتم به المواطن في غزة أكثر من أي مطالب أخرى.

المرحلة الثانية

وفتحت اللقاءات المباشرة بين «حماس» والإدارة الأميركية، التي كانت مفاجئة بالنسبة لإسرائيل، أفقاً أكبر لإمكانية الانتقال للمرحلة الثانية بسلاسة كما جرى في المرحلة الأولى، حيث تحاول الحركة الفلسطينية إقناع إدارة ترمب بالعديد من المقترحات التي تقدمها عبر الوسطاء، لكنها كانت تتطلع لعقد لقاء آخر مع المبعوثين الأميركيين لبحث هذه القضايا بشكل مباشر، قبل أن تعترض إسرائيل على هذه اللقاءات، ما أدى لتأجيلها، في وقت جرت تسريبات عن أنها عقدت سراً، وهو الأمر الذي لم يؤكد سواء من الحركة أو الولايات المتحدة.

مسلحون من «حماس» يحملون أحد التوابيت في أثناء تسليم جثث رهائن إسرائيليين إلى «الصليب الأحمر» في خان يونس 20 فبراير 2025 (د.ب.أ)

ويبدو أن «حماس» التي تدرس جيداً الكثير من خطواتها، قبل أن تخطوها، تتفهم خريطة عمل إدارة ترمب التي تصنف في استراتيجية أمنها القومي منطقة الشرق الأوسط «منطقة شراكة» لا التزام عسكري طويل، بما يشير إلى أن الولايات المتحدة تحت حكم ترمب، منفتحة على أن حتى من يصنفون أنهم أعداؤها، يمكن أن تكون لهم الفرصة في حال أثبتوا قدرتهم على أن يصبحوا شركاء نافذين لها في منطقة الشرق الأوسط، وأنه لا يهمها من يحكم، إنما يهمها الشراكة المُجدية فقط.

انتصار مزدوج

وتتجه «حماس» لاستغلال هذه الفرصة التي وضعتها الإدارة الأميركية لنفسها، للتواصل مع جهات غير حكومية في سبيل حل التعقيدات التي تواجه سياساتها الخارجية، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط، بما يحقق لها ولرئيسها دونالد ترمب، انتصاراً دبلوماسياً يطمح له الأخير لتحقيق هدفه بالحصول على جائزة «نوبل» للسلام من جانب، وبما يشكل من جانب آخر اتفاقاً قد يكون غير مسبوق فيما يتعلق بواقع القضية الفلسطينية ومصير الصراع مع إسرائيل.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قمة شرم الشيخ لإنهاء حرب غزة بمصر يوم 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

ورغم هذه الرؤية، فإن هناك في «حماس» من لا يأمن الجانب الأميركي الذي قدم في العديد من المرات وعوداً لم تتحقق بالنسبة للحركة، ومنها عندما أطلقت سراح الجندي الإسرائيلي الذي يحمل الجنسية الأميركية، عيدان ألكسندر، كهدية لترمب بعد لقاءات مباشرة بين الجانبين، وضمن اتفاق ضمني يسمح بفتح المعابر وإدخال المساعدات للقطاع، في وقت تهربت فيه إسرائيل من هذا الاتفاق، كما تهربت من اتفاق مماثل بتسليم جثة الضابط الإسرائيلي هدار غولدن مقابل حل أزمة العناصر المسلحة من «حماس» في أنفاق رفح، الأمر الذي قد يؤشر أيضاً إلى عدم قدرة تحقيق الإدارة الأميركية إنجازات حقيقية في قطاع غزة، حال بقيت سياستها على حالها دون ضغط حقيقي على إسرائيل.