عبد الرحمن الرويشد... عرّاب التاريخ الوطني السعودي

ودعت السعودية أمس، عبد الرحمن بن سليمان الرويشد، أحد أبرز مؤرخيها، عن عمر يناهز الـ88 عامًا، بعد معاناة مع المرض. وبرحيله تكون البلاد قد فقدت مؤرخًا، ومؤلفًا، وباحثًا، وكاتبًا، متفردًا بأطروحاته المتعمقة والموثقة، وغير المسبوقة في الكثير منها، ويعد أحد مصادر تاريخ الوطن ومرجعًا رئيسًا فيه.
ولد الراحل في الدرعية، عاصمة الدولة السعودية الأولى، وعاش في العاصمة الرياض وشهد مراحل تحولاتها. وعايش ملوك الدولة الحديثة والتحولات التي جرت في عهودهم. كما عايش فترات ذات شأن في تاريخ السعودية والعالم العربي والإسلامي، بل والعالم، وشكلت - تلك الفترات - منهجه في مؤلفاته المتعددة، بعد أن نذر نفسه في سن مبكرة للعلم والمعرفة والإبداع والتأليف والتحقيق في موضوعات التاريخ والسير والتراث وأدبياته وأدواته. وأنشأ لهذا الغرض مكتبة ضخمة متنوعة العناوين، وأرشيفًا للصور، ومخزنًا للمعلومات المهمة. كما أنشأ الراحل مجلة «الشبل» الموجهة للأطفال. وبرز الرويشد في تصحيح بعض المعلومات في تاريخ السعودية وسيرة مؤسسيها. كما سجل حضورًا في تحكيم بعض المؤلفات، والرد على ما تزخر به بعض كتب المؤرخين من أخطاء في النقولات. وحصل الراحل على وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، كما حصل على جائزة الأمير (الملك) سلمان بن عبد العزيز لدراسات الجزيرة العربية.
وقال عنه المؤلف والباحث والمؤرخ والإعلامي السعودي، عبد الرحمن الشبيلي، إنه ظاهرة توثيقية متفرّدة، ومؤرخ خاص في اهتماماته، ساعده المحيط الذي عاش فيه في أن يتخذ من التاريخ تخصصًا، ومن الروايات الشعبية المتداولة مادة للرصد، ومن قربه لبيوت الأسرة السعودية المالكة القديمة، في الصفاة، والمربّع، ومعرفته بسلالاتها وألقابها، مجالاً للتدوين. قرأ لابن بشر، وابن غنام، وابن لعبون، وابن سلّوم، وابن خنين، وابن عيسى، والفاخري. وتفحّص كتب بوركهارت، والريحاني، وفيلبي، وغيرهم من الرحالة والمستشرقين الذين مروا بالسعودية وألفوا عنها. وقرأ كتب حافظ وهبة، وفؤاد حمزة، ورشدي ملحس، محققًا الانفراد النوعي في كتابة التاريخ الوطني والشعبي مع قلة من المؤرخين المعاصرين، فسار على نهج فريد ومنوال متخصص في العقود القليلة الماضية.
عاش الرويشد - المولود في الدرعية سنة 1928 - في حارات الرياض، وعرف أزقّتها وأسواقها وبساتينها، وعاصر التحوّلات التي شهدتها عبر ثمانين عامًا، وأدرك العهود السياسية التي مرّت بها، وجالس رجالاتها، وتعرّف على أُسرها وبيوتاتها وأعيانها، وحضر حلقات الدروس مع مشايخها، ودلف إلى صالونات المثقفين من الأمراء ومجالسهم (الأمراء سعود الكبير، وعبد الله بن عبد الرحمن، ومساعد بن عبد الرحمن... وغيرهم)، حيث كان يستمع ويشترك في المناقشات والردود ويدوّن، وكان له من دراسة الشريعة واللغة العربية ونظم القوافي، ما مكّنه من التعامل مع أدبيّات التراث وأدواته.
واطلع الرويشد على ما تضمّنه الأرشيف العثماني والبريطاني والجمعية الجغرافية الملكية البريطانية، بعد أن نُقل إلى العربية، وما يتصل فيها بتاريخ الدولة السعودية في عهودها الثلاثة. وكانت له جهود في توضيح بعض المعلومات المغلوطة في تاريخ السعودية وفي سيرة مؤسسيها، وفي تحكيم بعض المؤلفات، والردّ على ما تزخر به بعض كتب المؤرّخين من أخطاء في النقولات. ونقد مثلاً، بعض ما أورده آرمسترونغ، وليسي، وبنوا ميشان، وفاسيلييف من روايات. كما قام مع محمد بن عبد الله الحميّد عام 1998، وبتكليف من دارة الملك عبد العزيز، بمراجعة الكتاب القديم المثير للجدل، «إمتاع السامر بتكملة متعة الناظر»، وتوضيح ما عليه من شبهات، إكمالاً لملحوظات نشرها أبو عبد الرحمن بن عقيل.
واستفاد الرويشد كثيرًا من قرابته ومجالسته لابن عمه سعد بن عبد العزيز الرويشد (ت 2014)، أحد كتبة الديوان الملكي الملمّ بالتاريخ المعاصر لتوحيد السعودية، وكان قد أصدر عام 1955 ديوانًا عنوانه: «العقد الثمين في قصائد شاعر الملك عبد العزيز محمد بن عبد الله بن عثيمين». واقترب الرويشد أيضًا، من الأديب الموسوعي عبد الله بن خميس (ت 2011)، الضليع في جغرافيا إقليم اليمامة (منطقة الرياض) وتاريخه، ليستقي منه المعلومات البلدانية والاجتماعية والتراثية الخاصة بالمنطقة.
ومما انفرد به الراحل عن غيره من المنشغلين بالتاريخ المحلي، أنه بنى على أول محاولة وضع نواتها محمد أمين التميمي عام 1945، لتصميم مشجّرة الأسرة المالكة. وكان التميمي (المولود في يافا بفلسطين عام 1907)، قدم إلى الرياض في عهد الملك عبد العزيز، وعمل في البداية في وزارة الخارجية، وألّف كتاب «لماذا أحببت ابن سعود؟» عام 1946، الذي أعادت الدارة طباعته عام 1999. وبعودة التميمي ثانية إلى السعودية، عمل مستشارًا في وزارة المعارف، حيث واصل تطوير المشجّرة وإجراء التنقيحات عليها عام 1966. وبعد تقاعده، تولّى الرويشد، برغبة من الملك فهد، وضع قاعدة معلومات للمشجرة على أسس منهجية حديثة. فأضاف فهارس أبجدية بأسماء سلالاتها وفروعها وجداولها، مع إعادة رسمها كاملة، مستخدمًا الكومبيوتر لرصد فئاتها ومواليدها ووفيّاتها وأعمارها وتعدادها (الذي بلغ قرابة ستة آلاف لكل من يحمل اسم «آل سعود» فيها منذ قيام الدولة قبل نحو ثلاثة قرون). وصار عمله وفهارسه رافدًا ومرجعًا لأعضاء الأسرة نفسها، وللجهات الرسمية والخاصة المعنية بالتوثيق، وقد طُبعت الشجرة والفهارس طبعات عدة.
نشر الرويشد مقالات تاريخية معمّقة عن شخصيات أسهمت في تأسيس الدولة، لم يسبق لسيرها أن وُثقت، (مثل محمد بن شلهوب «الشهير بشلهوب»، وهاشم الرفاعي أحد كتبة الديوان الملكي الذي كان زميلاً للملك عبد العزيز في كتاتيب الكويت). كما عُني بتوثيق أسماء الرجال الستين الذين دخلوا الرياض عام 1902 مع الملك عبد العزيز، وكتب تراجم لهم. وألّف في موضوعات نادرة لم تصل إليها يد التوثيق من قبل. فأصدر كتابًا في عام 1992، عن تاريخ حصن «المصمك» في الرياض، الذي يعود بناؤه إلى نهاية القرن التاسع عشر، وانطلقت منه شعلة توحيد المملكة. وألّف عام 2007 كتابًا عن تطوّر العلَم السعودي وشكله عبر العهود الثلاثة للدولة، مفنّدًا مزاعم انفراد شخص أو أشخاص بتصميمه في عهد الملك عبد العزيز، وتضمّن الكتاب وصفًا لشعار الدولة (السيفين والنخلة) والأوسمة والنياشين والشارات والميداليات.
ومن مؤلّفاته؛ كتابه في سيرة وزير المالية في عهد الملك عبد العزيز (عبد الله السليمان الحمدان ط1/ 2001، وط2/ 2010)، وكتابه في سيرة الأمير محمد بن عبد العزيز (ط1/ 2002)، وكتابه «الجداول الأسرية للعائلة السعودية المالكة»، (ط1/ 1998، ثم ط2/ 2012)، وكتابه المتمم «الفهرس الأبجدي للعائلة المالكة»، (ط1/ 2014). وقد أسس، إلى جانب اهتماماته بالتأليف في ميداني التاريخ والسير والتراجم، «دار الشبل للنشر» ومطبعتها. وأصدر مجلة «الشبل» للطفل (1981). كما عمل مستشارًا غير متفرّغ لدارة الملك عبد العزيز، وكان ممن أسهم بفاعلية في التحضير للاحتفال العلمي بالذكرى المئوية لاستعادة الرياض (1999) التي آذنت ببدء تأسيس المملكة العربية السعودية. وكان ممن يركن المسؤولون إلى تقويمهم ما ينشر من كتب تاريخية، وممن يستأنس الباحثون والدارسون بمعلوماتهم وينقلون عنهم، حيث لا تكاد تخلو الكتب التاريخية الصادرة في العقود القليلة الماضية، من الاستشهاد بمعلومات يكون الرويشد مصدرها، وقد أسس على مدار هذه العقود أرشيفًا للصور، ومخزنًا من المعلومات، ومكتبة لا تقدّر أهميّتها بثمن، بالإضافة إلى مكتب صار مرجعًا لاستقبال الباحثين.