من التاريخ: مذبحتان سياسيتان في العصر العثماني

السلطان محمود الثاني
السلطان محمود الثاني
TT

من التاريخ: مذبحتان سياسيتان في العصر العثماني

السلطان محمود الثاني
السلطان محمود الثاني

على الرغم من أن التاريخ لم يسجل كثيرًا من الحالات التي قام فيها الملك أو السلطان بالتخلص من أعدائه عبر مذبحة جماعية، فإن القرن التاسع عشر شهد مذبحتين فاصلتين في التاريخ الإسلامي: الأولى في عهد والي مصر محمد علي باشا، والثانية في عهد السلطان العثماني محمود الثاني؛ الفارق الزمني بينهما 15 سنة بالتمام. وقد أسفرت المذبحتان بشكل مباشر عن انفراد الرجلين بالحكم في بلادهما، بلا منافس.
غير أن الحصيلة النهائية كانت مختلفة تمامًا بالنسبة للرجلين، ذلك أن الأول استغلها لصالح بناء مصر الحديثة، في حين فشل مشروع الثاني في تطوير الدولة العثمانية، ولكن الأغرب من ذلك أن محمد علي ومحمود الثاني تصادما سياسيًا وعسكريًا، وانتهت المواجهة بينهما بموت السلطان العثماني وهزيمة محمد علي في دائرة تاريخية قلما تحدث في التاريخ الحديث. ومن ثم، استخدم الرجلان الوسيلة ذاتها للتخلص من منافسيهما، لكنهما خسرا في نهاية المطاف.
واقع الأمر أن الأحوال في مصر كانت مضطربة للغاية بعد فشل الحملة الفرنسية على مصر والشام، وهروب نابليون بونابرت تاركًا البلاد في حالة من الفوضى العارمة. وانتهت هذه الحالة بصورة أو بأخرى بتولي أحد رجال اللواء الألباني الذي كان ضمن الجيش العثماني المكلف بطرد الفرنسيين، والذي أصبح اسمه فيما بعد مرتبطًا بالنهضة الحديثة لمصر، وهو محمد علي باشا آمر مصر. ومع أن دهاء الرجل السياسي مكنه من استمالة الشعب المصري لصالح تثبيته في الحكم، ولو مؤقتًا، فإن القوة الرئيسية التي كانت مسيطرة على مقاليد البلاد هي للمماليك. وهؤلاء، رغم هزيمتهم على أيدي القوات العثمانية، ظلوا الحكام الفعليين لمصر، بسطوتهم وتنظيماتهم العسكرية. ومن ناحية أخرى، مع أنهم حكموا مصر بالوكالة لصالح الدولة العثمانية، ظل المماليك شوكة في ظهرها. إلا أن التكلفة السياسية والعسكرية للتخلص منهم كانت باهظة على العثمانيين، مما اضطرهم للتعايش معهم.
ولكن مع انفراد محمد على بحكم مصر عام 1805، وبعد هزيمة الحملة البريطانية بقيادة الجنرال ألكسندر ماكنزي فريزر، أدرك محمد علي أنه لن يصفو له الحكم إلا بالتخلص من هذا «الطابور الخامس» الذي كانت له اتصالاته الخارجية وقوته العسكرية النسبية. ومن ثم، قرر هذا «الثعلب السياسي» استخدام الحيلة للتخلص من هذا العدو، فأبدى تعاطفًا معهم على مدار فترة حكمه. وذات يوم، دعاهم إلى احتفال كبير بمناسبة إحدى الحملات العسكرية الخارجية عام 1811، في القلعة، وجمعهم في بهوها، وقدم لهم الضيافة المناسبة، وبقيت قيادات المماليك تستمتع بالاحتفال العظيم دون أن تعلم بأمر الفخ الذي نصب لها. وفي ساعة محددة، أخلى رجال الوالي ساحة القلعة تدريجيًا، وبدأت أشهر مذبحة سياسية في تاريخ مصر، فتدفق الرصاص يحصد المماليك بلا رحمة.
وتقول بعض المصادر التاريخية إن محمد علي نفسه ارتعد إثر حصاد الموت الذي كان دائرًا، لكنه لم يكن لينسى ما فعله به المماليك، ومحاولتهم قتله والتخلص منه، وما أذاقوه لمصر من فساد وقسوة عارمة منذ أن انتهت خلافتهم في البلاد في عام 1517. وعلى الرغم من ارتجاف محمد علي وهو يرى المنظر، فإن تصميمه على التخلص من هذا «الطابور الخامس» لم يتأثر. وانتهت المذبحة في زمن قصير، وتناثرت الجثث والهام في ساحة القلعة، ولم يفلت من المماليك إلا واحدًا، وهو إبراهيم بك الذي تناثرت حوله الروايات والأساطير. وهكذا، تحقق التخلص التام من المماليك، ولم يعد لهم في مصر أي قوة تذكر بعد ذلك اليوم، ودانت مصر في عام 1811 للحكم المطلق لمحمد علي. وعلى جثث المماليك، بدأ الرجل ينظّم مصر بشكل مختلف، إلى أن صنع منها الدولة الحديثة التي هزّت أركان النظام السياسي الدولي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بجيش قوي وتنظيم داخلي محكم وقاعدة صناعية عسكرية كفلت للبلاد قدرًا كبيرًا من الاعتماد الذاتي.
على العدوة الأخرى من البحر المتوسط، في إسطنبول (الآستانة)، كان السلطان محمود الثاني الذي تولى السلطنة في 1808 يتابع مذبحة القلعة في مصر بقدر من القلق والانبهار، فبهذه الخطوة أصبح محمد علي الحاكم الفعلي لمصر، ولن يكون هناك أي «طابور خامس» يمكن للدولة العثمانية الاعتماد عليه للتخلص من هذا الوالي، ولكن عينيه كانتا تتمحوران على هذه الحيلة الذكية التي كفلت لواليه على مصر التخلص من أعدائه المنظمين. فإذا كان المماليك في مصر يعيثون في الأرض فسادًا، فإن مشكلته كانت أكبر وأعمق، إذ تحولت فيالق الإنكشارية إلى «دولة داخل الدولة» العثمانية. وتحولت هذه القوة العسكرية التي كانت تبث الخوف والذعر في قلوب أعداء الدولة العثمانية إلى أداة فساد ودمار داخلي في الجسد العثماني. وحقًا، كان الإنكشارية كثيري التمرد والتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، كما كانوا يعزلون السلاطين في مناسبات، أو يحاصرونهم حتى يغيروا القيادات السياسية، مستبيحين البلاد والأسواق بلا أية مراعاة للسلطة السياسية أو الحرمة الدينية للمواطنين. وبالمختصر، لم يعد من الممكن أن تتطور الدولة العثمانية وجيوشها ما استمرت هذه الفئة المنحرفة داخل المشهد السياسي. ومن ثم، كانت هناك ضرورة للتخلص منها تمامًا، ولكن كيفية إتمام هذه المهمة كانت تحتاج إلى فكر جديد استقاه السلطان من واليه على مصر، من خلال مذبحة جرى تدبيرها على نسق ما بات يعرف بـ«مذبحة القلعة» نفسه.
لقد بدأ السلطان محمود تحركه من خلال الإعلان عن تنظيم فيالق عسكرية جديدة، وبدأ بالفعل في تشكيل بعضها، وهو ما أثار حفيظة الإنكشارية في الآستانة. وصدق حدس السلطان مع تنظيم الإنكشارية عصيانهم المعهود؛ إنهم لم يدركوا هذه المرة أن السلطان كان قد أعد العدة للرد السريع. وبالفعل، بمجرد تحرك قوات الإنكشارية من ثكناتها، وتوجّهها نحو مضمار سباق الخيل الكبير للتجمع قبل التوجه إلى سراي السلطان، فوجئت بقوات السلطان تفتح عليها النيران في الشوارع الكبرى والأزقة، وهو ما اضطر القوات إلى التفرّق والتوجه نحو ثكناتها للتمركز، تمهيدًا لرد الاعتداء عليها. غير أن قوات السلطان لم تسع إلى محاولة اختراق الدفاعات الإنكشارية، بل أطلقت عليهم المدفعية الثقيلة، وقضت على كل مقاومتهم، ودمرت ثكناتهم. وأسفرت هذه المذبحة عن مقتل أربعة آلاف إنكشاري، إضافة إلى آلاف الآخرين خارج الثكنات. وبعد ذلك، أصدر السلطان التعليمات، فقضت قواته في سائر أنحاء الدولة العثمانية القضاء المبرم على الإنكشارية، سواء بالقتل أو النفي أو السجن، وبهذه الخطوة استطاع السلطان أن يتخلص من أكبر خطر واجه الدولة منذ نشأتها، إضافة إلى الطائفة البكتاشية التي كانت تساند هذه الفيالق. ولقد فتح هذا التطور المجال أمام بناء جيش عثماني قوي وعصري على أساس التجنيد الإجباري، متبعًا خطى مصر السريعة في تأسيس أول جيش وطني في المنطقة.
وعلى الرغم من أن السلطان محمود الثاني استطاع أن يقضى على الإنكشارية، ويسعى لبدء حركة الإصلاح السياسي والاقتصادي في الدولة العثمانية، فإن التحديات الخارجية كانت أقوى منه. إذ سرعان ما سعى لاسترداد سوريا من أيدي محمد علي باشا، وهو ما أدخله في حرب مع جيشها في عام 1839، مما أسفر عن هزيمة ساحقة للعثمانيين في نزيب. وفي العام نفسه، فقدت الدولة العثمانية جيشها الجديد، واستسلم أسطولها طوعًا لمصر، ومات السلطان محمود الثاني متأثرًا بفشله.
وأيًا كان التقييم الحقيقي لدور العناصر التي تمثل «الدويلة داخل الدولة»، كحال المماليك في مصر والإنكشارية في الدولة العثمانية، فإن طريقة التخلص منهم كانت واحدة. ولكن في دولة فتية متجانسة مثل مصر، استطاع الوالي أن يبني دولة قوية حديثة، بينما فشل السلطان محمود في إنهاض الدولة العثمانية العتيقة القليلة التجانس.



إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر