السعادة بين نعمة الجهل وشقاء العقل

تتأسس على ما يميّز الإنسان عن غيره من الكائنات

السعادة بين نعمة الجهل وشقاء العقل
TT

السعادة بين نعمة الجهل وشقاء العقل

السعادة بين نعمة الجهل وشقاء العقل

جرى التعامل مع السعادة في التقليد الفلسفي باعتبارها مطلبا في المتناول، عن طريق التمارين العقلية والفكرية، فأرسطو اعتبر أن السعادة تتأسس على ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات، أي العقل والفكر. وبالتالي فإن استثمار هذه المقدرة، هو الذي سيوصلنا إلى السعادة المنشودة. فالعقل يمكّننا من اختيار الطريق الوسطي، وضبط النفس، وبلوغ الفضيلة.
إن تصورا للسعادة بهذه الطريقة، سيجعلها من حظ الفلاسفة والمفكرين وذوي العقول الفذة فقط. إلا أن الملاحظ، هو أن هؤلاء كثيرا ما يعبرون عن تعاستهم ونظرتهم المتشائمة للحياة.

غالبا ما يُعتبر الناس العاديون أكثر حظا من هؤلاء وأكثر سعادة. ولا يمكن أن يكون الطبيب، الذي يعرف خبايا الجسم، ويعلم أن السرطان يترصده فيحوله، في أي وقت، إلى قنبلة موقوتة، ويعرف كذلك أن الإنسان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، أن يكون أكثر سعادة من إنسان مطمئن إلى أن الجسم بديع في صنعه، تام في عمله وأشغاله. وقد يكون الرجل الجاهل أسعد من عالم الفلك، الذي يعلم أننا نعيش في نقطة صغيرة جدا هي مجرد حبة رمل في صحراء لا قرار لها. وأسعد من فيلسوف يعلم أن الحقيقة موجودة فقط في أوهامنا وتخيلاتنا وأحلامنا، وأنها ليست مبحثا واقعيا بقدر ما هي ذات طبيعة ميتافيزيقية. لماذا لا نقلب الآية ونقول إن السعادة في الجهل، والتعاسة في العقل؟ ولم لا نقول إن الجهال والحمقى، يمكن أن يكونوا أكثر سعادة من أعقل العقلاء؟
ظل الاعتقاد بأن السعادة تكمن في اللامبالاة، وتجنب كثرة التحقيق في أمور الحياة، حاضرا منذ بداية التأمل الفلسفي. فها هو الفيلسوف اليوناني سقراط، يعتبر الجهل جزءا لا يتجزأ من السعادة، ودليله في ذلك، أن أكثر الناس سعادة، هم الأطفال والأشخاص الذين لديهم جهل بالحياة. وبالتالي، فالمعرفة في نظر سقراط، تبقى بعيدة عن أن تمنحنا السعادة المأمولة. كما أن أفلاطون وضح في الجمهورية، كيف أن الحقيقة تعمي أعين سجناء الكهف، الذين ما إن يطلعوا عليها حتى يعودوا إلى الاختباء في كهفهم، راضين بجهلهم وبتمثلاتهم وأوهامهم داخل الكهف المظلم.
وإذا كان العصر الحديث قد عرف بدفاعه عن حياة العقل، باعتباره الفيصل بين الحقيقة والوهم، والأداة المثلى التي تمكننا من التخلص من قيود العقل التي تشل حركتنا وتكبل عقولنا، فنتحرر ونعانق الحقيقة، ونكون بالتالي سعداء، فإن هذا المسعى سوف يتبخر بسبب مآلات العصر الحديث الذي انقلبت فيه المعايير، ليس لصالح حياة العقل والتفكير، وإنما لصالح التاجر الذي استفاد من التطور الفكري والعلمي والصناعي، ما جعل صناعته تزدهر، وثروته تتضاعف، فتلاشى التصور العقلي للسعادة، لصالح الطبقة البرجوازية التي تحكمت في كل شيء، بما فيه الحياة الفكرية، وأدخلتها إلى منطق السوق والربح المادي، وأصبحت مرتبطة بالنجاح التجاري. بمعنى آخر، السعيد هو البرجوازي الذي ليس بالضرورة عالما أو مفكرا أو فيلسوفا. وهذا ما فطن له أديب كبير هو كوستاف فلوبير، الذي احتقر تحول السعادة إلى هم برجوازي. وقد عرّف في كتابه «مراسلات»، السعادة بالمعنى البرجوازي، بشكل ساخر، فقال: «أن تكون غبيا وأنانيا وترفل في صحة جيدة، تلك هي الشروط المطلوبة لتكون سعيدا، لكن لو لم يتحقق الشرط الأول لن يتحقق شيء». أن تكون غبيا، يعني أن تمتنع عن التفكير، وتدع أمور الحياة تسير على ما هي عليه، مثلما تفعل الحيوانات تماما. فلا نكثر في البحث عن الأسباب والمسببات، ونرضى بالتالي، بالنظرة المألوفة العادية الاعتيادية، مثلما يفعل الجميع. أما العنصر الثاني، الذي يتحدث عنه فلوبير، فهو الصحة. فمن دون صحة جيدة، لا يمكن أبدا للرجل أن يكون سعيدا. أما الأنانية، فتجعلنا نظن أن العالم ملك لنا، وأنه كله يشتغل من أجلنا، فيرتد كل شيء على الذات التي تسعد بهذا الإحساس إذ تكون هي المركز.
يعتبر الوعي بمثابة الميزة الأساسية التي يتسم بها الإنسان. فالفكر هو الخاصية الأساسية التي تعلو بالإنسان عن باقي الكائنات الأخرى. هكذا، فالفيلسوف الفرنسي بليز باسكال، يقول في «التأملات»، إن الإنسان مجرد قصبة، بل هي من أضعف القصبات. لكن المهم ليس ضعف هذه القصبة، بل إنها قصبة تفكر. فالفكر يؤسس عظمة الإنسان. يضيف باسكال أن الإنسان من حيث الجسد يتسم بالضعف، ويمكن لأي قوة في الكون مهما كانت بسيطة، أن تقضي عليه. إلا أن قوته تتجلى بالأساس في فكره ووعيه. إن عظمتنا تكمن في قدرتنا على الوعي ببؤسنا وبؤس العالم الذي نعيش فيه. فالأشجار، ليس بمقدورها أن تعي بؤسها دائما، حسب بليز باسكال. لكن فيم سيفيدنا الوعي بهذا البؤس، إذا كان هذا الوعي غير قادر على تخليصنا منه؟ في الحقيقة، إن هذا التصور التراجيدي، تبلور كثيرا في تاريخ الفلسفة، يمكن أن نجده عند فريديريك هيغل وفريديريك نيتشه، وكذلك آرثور شوبنهاور. هؤلاء جميعا، عبروا في كثير من كتاباتهم، على الرغم من بعض الاختلافات، عن كون الوعي سببا في شقاء البشر. إنه يجعلنا نعي نقصنا وعوزنا، كما لو أنه لعنة نحملها في صميمنا. هو سبب شقائنا عوضا عن أن يكون سبب سعادتنا.
يورد الكاتب الفرنسي فريديريك لونوار، في كتابه «السعادة: تاريخ موجز»، الصادر عن دار التنوير للطباعة والنشر، ترجمة خلدون النبواني، 2015، قصة للكاتب الفرنسي فولتير، لا تخلو من بعد فلسفي تأملي، عنوانها قصة براهمان طيب L›histoire d›un bon brahminKK، حيث يتحدث فولتير عن ضيق أحد البراهمان الهنود الحكماء وتعاسته الناتجة من عدم قدرته على الحصول على أجوبة تكون مقنعة للأسئلة الميتافيزيقية التي لا يني يطرحها على نفسه، في حين كانت تعيش إلى جانبه امرأة متعصبة جاهلة، لم تفكر للحظة واحدة في حياتها، في أي من تلك الأفكار التي تشغل بال البراهمان. ومع ذلك، فقد كانت تبدو أسعد نساء الأرض. جوابا على سؤال وجه لهذا البراهمان: ألا تشعر بالخجل لكونك تعيسا في الوقت الذي تعيش فيه إلى جوارك عجوز، لا تزيد عن كونها دمية متحركة لا تفكر بشيء، وهي بذلك تعيش هانئة البال؟ يرد الحكيم: «معكم حق، لقد قلت لنفسي مائة مرة، إنني سأصير سعيدا لو كنت ببلاهة جارتي. ومع ذلك، فإنني لا أرغب في سعادة كتلك». إن مشكلة الأحمق السعيد، في نظر فريديريك لونوار، تكمن في كونه يغوص في السعادة الدائمة، طالما هو جاهل، أو طالما ظلت الحياة لا تعانده. فسعادته تكمن في غياب المسافة التفكرية في الحياة والموت والألم.
هل نرغب نحن بسعادة كتلك؟ هل نكون مجرد حمقى سعداء؟ صحيح أن التصور الحالي للسعادة، لا يختلف عن ذلك الذي تحدث عنه غوستاف فلوبير وفولتير. فمجتمعنا جعل من التفكر والبحث الفلسفي، أمرا مرذولا وشقاء لا طائل من ورائه. بل أكثر من ذلك، يجري تهميش أصحابه ونعتهم بالحمق والجنون، انطلاقا من معايير مقلوبة. فارتبطت السعادة بالاستهلاك غير المعقلن واللا محدود، الغرق في اللذة والمتعة غير محسوبة العواقب. أما المعرفة فهي تلك التي يرجى من ورائها نفع مادي ملموس. وعلى الرغم من إغراءات الجهل ولذته، فإنه سرعان ما يصيبنا بالألم والأسى. في الوقت الذي نشعر فيه بجهلنا، فسنكون بالتأكيد سعداء، في حال شكل شخص بالنسبة لنا نموذجا أخلاقيا وقدوة سلوكية، تعتبر مثلا بالنسبة لنا، لنعرف حقيقته التي هي عكس ما يدعيه، وعلى الرغم من الأسى المرادف للحقيقة، التي سنطلع عليها، فإننا سنفضل ألم الحقيقة على لذة الغباء والجهل. كما أننا سنفضل أن نعرف أن البركان الموجود في مدينتنا على وشك الثوران، حتى نعيره الانتباه لإنقاذ أنفسنا، عوضا عن أن نبقى مستمتعين بجهلنا، يقينا منا أنه بركان خامد، كما قد تسوق السلطات لذلك.
بكل بساطة يمكن القول، إن الجهل مهين لكرامتنا، والسعادة ليست في الجهل وإنما في حياة العقل والتفكير مهما أزعج ذلك عالمنا، ومهما قض مضاجعنا. لا يمكن أن نرضى لأنفسنا، بسعادة العجماوات والجهل والإيمان الأعمى، كما عبر عن ذلك نجيب محفوظ في «خان الخليلي» بقوله: «فتش عن السعادة الحقة على ضوء العلم والعرفان. فإذا وجدت مكانها قلقا وسخطا وشقاء، فتلك آيات الحياة الإنسانية الفاضلة الحقيقية، بتطهير المجتمع من نقائصه والنفس من أوهامها الحقيقية، ببلوغ السعادة الحقة».
* أستاذ فلسفة



«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد
TT

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان. وصدر الكتاب حديثاً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة «آفاق عالمية» بالقاهرة.

يقول الشاعر، في كلمته التي كتبها خصوصاً بمناسبة صدور هذه الترجمة العربية الأولى لقصائده، إن «هذا الحدث المبهج» أعاد إلى ذاكرته تلك الأيام التي تعرف فيها للمرة الأولى إلى الشعراء العرب فصار أسيراً لسحرهم ومغامراتهم الشعرية مثل امرئ القيس وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي... وغيرهم.

ويذكر أفضال أن لمسلمي شبه القارة الهندية الباكستانية علاقة خاصة باللغة والثقافة العربيتين، وهذا هو السبب في أن الترجمات الأردية للشعراء والكتّاب العرب تحظى بشعبية كبيرة لدى القراء الباكستانيين وخاصة الأسماء المشهورة مثل أدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وفدوى طوقان، فضلاً عن الروائيين نجيب محفوظ والطيب صالح ويوسف زيدان.

وأشار إلى أنه حين كان طالباً في الجامعة الأميركية ببيروت في الفترة من سنة 1974 إلى 1976، أتيحت له فرصة ثمينة للتعرف المباشر إلى الثقافة العربية التي وصفها بـ«العظيمة»، وهو ما تعزز حين سافر إلى مصر مرتين فأقام بالقاهرة والإسكندرية والسويس ودمياط، حيث لا يمكن له أن ينسى مشهداً ساحراً وهو التقاء النيل بالبحر المتوسط في منطقة اللسان بمدينة رأس البر التابعة لدمياط. وضمن سياق القصيدة التي تحمل عنوان الكتاب يقول الشاعر في مستهل مختاراته:

«اخترع المغاربة الورق

الفينيقيون الحروف

واخترعت أنا الشعر

اخترع الحب القلب

صنع القلب الخيمة والمراكب

وطوى أقاصي البقاع

بعت أنا الشعر كله

واشتريت النار

وأحرقت يد القهر».

وفي قصيدة بعنوان «الهبوط من تل الزعتر»، يرسم الشاعر صورة مثيرة للحزن والشجن لذاتٍ مُمزّقة تعاني الفقد وانعدام الجذور قائلاً:

«أنا قطعة الغيم

المربوطة بحجر

والملقاة للغرق

ليس لي قبر عائلي

من أسرة مرتزقة

عادتها الموت

بعيداً عن الوطن».

ويصف تجليات الحرب مع الذات والآخرين في نص آخر بعنوان «لم يتم منحي حياة بكل هذه الوفرة»، قائلاً:

«وصلتني أنهاري عبر صفوف الأعداء

فشربت دائماً بقايا حثالات الآخرين

اضطررت إلى التخلي عن موسم فارغ للأمطار

من ترك وصية لي

لأعرف ما إذا كان

هو نفسه الذي كانت تحمله امرأة بين ذراعيها وهي تتوسل إلى الخيالة

والتي بقيت طوال حياتها

تحاول حماية وجهها

من البخار المتصاعد من خياشيم الخيل

لا أعرف ما إذا كان

هو نفسه

الذي ربطته أمه في المهد».

وتتجلى أجواء السجن، نفسياً ومادياً، والتوق إلى الحرية بمعناها الإنساني الشامل في قصيدة «إن استطاع أحد أن يتذكرني»؛ حيث يقول الشاعر:

«حل الشتاء

صدر مجدداً الإعلان

عن صرف بطاطين صوف للمساجين

تغير طول الليالي

وعرضها ووزنها

لكنّ ثمة حُلماً يراودني كل ليلة

أنه يتم ضبطي وأنا أهرب من بين القضبان

أثناء تغير الفصول

في الوقت الذي لا يمكن أسره بمقياس

أقرأ أنا قصيدة».

وأفضال أحمد سيد شاعر ومترجم باكستاني معاصر، ولد في 26 سبتمبر (أيلول) 1946 في غازي بور التابعة لمقاطعة أتربرديش بالهند، قبل تقسيم الهند وباكستان وبنغلاديش؛ حيث بدأ فيها أيضاً حياته المهنية بالعمل في وزارة الزراعة الائتلافية هناك وعند تقسيم باكستان وبنغلاديش 1971، انتقل مع أسرته إلى مدينة كراتشي الباكستانية.

بدأ أفضال كتابة الشعر 1976 وأصدر 5 مجموعات شعرية هي «تاريخ منتحل» 1984، «خيمة سوداء» 1986، «الإعدام في لغتين» 1990، «الروكوكو وعوالم أخرى» 2000، ثم أصدرها مجمعة باعتبارها أعماله الشعرية الكاملة 2009 بعنوان «منجم الطين»، كما أصدر في مطلع 2020 كتاباً يضم قصائده الأولى في الغزل.

وتمثل أغلب قصائده طفرة نوعية في قصيدة النثر الأردية التي ما زالت تعاني من الرفض والتهميش إلى حد كبير لحساب فن الغزل بمفهومه الفارسي والأردي التقليدي الذي ما زال مهيمناً بقوة في شبه القارة الهندية.

ترجم أفضال أعمالاً عن الإنجليزية والفارسية وهو من أوائل من ترجموا لغابرييل غارثيا ماركيز وجان جينيه، كما أصدر في مطلع 2020 ترجمته لمختارات من الشعر الفارسي.

درس أفضال أحمد سيد ماجستير في علم الحشرات بالجامعة الأميركية ببيروت بين عامي 1974 و1976، وذلك في بعثة علمية من الحكومة الائتلافية الباكستانية، فشهد الحرب الأهلية اللبنانية في أثناء إقامته هناك.

يعمل حالياً أستاذاً مساعداً في جامعة حبيب بكراتشي، وهو متزوج من الشاعرة الباكستانية البارزة تنوير أنجم.