ميشيلا مارزانو: فلسفة الجسد كمدخل لفهم الوضع البشري

تسعى لفهم الفعل الإنساني من دون أن تنسى مطلقًا بعده المادي

ميشيلا مارزانو: فلسفة الجسد كمدخل لفهم الوضع البشري
TT

ميشيلا مارزانو: فلسفة الجسد كمدخل لفهم الوضع البشري

ميشيلا مارزانو: فلسفة الجسد كمدخل لفهم الوضع البشري

تعود أحداث شريط فيلم (La catin)، إلى بداية القرن الخامس عشر (1414)، حين تحولت سلطة الجنس إلى مرتبة ومقام سلطويين. ففي ظل تحكم الساسة ورجال الدين في شؤون المجتمع، لفظ هذا الأخير ظواهر اجتماعية فرضت نفسها على صناع القرار، وصار معها صوت المنبوذين والمقهورين، أو «المستضعفين في الأرض»، سلاحًا ذا حدين. فقد تمكنت بطلة الفيلم، من فرض سلطتها على الحاكم الذي رضخ لمطالبها، لا لشيء إلا لأنها استطاعت بجسدها أن تبلغ سريره، وأن تجعله أسير غرائزه الشهوانية وعبدا لجسدها. فالجسد المنبوذ والمتنقل في قوافل لا حق لها في اختراق جدار المدن، أصبح سلطة اجتماعية تنافس السلطة السياسية.

حظي مفهوم الجسد في تاريخ البشرية باهتمام بالغ، استفرد به البحث السوسيولوجي والأنثربولوجي والتاريخي والفينومينولوجي. غير أن فلسفة الجسد، ستفتح باب الوضع البشري على مصراعيه، مع الفيلسوفة الإيطالية المعاصرة ميشيلا مارزينو، التي ترى أن فلسفة الجسد ليست، في الواقع، إلا فلسفة تأخذ كمنطلق لها هذا الجسم ذاته، وتتساءل عن الوجود في العالم الجسمي لكل فرد. إنها الفلسفة التي تسعى لفهم الفعل الإنساني من دون أن تنسى مطلقًا بعده الجسمي. لأن أية فلسفة، وبمعزل عن واقع أن الجسم ربما اعتبر، أحيانا، ثقلاً باهظًا يمنع المعرفة والفضيلة، لم تستطع مطلقًا دراسة بنية وجوده. وتطرح سؤالاً: هل للفرد الحق في ملكية جسده.
ولدت الشابة ماريا ميشيلا مارزانو، في 20 أغسطس 1970 في روما، وتابعت دراستها الثانوية في ثانوية «بيو 9» في المدينة. وفي المدرسة العليا بيز، اتجهت نحو الدراسات الفلسفية، خصوصًا الفلسفة التحليلية والبيوإتيقا التي ألهمتها في جامعة روما (سابينزا). وفي 1998، ناقشت أطروحتها في المدرسة العليا، حول قانون الجسد البشري، التي ساهمت في تطوير أبحاثها الحالية. وبعدها بسنة، دخلت إلى فرنسا حيث أدمجت في المعهد الوطني للأبحاث الاجتماعية سنة 2000. وفي سنة 2010، صارت أستاذة التعليم العالي بجامعة باريس - ديكارت. وخلال عقد ونصف العقد، استطاعت أن تنتج نصوصًا مهمة في مجال الأخلاق والسياسة: «تفكر الجسد» (2002)، «الصناعة الجنسية أو نزيف الرغبة» (2003)، «الوفاء أو الحب» (2005)، «قلق في الجنسانية» (2006)، «فلسفة الجسد» (2007)، «قاموس الجسد» (2007)، «الإتيقا المطبقة» (2010)، «عقد الثقة: في مدح الثقة» (2010)، «كل ما أعرفه عن الحب« (2014). وكباحثة في الفلسفة وكاتبة، انخرطت سياسيًا في اليسار الإيطالي، وانتخبت نائبة برلمانية في فبراير (شباط) 2013.
يستوجب الحديث عن الجسد تعيين الحدود بين الجسم البيولوجي والجسد بمعناه الثقافي، لجهة أن التمييز بين الفطري والمكتسب في الجسم البشري، يضع الحد الفاصل بين البعد الطبيعي والثقافي. فالثقافة في نظر ماريا، «هي ما يتيح للناس الارتقاء لما فوق وجودهم الطبيعي». غير أن الجسد بما هو كذلك، أنواع: الجسد المخفي (بيكيت)، الجسد المشفر (باختين)، الجسد المشرح الذي أعيد تشكيله (وحش فرانكنشتاين)، الجسد المروض والمطيع (فوكو)، الجسد العاري، الجسد المشلول، الجسد المصلوب.. هكذا ترى ميشيلا مارزانو، أن «الجسد هو قدرنا، ليس لأن الكائن البشري ليس حرًا في اختيار الحياة التي تناسبه أكثر، وأنه مصمم وراثيا لإنجاز بعض المهام أكثر من غيرها بسبب طبيعته الجسمية، بل لأن الجسم، وبمعزل عن كل خيار وكل قرار، هو حاضر دائمًا، غير قابل للتجاوز».
تعود علاقة الإنسان بجسده إلى الخطيئة الأولى، التي لا تزال محفوظة في الأذهان بفضل التنشئة الاجتماعية. وقد خضع لشتى أنواع التنكيل والتعذيب، وتأرجح، بحسب الثقافات، بين المباح والممنوع، بين العاري والمستور. وكان موضوع تأملات فلسفية عدة اختلفت بحسب السياقات التاريخية والرؤى الآيديولوجية: «إننا ما زلنا نصطدم اليوم بمواقف آيديولوجية، تختصر الجسد إما إلى حمل ينبغي التحرر منه، وإما إلى جهاز معقد خاضع لنظام من نقاط اشتباك عصبية، تحدد كل سلوك أو قرار إنساني». بيد أن تجربة المسرح بما هو تجسيد للعبة الجسد، قد ساهمت في كشف خباياه، وأطلقت عنانه نحو التعبير الحر، وصارت له في الساحة العامة سلطة فنية وجمالية وسياسية وأخلاقية لا تضاهى.
تستند ماريا في تحليلها لموضوعة الجسد، على إرث فلسفي عميق نجده في كتابات أفلاطون، وديكارت، وسبينوزا، وهوسرل، وميرلوبونتي، ونيتشه، وفوكو وغيرهم. وتتساءل: كيف يمكن الحديث عن الوجود الجسدي من دون الانزواء في خطاب اختزالي، أو على العكس، من دون السقوط في مطب التعداد الساذج «لتقنيات الجسد»؟ كيف نبني فلسفة للجسد قادرة على إبراز المعنى والقيمة الجسمية؟
الجسد علامة إنسانيتنا وذاتيتنا. فهل بمقدور المرء حقيقة، أن يضعه على مسافة منه؟
تبني ميشيلا فلسفة الجسد على مفارقة حقيقية، حيث تقول: «تبدو غالبية النقاشات المتعلقة بالجسم، عالقة في مأزق: فمن جهة، يجري تحليله بوصفه مادة ينبغي قولبتها وفقًا لأهوائنا المتقلبة وغير المكتفية إطلاقا. ومن جهة أخرى، فإنه متماثل مع القدر أو مع الحتمية. وهو مقبول، بالطبع، من قبل كثيرين، بوصفه الركيزة الجسدية لكل شخص ومقر التجارب الشخصية. لكنه أيضًا، وربما في أغلب الأحيان، يعتبر موضوع الملاحظات، والمعالجات، والاهتمامات، والمنظومات الثقافية والطبية. وبدل التجاذب ما بين جسم (ذات وجسم) موضوع حل التناقض بين جسم (كلية، الذي يتطابق مع الشخص، وبين جسم) مجموع أجهزة، الذي سيكون له وضع الأشياء ذاته. لكن إذا كانت المماثلة في الحالة الأولى، تترجم بالاختزال المادّي للشخص، فإن الغيرية في الثانية، تقود إلى الثقة بامتلاك جسم - موضوع، بحيث إن الإنسان يستطيع التفكير بذاته كما لو أنه يفكر بـ«آخر» بالنسبة لجسمه: فكيف يمكن الخروج عندئذ من هذه المفارقة» (فلسفة الجسد، ص9). ولمعالجة هذه المفارقة، فحصت مجموع المذاهب الفلسفية التي قاربت موضوع الجسد من وجهات نظر متباينة: النزعة الأحادية مع ديكارت وسبينوزا، الاختزالية المادية مع لاميتري، والفينومينولوجيا مع هوسرل وميرلوبونتي ولفيناس، والنزعة العصبونية مع شونجو، لتصل إلى الازدراء المعاصر بالجسد، حيث تنامت نزعات تدميرية غير مسبوقة، تحولت من التعبير عن صوت أقليات داخل المجتمعات الغربية، إلى حركات لها وزنها في مجموع الكوكب. لقد تحول الإنسان من الكائن الآلة، كشخص متجسد (من دون جسد لن يكون له وجود أبدًا، فهو، عبر الجسد، مشدود إلى مادية العالم)، إلى الكائن العصبي، لتقارب سؤال: كيف جرت مفهمة الجسد في الثقافة الغربية؟ في التأمل الثالث لديكارت، يصرف النظر عن الجسم وكل الإحساسات، لأنها تفسد عملية التفكير: «سأغمض الآن عيني، وسأصم أذني، وسأنصرف كل حواسي، وسأمحو حتى من فكري كل صور الأشياء الجسمية، أو على الأقل، لأن هذا قد لا يكاد يحدث، فإني سأعتبرها باطلة وخاطئة، وسأحاول، محافظًا فقط على ذاتي، ومتأملاً داخلي، أن أغدو شيئًا فشيئًا معروفًا أكثر ومألوفًا أكثر لدى ذاتي. فأنا شيء يفكر». لأن الحقيقة عند ديكارت، ترتبط بالتفكير الذي هو من خصائص النفس المتميزة عن الجسم (الفكر والامتداد كجوهرين متمايزين). وقد حاول إيجاد الاتحاد بين الروح والجسد، على الرغم من كونهما متمايزين، من خلال الغدة الصنوبرية التي اكتشفها ويليام هارفي (1578 - 1657)، وهو طبيب إنجليزي، مؤسس علم وظائف الأعضاء، ويعود له الفضل في استئناف البحث في التشريح، ووظيفة القلب، والدورة الدموية، بعد أن توقف سنة 1400. وقد كلفه ذلك 12 سنة قضاها في محاولة لإقناع الكلية الطبية الملكية في لندن، بجدوى تجاربه وأبحاثه. غير أن سبينوزا، وإن كان حبيس الواحدية الديكارتية، فقد كتب في الإتيقا: «النفس والجسم هما فرد واحد وذاته منظورًا إليه تارة، تحت صفة الفكر وتارة تحت صفة الامتداد». أما الاختزالية المادية عند لاميتري، كأقصى تجلّ لفلسفة ديكارت، فقد اختزلت الإنسان في المادة وفق فيزياء العصر، ليلغي النفس اللامادية (كتاب «الإنسان - الآلة» 1747)
كانت أبحاث هارفي وغيره من ميكانيكيي القرن السادس عشر، مجرد بداية تواصلت في خضم الصراع مع الكنيسة، لتزيح القلب كعضو محوري في الجسم - الآلة لصالح الدماغ محور الجسم - الأعصاب، الذي اعتبر مع بداية القرن العشرين، مركز المعرفة والانفعال. وتنامى اكتشاف خلايا الجهاز العصبي، «العصبونات»، مع غولجي وكاجال 1906، التي أسهمت في نمو وتطور بيولوجيا الأعصاب، مع جون بيير شونجو، الذي ربط الوعي والحالات العقلية بالسيالات العصبية. وأسهمت فينومينولوجيا هوسرل، في وضع فلسفة حقيقية للجسد. كما غيرت نظرة ميرلوبونتي للجسد كثيرًا من الأفكار، من منطلق أن الجسد هو بوابة الذات نحو العالم والآخرين، والوسيلة العامة لامتلاك الأشياء، بفضل ما تمنحه من معانٍ للعالم والأشياء معًا. وبفضلهما تصور لفيناس، منذ كتابه «الزمن والآخر»، الجسد على أنه: ما يتجاوز السيطرة والملكية من خلال الشعور، وما يعرض أمام النظر قابلية الكائن البشري للجرح وهشاشته مدى الحياة: في جسدية المداعبة تقول ماريا، يتخلى الجسم عن وضعية الكائن. وفي علاقة الحنان تلك، ليس هناك موضوع أو ذات: فالجسدي ليس الجسم - الموضوع للعالم الفيزيولوجي ولا الجسم - الذات للسلطة. ولا يدرك المرء جسميته إلا انطلاقًا من نداء الآخر. ومع ذلك، فإن الذاتية بوصفها كائنًا جسديًا فقط، يمكنها أن تكون حساسة لهذا النداء: «إن ذاتية الذات، هي القابلية للجرح، التعرض للعاطفة، حساسية سلبية أكثر سلبية من كل سلبية، زمن غير قابل للاستعادة، تعاقب غير قابل للدمج من الصبر، عرض معدّ للعرض دائمًا، عرض للتعبير وكذلك للقول وكذلك للعطاء».
تتبع ميشيلا مارزانو، منهجًا تفكيكيًا وجينالوجيًا واضحًا، تمزج فيه بين معطيات التاريخ ووقائع العصر، مستندة في ذلك إلى إرث فلسفي عميق، لتصل إلى كشف سر أمراض العصر المتنامية نتيجة الدعاية: الرياضة، الحمية، إنقاص الوزن، شفط الدهون، التجميل وتقويم المظهر، التدخل العلاجي، جلد الذات: أفلا يختزل كل هذا الجهد العلمي في مبحث الجينات خللاً ما؟ لماذا كل هذا الهوس حول الاختبارات الجينية لإثبات انتساب الفعل الإجرامي إلى مجرم ما، أو اختبارات الأبوة؟ لماذا كل هذا الجري وراء نزعة علموية مغالية في تحري الدقة وبلوغ الحقيقة؟
إن الحقل الدلالي الذي تستخدمه الدعاية شديد الإيحاء: فالمنتجات التي يجري إعلاء شأنها في أغلب الأحيان، هي تلك التي تتيح «النحافة حيث يشاء الإنسان وحينما يشاء»، و«حرق الشحوم بالبقاء نحيفًا»، والجمل الأكثر استخدامًا هي: «المستحضر الذي يعيد الشباب»، «المرهم اليومي الذي يحافظ على بريق وحيوية الجلد»، «المنتج الذي يكسبك عشرة أعوام في عشر دقائق». وقد صار هذا الجسد، المعتنى به، ليس رمزًا للجمال الجسمي وحسب، ولكن خلاصة النجاح الاجتماعي أيضا، والسعادة والكمال.. هل يستطيع الإنسان المعاصر، أن يحقق سعادته في مسايرة العصر، من دون التساؤل عن قيمة هذا الجسد المعذب والمستعبد؟



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.