يوسف مليطان.. حالة «داعشية» غامضة تجاوزت تأثيراتها ليبيا

أمام خلفية النزاعين السياسي والعسكري

عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا  («الشرق الاوسط»)
عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا («الشرق الاوسط»)
TT

يوسف مليطان.. حالة «داعشية» غامضة تجاوزت تأثيراتها ليبيا

عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا  («الشرق الاوسط»)
عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا («الشرق الاوسط»)

حكاية يوسف مليطان، الشخصية الليبية الداعشية المثيرة للجدل، برزت بين الدواعش ليس في ليبيا فقط، ولكن أيضًا في المركز الرئيسي للتنظيم في العراق والشام. وتوعد أربعة قادة جدد ممن جاؤوا من الخارج إلى ليبيا، أخيرًا، بالثأر له من مدينة مصراتة التي ينتمي إليها غالبية مقاتلي عملية «البنيان المرصوص» ضد داعش في سرت.
غير أن التنظيم الدموي في هذه المدينة الليبية تلقى ضربة أخرى بعد واقعة مقتل مليطان بيومين، حين وردت أنباء عن مقتل القيادي في داعش سرت، المدعو محمد غليو. ومن الملابسات ذات المغزى أن المحققين المتهورين ممن كانوا يستجوبون مليطان وهو يرتعش من البرد والخوف، سألوه عمن يعرف من القيادات الداعشية التي تنتمي لمصراتة وتقيم في سرت، فقال إن من بينهم غليو، وذكر أنه مصاب بطلقة رصاص في صدره، وأنه قد يكون قد فارق الحياة.
تعد واقعة مقتل غليو، وهو أيضًا في الثلاثينات من العمر، نقطة مهمة في مسيرة الليبيين للقضاء على داعش في هذه البلاد التي تعاني من الفوضى منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011. فقد أسس غليو البؤرة الرئيسية لدواعش مصراتة، وانتقل بهم فيما بعد إلى سرت مصطحبا معه مليطان. وهناك أخذ على عاتقه مهمة استقبال الداعشي البحريني الأصل، تركي البنعلي، الذي تدور شكوك حول مقتله هو الآخر في هذه الأيام الأخيرة من معارك سرت.
أما مليطان فكان من بين شباب مصراتة المعجبين بلحية غليو ونظاراته الطبية وطريقته في تحدي كبار قادة مصراتة ممن يجنحون إلى التفاوض السياسي بدلا من الاحتراب وذلك منذ عام 2013. أي قبل سنة من ظهور داعش في ليبيا. كان مليطان وهو يدور في شوارع مصراتة يتوقف ليستمع إلى غليو وخطبه التي كان يلقيها هنا وهناك بألفاظ حادة ولهجة حماسية، فهو قيادي في «كتيبة الفاروق» التي كانت قد أعلنت ولاءها في ذلك الوقت لتنظيم «أنصار الشريعة» وقادتها الذين كانوا وقتها يتحكمون في مدينتي درنة وبنغازي بشرق ليبيا.
كانت ميليشيات مصراتة مشغولة في عامي 2013 و2014 بالنزاع السياسي حول حكم البلاد. وتخوض ضمن تحالف «فجر ليبيا» معارك طاحنة مع منافسين لها من ميليشيات مدينة الزنتان حول مطار طرابلس الدولي. وحين هدأت الأمور بعض الشيء أدرك بعض زعماء مصراتة أنه يمكن الاستفادة من كتيبة الفاروق في مواصلة الحرب في الشرق ضد الجيش الوطني الذي يقوده خليفة حفتر، وضد البرلمان الذي خسر فيه «تيار الإسلام السياسي» معظم مقاعده التي كان يستحوذ عليها في البرلمان السابق (المؤتمر الوطني).
يقول «أبو مسعود» وهو أحد قيادات فجر ليبيا التي حاربت في واقعة مطار طرابلس إن كتيبة الفاروق كانت تميل إلى التطرف منذ البداية. وحين بدأت محاولات استثمار الانتصار في حرب طرابلس سياسيا، رفضت ذلك. كان لدى قادتها، ومنهم مليطان وغليو، رغبة في مواصلة الحرب من أجل ما يؤمنون به، وهو تطبيق الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم. لهذا رأى البعض أن يتم استثمار هذا في الضغط على الجيش وعلى البرلمان. ولم يكن تنظيم داعش قد ظهر في سرت بعد.
ويضيف أنه باختصار جرى دمج كتيبة الفاروق في القوات التي كانت تحاول في أواخر 2014 وحتى بداية 2015، السيطرة على الحقول النفطية الموجودة في الشمال الأوسط من البلاد، أي إلى الشرق قليلاً من مدينة سرت. وكان البعض يرى أنه يمكن لكتيبة الفاروق أن تكون مصدر عون في الحرب التي يشنها تنظيم أنصار الشريعة في بنغازي ضد الجيش الوطني والبرلمان. كما كان بعض قادة مصراتة يسعون لترويض قادة الكتيبة. وعقدوا معهم، داخل معسكراتهم، اجتماعات، وألقوا عليهم محاضرات ودروسا دينية وغيرها.
وبعد محاولات فاشلة في السيطرة على الحقول النفطية شرقي سرت، تحولت الكتيبة إلى مصدر تهديد لمصراتة نفسها. وجرى طرد عناصرها الموجودة في مصراتة إلى مدينة سرت. وكانت أولى العمليات التي شاركت فيها قتل 12 من جنود الصاعقة التابعين للجيش في تلك المنطقة.
ويقول شهود كانوا على صلة بعدد من متطرفي ليبيا، إن مليطان وغليو انتقلا إلى سرت. وهناك جرى الإعلان عن أن المدينة أصبحت مركز داعش في ليبيا. ثم انقسمت كتيبة الفاروق إلى قسمين: قسم استمر على موالاة «أنصار الشريعة» دون أن يبايع داعش وهذا القسم انتقل إلى بنغازي. وقسم أصبح على صلة مباشرة بمركز قيادة داعش في العراق والشام، وهذا رسَّخ قدميه في المدينة وضم إليه كل عناصر «أنصار الشريعة» الذين بايعوا داعش، وبناء عليه جاؤوا من درنة وبنغازي وتونس ومصر وغيرها للإقامة في المركز الداعشي الجديد.
ومع منتصف العام الماضي أصبح داعش يسيطر على سرت بشكل كامل. وظهر مليطان في وسط المدينة بلحية طويلة ولقب جديد هو «أبو همام»، وفقًا لروايات مستقاة من شهود عيان فروا وقتها من سرت وأقاموا في بلدة أجدابيا الصحراوية ناحية الشرق. لكن الخلاف يتعلق بالدور الذي كان يقوم به الرجل. فالبعض شاهده في حلقات الدروس الدينية التي كان يلقيها البنعلي أثناء زياراته إلى سرت. والبعض يقول إنه أصبح في سرت من المقربين من غليو ومساعديه. ويقول بشير، أحد أبناء سرت ممن نزح مع أسرته وأصبح يقيم في أجدابيا: «أبو همام» لم يكن متفقها في الدين لكنه كان محبوبا وسط دواعش المدينة. أحيانا يؤم المصلين في المسجد. وأحيانا يقضي في النزاعات بين الناس، وأحيانا يصدر أحكاما بالإعدام. وأحيانا نسمعه في إذاعة سرت الداعشية يلقي الخطب الحماسية.
وحين دخل «المجلس الرئاسي» المنبثق من حوار الصخيرات لتولي زمام الحكم من طرابلس في نهاية مارس (آذار) الماضي، كان يبحث، على ما يبدو، عن عملية كبيرة يثبت بها وجوده. وكانت العملية التي جرى تجهيزها على عجل، هي محاربة داعش في سرت بداية من شهر مايو (أيار) الماضي. وأثناء التحضير للحرب تبين أن نفوذ كتيبة الفاروق لا يقتصر على سرت بل إن لها متعاطفين موجودين على رؤوس كتائب كانت متمركزة في معسكر الأبرار في بلدة تاورغاء المهجورة من السكان. وهي بلدة تقع على مشارف مصراتة.
وبداية من يوم 20 من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بدأ نشاط كتيبة الفاروق (الفرع الداعشي) ينشط في داخل مصراتة نفسها، وأصبح هذا مصدر قلق كبير، ومصدرا للخلافات بين عدد من قادة المدينة التي تعد من المدن الثرية الواقعة على البحر المتوسط. وشوهد غليو ومعه مليطان وهما يتجولان فيها مع أحد قادتها الكبار. وكان هذا الأمر مثار غضب من جانب مسؤولين عسكريين في مصراتة، خصوصًا أن الكتيبة كانت قد حاصرت القاعدة الجوية في المدينة لمنع الطيارين من الإقلاع بالطائرات الحربية لقصف داعش في سرت.
ووفقًا لشهادة من مصدر عسكري، فإن دخول الرجلين إلى مصراتة التي يتساقط أبناؤها قتلى في الحرب ضد داعش سرت، كان أمرًا مستفزًا. وقال الرجل: «أبلغنا أحد القيادات القبلية التي كانت ترافق غليو ومليطان في ميناء مصراتة البحري في شهر أكتوبر، وقلنا له هل أنت لا تعلم أن الرجلين اللذين معك من قيادات داعش في سرت.. هل أنت لم تر خيام العزاء التي نصباها وسط مصراتة على قتلى قيادات داعش في العراق وسوريا؟». وكانت إجابة القيادي القبلي قوله: «إذا كانت لديكم كل هذه المعلومات عنهما فلماذا لم تلقوا القبض عليهما؟». ويضيف المصدر العسكري أن «غليو ومليطان اختفيا فجأة مرة أخرى من مصراتة وعادا للظهور لمواصلة الحرب ضدنا في سرت». ويشير إلى أن مليطان كان يبدو عليه المرض والهزال في تلك الأيام.
وينتمي مليطان إلى قرية صغيرة في منطقة قصر أحمد المطلة على ميناء مصراتة البحري. وكان قبل الانتفاضة المسلحة المدعومة من حلف شمال الأطلسي «الناتو»، التي أطاحت بحكم القذافي، يعمل موظفا بسيطا في شركة في المدينة. والتحق بالانتفاضة وشارك في محاربة القوات التي كانت تدعم القذافي. وبعد ذلك ظهر مع كتيبة الفاروق وانتقل معها إلى سرت. ويضيف أحد القيادات الأمنية في طرابلس حوله أنه يعد من قيادات الصف الثاني في داعش، وأنه ليس لديه الكثير من المعلومات كما يعتقد البعض ممن يقولون إن عملية قتله كانت لإخفاء علاقات متداخلة بين قادة من مصراتة وقادة من داعش. ويضيف أن أكبر دور لعبه مليطان خلال الشهور الثلاثة الماضية يتلخص في توريد المؤن.
ويشير مصدر آخر على صلة بقوات «البنيان المرصوص» إلى أن مليطان كان يورد للدواعش أسلحة وذخائر وسيارات من مصراتة، وكان صندوقا متحركا ممتلئا بالمعلومات الثمينة؛ ولذا فقتله دون استجواب خطأ كبير. وكان الرجل اختفى عن الأنظار بداية من منتصف شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ولم يظهر لا في سرت ولا في مصراتة، إلى أن بث مقاتلون مقطع فيديو على الإنترنت مطلع الشهر الحالي يظهر فيه مرتديًا بنطلونا وعاري الصدر وهزيلا وخائفا. كان مقيد اليدين والقدمين بين أيدي عناصر غاضبة مما فعله الدواعش من ذبح وتقتيل وسحل وصلب لأهالي سرت منذ التمركز فيها العام الماضي، بالإضافة إلى سقوط مئات القتلى من قوات «البينان المرصوص» خلال الشهور الأخيرة.
وسأله أحد المقاتلين «مَن على حق.. نحن أم أنتم؟» فأجاب: «يا شيخ عالجني فكريًا.. أنا أسير لديك يا شيخ.. راجعني فكريًا». ونهره مقاتل آخر وسأله: «من على حق؟ أجب». فقال مليطان: «أنا أرى أن بعضًا مما تقوم به تنظيم داعش على حق، مثل معاقبة شارب الخمر بالجلد وقطع يد السارق. وهناك أمور أخرى نختلف عليها. هات لي شيخ يقنعني ويراجعني فكريًا».
فقال له ثالث: «كلنا شيوخ». ثم سأله آخر: «قل لنا ما رأيك في قتل الناس وتصليبهم الذي تقوم به (داعش)؟ هل أنتم تقتلون الأسرى؟». فأجاب قائلا: «ما أعرفه من علوم شرعية أن الأسير يمكن أن يُقتل، ويمكن أن يُفدى، ويمكن أن يتم تبادله مع أسرى آخرين».
لا أحد يريد أن يكشف على وجه الدقة كيف جرى القبض على مليطان. ولكن تقول إحدى الروايات إنه خرج من بين أنقاض ضاحية الجيزة البحرية في مدينة سرت هو وزوجته وأطفاله، حيث سلموا أنفسهم إلى قوات «البنيان المرصوص». وتوضح رواية أخرى أن الرجل أصيب في قدميه أثناء الاشتباكات في ضاحية الجيزة، ومن ثم ألقت القوات القبض عليه. وتزيد رواية ثالثة أنه كان قد ترك سرت منذ منتصف الشهر الماضي واختبأ في بيته بقصر أحمد، إلى أن جرى القبض عليه واقتياده إلى سرت لكي يُقتل فيها في المكان نفسه الذي كان يقتل فيه الناس. ولقد جرى ضرب مليطان وتعذيبه قبل قتله بالسكين في ميدان الزعفران وسط سرت.
ويقول مصدر في قوات «البنيان المرصوص» إنه فتح تحقيقًا في الواقعة لمعرفة ما إذا كان القبض على الرجل وتعذيبه وقتله جرى بأيدي القوات التابعة للمجلس الرئاسي، أم أنها عملية انتقامية من ذوي ضحايا داعش. ويضيف أنه «يلقى القبض عليهم أو تسليم أنفسهم يقتادون إلى جهات التحقيق للاستفادة مما لديهم من معلومات تساعد في تخليص ليبيا من خطر التنظيم الدموي».
هذا، ويخشى قادة عسكريون من التكتيكات الجديدة لتنظيم داعش في ليبيا. ووفقًا لمصدر عسكري فقد انتقل عدة مئات من الدواعش من سرت إلى مناطق تقع على تخوم طرابلس من بينها منطقة الخُمس ومنطقة مسلاتة، مع ظهور قيادات جديدة يبدو أنها حلت محل القيادي السابق المعروف باسم «المدهوني» وهو ليبي يحمل جواز سفر عراقي منذ عام 2012، وكان على صلة مباشرة بمركز قيادة التنظيم في العراق والشام.
ويضيف مصدر عسكري أن «المدهوني» سافر إلى العراق قبل ثلاثة شهور ولم يرجع، بينما جرى رصد تحركات لأربع قيادات داعشية جديدة هم: لبناني يدعى «أبو طلحة»، وتونسي يلقب بـ«أبو حيدرة»، وصومالي اسمه «أبو إسحاق»، وليبي يلقب بـ«أبو مصعب».. وكان هذا الأخير يحارب في العراق تحت اسم «أبو حذيفة الليبي». ويشير المصدر إلى أن هؤلاء عقدوا اجتماعًا في منطقة النقازة القريبة من طرابلس، وبحثوا مستقبل التنظيم وإعادة انتشاره في ليبيا، وبدوا غاضبين من خسائر سرت ومن الطريقة التي جرى بها تصفية مليطان.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.