تولستوي ينتمي إلى جنس العباقرة الطيبين

حرر أقنانه وفتح المدارس في الأرياف لتعليم أبناء الفلاحين

تولستوي عام 1908 أربعة أشهر قبل ميلاده الثمانين
تولستوي عام 1908 أربعة أشهر قبل ميلاده الثمانين
TT

تولستوي ينتمي إلى جنس العباقرة الطيبين

تولستوي عام 1908 أربعة أشهر قبل ميلاده الثمانين
تولستوي عام 1908 أربعة أشهر قبل ميلاده الثمانين

هل يمكن أن نقدم لمحة عامة عن حياة تولستوي والمشكلات الأدبية والفلسفية والسياسية التي شغلته طيلة حياته كلها؟
أولا ولد تولستوي عام 1828 في عائلة كبيرة تنتمي إلى طبقة النبلاء الروس، وذلك على عكس ديستوفيسكي المتوضع الأصل والفقير. فقد كانت لهم أراضٍ واسعة ككل الإقطاعيين في ذلك الزمان. وأبوه كان يحمل لقب الكونت، أما أمه فكانت من طبقة الأمراء، وهذا يعني أنه كان من أصل عالي المستوى جدا في روسيا، بل ويجيء في المرتبة التالية للعائلة المالكة. وقد ماتت أمه وهو في الثانية من عمره فربته عماته وخالاته ونساء العائلة بشكل عام.
وبالتالي، فتولستوي لم يتعرف إلى أمه أبدا؛ لأنه كان في سن صغيرة جدًا ولا يمكن أن يتذكر شيئا منها. وقد أثر ذلك على أدبه لاحقًا بشكل مباشر وغير مباشر. وفي عام 1837، أي عندما كان في التاسعة من عمره، توفي والده أيضًا، وكان ذلك بعد انتقال العائلة إلى موسكو مباشرة قادمين من الريف. وهكذا أصبح يتيم الأب والأم. ولكنه لم يعان من أي مشكلات مادية بسبب غنى العائلة وثروتها الطائلة.
وفي سنة 1844 دخل إلى الجامعة، والشيء المدهش هو أنه اختار قسم الآداب العربية والتركية، قبل أن يتحوّل إلى كلية الحقوق في العام التالي. ولكن التدريس الجامعي السائد في تلك الأيام لم يعجبه فهجر الدراسة وعاد إلى الريف للاهتمام بمزرعته الكبيرة في منطقة ساحرة الجمال.
ثم انخرط في صفوف الجيش في منطقة القوقاز وخاض الحروب وعرَّض نفسه للخطر أكثر من مرة. وفي الوقت ذاته راح يكرِّس نفسه للكتابة الأدبية؛ فنتجت من ذلك ثلاثيته التي يتحدث فيها عن طفولته، ومراهقته، وشبابه الأول. وبالتالي فقد سبق نجيب محفوظ إلى كتابة الثلاثيات.
وكان الأدب بالنسبة له عبارة عن أداة للتحليل النفسي للذات، للغوص في أعماق الذات. فهذا شخص مهووس بالاستبطان الداخلي لمعرفة سبب الصراع الذي يشعر به بين مبادئه الأخلاقية العالية من جهة، واستسلامه لعالم الشهوات المادية المضادة للمثل العليا من جهة أخرى.
ثم استقال من الجيش عام 1856 لكي يتفرغ للأدب كليًا. وعاد إلى روسيا من منطقة القوقاز بعد موت القيصر الرجعي نيقولا الأول وصعود قيصر إصلاحي على سدة السلطة هو ألكسندر الثاني. وراح تولستوي يفكر في تحرير أقنانه، أي عبيده الذين يشتغلون في أراضيه الواسعة. وهذا أكبر دليل على مدى كرمه الحاتمي، وشعوره بالنزعة الإنسانية العميقة تجاه الفقراء والمعذبين في الأرض. وراح ينشئ المدارس الابتدائية في الريف لتعليم أطفال الفلاحين الروس. ومعلوم أن الأمية كانت منتشرة آنئذٍ في صفوفهم بنسبة 90 في المائة على الأقل.
والواقع أن تولستوي منذ بداية شبابه كان مهمومًا بتربية الشعب وترقيته ورفع مستواه عن طريق التعليم والتثقيف. وقد كتب مرة يقول: إن سعادتي الشخصية لا يمكن أن تكتمل إلا بسعادة الآخرين. وما دام الشعب في أغلبيته الساحقة فقيرًا معدمًا فإنني لن أكون سعيدًا أبدا.
لقد صدم تولستوي النبلاء الآخرين بتوجهاته الإنسانية هذه، ولم يفهموا سبب اهتمامه بالفلاحين الجهلة والأغبياء، على حد تعبيرهم. وكانوا يعتقدون أن الله خلق العالم وقسمه إلى قسمين: قسم النبلاء الأشراف المحظوظين، وقسم بقية الشعب من الفلاحين، وهؤلاء ينبغي أن يخدموا النبلاء عن طريق العمل في الأرض، وأما النبلاء فلا يشتغلون ولا يتعبون لأنهم من جنس وبقية البشر من جنس آخر.
هذه الطريقة في رؤية الأمور كانت أبعد ما تكون عن عقلية تولستوي، بل وكان يحتقرها كل الاحتقار. وكثيرًا ما نقم على طبقة النبلاء والمجتمع الروسي بسبب ذلك. ثم سافر عام 1857 إلى أوروبا الغربية لكي يكتشف الحضارة، ومعلوم أنها كانت أكثر تقدمًا من روسيا بكثير ولا تزال. وقد زار ألمانيا، وفرنسا، وسويسرا على التوالي. واطلع هناك على المدارس الأدبية والفكرية.
وفي الوقت ذاته، راح يطلع على مناهج التربية والتعليم السائدة في مدارس البلدان المتحضرة. وكان هدفه من ذلك بالطبع هو الاستفادة منها ونقلها إلى المدارس الروسية التي أنشأها لتعليم أبناء الفلاحين. ودعا إلى تعميم تجربته على كل أنحاء روسيا. وقال بالحرف الواحد: سأسخّر كل ثروتي وطاقاتي من أجل تثقيف الشعب وتعليمه. وحتى لو عارضتني السلطة كلها فسأسير في مشروعي حتى النهاية. وحتى لو وقفت في وجهي كل روسيا فلن أتراجع عن هذا البرنامج.
في عام 1869 أنهى ليو تولستوي كتابة روايته الكبيرة الأولى: «الحرب والسلام»، وكانت كتابتها قد استغرقت منه خمس سنوات، وفي عام 1877 أنهى روايته العظيمة الثانية: «أنا كارنينا». وبعدئذ شعر وكأنه أصبح على حافة الانهيار العصبي، ويقال أنه فكر جديا في الانتحار.
ثم تراجع عنه في آخر لحظة. لماذا فكر في الانتحار؟ لأنه شعر بعبثية الحياة ولا معنى الوجود على الرغم من كل غناه وثروته وموهبته وعبقريته. وراح يحسد الفلاحين البسطاء الذين يشتغلون في أراضيه لأنهم مؤمنون بالدين إيمانًا راسخًا، ولا يمكن لهذه التساؤلات الميتافيزيقية أن تخطر على بالهم لحظة واحدة. فالفناء أو العدم الذي كان يحس به تولستوي أو يخشاه بعد الموت لا وجود له بالنسبة لهم. مشكلتهم الوحيدة تأمين لقمة الخبز فقط. ولهذا السبب عاد إلى الدين من جديد، بل وراح يلزم نفسه بتأدية الطقوس والشعائر المسيحية طيلة عامين (1877 ـ 1878) لكي يحمي نفسه من إغراء الانتحار. فالدين هو العزاء والمستعصم في مثل هذه الظروف.
ولكنه اكتشف بعدئذ أن الكثير من الشوائب لحقت بالدين على مر العصور، ولهذا السبب تخلى عن القشور السطحية واكتفى بالجوهر. وقال إن الدين يتمثل في شيئين أساسيين: محبة الله ومحبة البشر، ولا شيء آخر، وبالتالي فلا داعي للطقوس والشعائر المرهقة.. وهكذا راح يختزل الدين إلى المبادئ الأخلاقية فقط؛ فالإنسان الذي يفعل الخير بقدر المستطاع ويتحاشى الشر بقدر المستطاع هو مؤمن عظيم الإيمان حتى ولو لم يذهب إلى الكنيسة مرة واحدة.
وعندما عاد إلى موسكو عام 1881 بعد طول غياب وجد فيها الفقر والبؤس، وبخاصة في الأحياء الشعبية والضواحي المحيطة بها. وهاله الأمر، وراح ينقم على النظام السياسي والاجتماعي السائد ليس فقط في روسيا، وإنما أيضًا في العالم كله. وراح ينادي بالمبادئ نفسها التي نادى بها جان جاك روسو من قبل. وقال إن الملكية الفاحشة للبعض هي سبب استغلال الإنسان للإنسان، وانتشار الظلم واللامساواة في المجتمع. فطبقة الإقطاعيين الأرستقراطية تملك كل أراضي روسيا، وأغلبية الشعب من الفلاحين لا تملك أي شيء تقريبًا.. فأين العدل إذن؟
وراح يؤلف كتابًا بعنوان «ما الذي ينبغي أن نفعله؟» وقد ضمنه كل أفكاره الثورية هذه. وندد فيه بهيمنة الأغنياء على الفقراء. وقال إن الكنيسة متواطئة مع الدولة والنظام القائم. فالسلطة تستخدم الدين سلاحا فاعلا لتخدير الشعب من أجل أن يقبل بواقعه المزري ولا يثور على مستغليه وأسياده الإقطاعيين. وأما العلم والتقدم التكنولوجي والحياة الرغيدة فكلها أشياء محصورة بطبقة الأغنياء، ولا يعرف عنها الشعب شيئا.
ولكن تولستوي على الرغم من إدانته لهذا النظام الجائر الفاسد في روسيا لم يوافق على أعمال الإرهاب الثورية التي ابتدأ بعضهم يقوم بها. ومعلوم أن روسيا شهدت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عمليات اغتيال كثيرة أصابت الكثير من الوزراء والأعيان، بل وحتى أحد القياصرة أنفسهم.
وكان المنظرون العدميون أو الفوضويون الروس يبررون ذلك عن طريق القول بأن الشعب يتخبط في الفقر والبؤس والمرض والجهل. وكل ذلك بسبب هؤلاء الحكام الطغاة والفاسدين. وبالتالي فيحق لنا أن نغتالهم. ولكن تولستوي بسبب ارتباطه بمبدأ اللاعنف أدان هذه التفجيرات الإرهابية ورفض تبريرها بحجة خدمة قضية الشعب. ومعلوم أنه أسس فكرة اللاعنف قبل غاندي، وربما كان هذا الأخير قد أخذها عنه. فلا توجد أي قضية في العالم مهما كانت قداستها وأحقيتها تبرر تلك التفجيرات الدموية التي تصيب المارة بشكل عشوائي كيفما اتفق.
وعلى أي حال، فقد كان تولستوي إنسانًا عظيما يمتلئ قلبه عاطفة وحنانًا تجاه الجنس البشري كله، وبالأخص تجاه الفقراء والبسطاء سواء أكانوا في روسيا أم خارجها. وقد ناضل في أواخر القرن التاسع عشر ضد المجاعة التي اكتسحت روسيا وبذل الكثير من ماله وأملاكه لتخفيف آلام الفقراء.
هكذا نلاحظ أن مشكلات تولستوي، أو بالأحرى همومه العميقة، كانت خاصة وعامة. فعلى المستوى الشخصي الوجودي كان مهووسًا بمسألة الحياة والموت وما بعد الموت ومعنى الوجود. وكان مثل أستاذه جان جاك روسو مهووسًا بمسألة الأصالة والصدق مع الذات والاقتراب من الطبيعة والبعد عن الاصطناع الذي تتميز به حياة المدن.
وفي بعض الفترات وقع في إغراء الوثنية أو وحدة الوجود والانصهار في الطبيعة ثم عاد إلى المسيحية، ولكنه بعد أن عاد إليها راح ينظفها من الشوائب والخرافات والأوهام التي لحقت بها على مر العصور وغطت على الجوهر. فجوهر الدين في نهاية المطاف يتمثل في مبادئ عدة بسيطة جدًا: حب الآخرين، ومساعدة الفقراء والمحتاجين بقدر الإمكان، والتعاطف مع المظلومين والمضطهدين، وتحاشي الشر وفعل الخير بقدر الإمكان. والباقي تفاصيل. وطبعا، محبة الله وطاعته وعبادته هي المبدأ الأول للدين.
هذا هو الدين الحق في نظر تولستوي، وقد حاول على مدار حياته الطويلة تطبيق هذه المبادئ، ولم يكتف بالنص عليها نظريًا أو رفع شعاراتها أمام الناس. فقد حرر عبيده أو أقنانه قبل جميع البشر، وفتح المدارس في الأرياف الروسية لتعليم أبناء الفلاحين، وصرف من جيبه الخاص على مشروعات خيرية كثيرة. ليس غريبًا إذن أن يكون تولستوي قد أصبح أحد أعمدة الأدب الروسي. فلا أحد يستطيع أن ينافسه على القمة إلا ذلك المجنون الهائل ديستوفيسكي. بل ويمكن اعتباره إحدى منارات الأدب العالمي أو الكوني وليس فقط الروسي. فعندما نذكر مشاهير الطبقة الأولى نجد أسماء: شكسبير، سيرفانتس، بلزاك، ديستوفيسكي، تولستوي، جان جاك روسو، دانتي، أبو العلاء المعري، نجيب محفوظ، طه حسين، الخ... إنه ينتمي إلى ذلك الجنس النادر في التاريخ البشري: جنس العباقرة الطيبين لا عباقرة الشر وأبطال الجريمة والحروب وسفك الدماء.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!